الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

اختزالات بصرية لحالة من الرحيل الأبدي

اختزالات بصرية لحالة من الرحيل الأبدي
15 يونيو 2011 19:54
لفت غموض الغجر الفنانة التشكيلية الأردنية ندى عطاري، فقررت أن تقدم للمتلقي صورة عن عالمهم الغرائبي وارتحالهم الأبدي من خلال مشروع فني أطلقت عليه اسم “غجريات”، ويضم 28 لوحة هي حصيلة رحلتها في هذا العالم الذي يجهله كثيرون أو يحملون عن أفراده أفكاراً نمطية وربما مغلوطة. وتركز غالبيتها على ما يطلق عليه البعض عودة إلى الجذور وتصوير واقعي للمرأة الغجرية بأزيائها وحياتها ودورها في المجتمع. ترصد التجربة طباع الغجريات وحالاتهن المختلفة من خلال 28 لوحة غرافيكية محفورة على الخشب أو الزنك أو الأعمال التي تستخدم تقنية الطباعة، ولا يجد المتلقي صعوبة في تلمس الحفاوة البادية في الأعمال بهؤلاء الغجريات وعوالمهن وثيابهن وأزيائهن وجدائلهن وما يحيط بهن من معالم الحياة، بحيث تبدو الفنانة مسحورة أو مأخوذة بهن إلى درجة الافتتان. ترى ما الذي أخذ ندى عطاري إلى عوالم الغجر وحكاياتهم وتفاصيلهم المغيبة عن المجتمعات التي يعيشون فيها؟ ما الذي جعلها تقوم بهذه المقاربة الملآى بالأسرار والغموضات والتي تتقاطع مع أعمال إبداعية متعددة قارب مبدعوها من خلالها عوالم الغجر بل وما يقع عليهم من ظلم بين في حالات كثيرة، وما تثيره سيرتهم من مشكلات الانتماء وهموم المواطنة وهواجس التاريخ والجغرافيا؟ تقول ندى عطاري عن مشروعها لتوثيق حياة الغجر: “كثيراً ما كنت أرى الغجر يتجولون بثيابهم الغريبة وأشكالهم المختلفة مما لفت نظري وتعلقت بهم، فأخذت أتابعهم أينما ذهبوا وأراقب تجمعاتهم في منطقة وادي السير (غرب عمّان) ودير غبار التي تعتبر من الأحياء الراقية بالعاصمة الأردنية وطريق مطار الملكة علياء الدولي، ثم أحببت أن أوثق حياتهم اليومية بواقعية ودون ماكياج من خلال أعمالي الفنية. لقد أردت أن يشاهد المتلقي أو على الأصح رواد المعرض مدى جمال هذه الفئة من الناس وعفويتهم التي تظهر من خلال حياتهم البسيطة وجمال الألوان التي يرتدونها وغرابة التناسق اللوني الذي يثير الانبهار رغم بساطته”. وتضيف: “من خلال الأعمال حاولت إيصال رسالة مباشرة للمتلقي، مفادها أن الغجر عالم قد يبدو غامضاً لنا؛ لذلك حاولت أن أقترب وأجسد جمال الروح العفوية والألوان المستخدمة التي قد تميزهم عن غيرهم فهم، كما رأيتهم يميلون للألوان المزركشة التي تشبه لوحة فسيفسائية وهم يعتاشون من جمع قطع الحديد الخردة ويبيعونها للتجار”. لم تكن مهمة عطاري سهلة، لكنها تحدت الصعاب التي توجزها في الصعوبة اللغوية، حيث يتحدثون بيهم باللغة التركية، وكثرة ارتحالهم إما بضغوط حكومية أو بسبب أصحاب الأراضي التي يقيمون خيامهم المزركشة عليها، فهم يرتحلون على الدوام كل يومين أو ثلاثة، وصعوبة الدخول إلى عالمهم والاحتكاك بهم يضعون جداراً صلباً مع الآخرين ربما حفاظاً على سرهم ونمط معيشتهم وهي بالمناسبة حزينة وبائسة كما وجدتها. تزاوج عطاري في أعمالها بين الريشة والجرافيك، وهي تعتبر هذه التقنية “تجربة جديدة”، تقول إنها “قررت أن تخوضها عبر مشاركتها في ورشة عمل لتقنية مونو برنت “monoprint”. وتعلق على الحضور البارز للمرأة في لوحاتها قائلة: “كما ترى، فإن النسوة على اختلاف أعمارهن بطلات؛ لأنني أردت أن نتذكر دائماً أن المرأة نصف المجتمع، والمرأة لها خصوصية في مجتمع الغجر، إذ أنها تقوم بكل الأعمال خاصة جمع خردة الحديد من أحياء عمان فيما يبقى الرجل قابعاً في البيت أو يتفقد النسوة في ساعات المساء ليساعد في نقل الخردة، فهي ذات حضور قوي وفاعل”. وبشأن غلبة الحيرة والتردد وعدم اكتمال وجوه نسائها، أوضحت أن المجتمع الغجري يغلفه الغموض، كأن جداراً عالياً يقف بيني وبينهم لذلك ترى الشخصيات في لوحاتي غامضة لا تظهر ملامحها بوضوح ونعجز عن فهمها. ومن خلال ألوان باردة في كثير من اللوحات كنت مرآة لهن فقط، أعكس ما أراه وأصوره بتماسكه وخصوصيته وجمالياته؛ ولذلك ترى أن البطل في لوحاتي ليست المرأة المنكسرة أو الضعيفة أو المهمومة أو المستسلمة، بل هي المرأة القوية التي تقف بشموخ تعمل دون كلل وتعيل عائلتها محافظة على تماسك الأسرة وديمومتها. وفي تعليقه على هذه التجربة التي عرضتها الفنانة مؤخراً في رابطة الفنانين التشكيليين الأردنيين في العاصمة الأردنية عمّان، قال الدكتور عرفات النعيم رئيس قسم الجرافيك بكلية الفنون والتصميم في جامعة الزرقاء ومسؤول العلاقات الخارجية في الرابطة، إن أعمال الفنانة ندى عطاري “تمتاز بالاختزال البصري لمفردات الواقع لتجسيد حالة إنسانية تتناول معاناة وآمال شريحة من المجتمع الإنساني لطالما كانت على الهامش، وهذا يعكس الدور الاجتماعي للفنان والتزامه بقضايا المجتمع والتفاعل معها”. ورأى النعيم أن الفنانة في هذه الأعمال الجرافيكية “تتجاوز ثلاث تقنيات أساسية هي الحفر على الخشب والمعدن والطبعة الأحادية، حيث تواجه الفنانة الواقع وهذه الفئة من الناس وتجسدها بتصويرها للمرأة لأهمية دورها ورمزيته في المجتمع. وكغيرها من الفنانين الشباب، تسعى لإيجاد لغة بصرية خاصة بها نجدها أحياناً تشخيصية، وأحياناً أخرى تجسيدية وتلقائية مباشرة في المعالجة. وأرى في تجربتها نواة لبحث بصري جاد وموهبة واعدة يمكن أن يكون لها أبعاداً أخرى مع الاستمرار في البحث والتجريب”. أما التشكيلي عبد المجيد حلاوة، فيرى أن عطاري “بتأثيرات واقعية وشبه واقعية تسعى في تجربتها إلى كسر الحواجز بخطوط جرافيكية ومساحات لونية تعبر عن المضمون الإنساني من خلال بحث بصري مستمر وإثراء لمساحة العمل بتقنيات الحفر على الخشب”، مشيراً إلى أن الخط واللون يشكلان المفرد الأساسي في بناء العمل الفني وإكسابه زخماً وعمقاً يمنحانه جماليات خاصة تثري الواقع”. ثمة في الأعمال التي تشكل جسد هذا المشروع الفني ما يأخذك إلى مكانات الروح القصية، إلى الخفي والمتوتر والمخبوء في تلك الحياة الملونة بالأحلام والأمنيات، وعبر اللون الذي يتشكل ويتثنى ويتموج على شعورهن أو صدورهن تلمح أطياف مغترباتهن وأسفارهن في الزمان والمكان. فالغجريات لسن “موديل” جمالي يرسمه الفنانون ولا عيوناً واسعة جميلة يزينها خط الكحل الأسود، ولا وجوهاً موشومة بزخارف الزينة التي عهدناها في بعض الغجر، بل نساء ينطقن بالشقاء والعذاب الذي يقاومنه بجمالهن الداخلي بدءاً من الملابس الملونة وانتهاء بالخيام المزركشة التي تبدو بالنسبة لساكنيها البيت والوطن والحياة.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©