الخميس 18 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

قوة الثقافة الناعمة

قوة الثقافة الناعمة
16 نوفمبر 2016 19:51
ترجمة وإعداد: أحمد فرحات خلال مقابلة صحافية مع محطة سي.بي.إس (C.B.S) في العام 2010، اعترفت هيلاري كلينتون بوجـود لحظات تكون فيها «الموسيقى أقـدر على نقل القيم الأميركية من الخطاب، مهما كان هذا الخطاب قوياً، عسكرياً وسياسياً». وبذلك يُسـتعار بث وانتشار رسالة سياسية مع نفوذها وتأثيرها على كثرة كاثرة من الأصوات؛ وهـذه الأصوات ليست سوى الصدى لإحدى الأواليات التي يسـعى كل حائز للسـلطة على رعايتها وتعهـدها: المشــروعية. فإذا جاءت هـذه المشروعية «من تحت»، كما يشـاء الازدهار الذي تشهده الحداثة الديموقراطية، تكون الأمور قد قطعت أشواطا تمكينية لا بأس بها على مستوى جذب الجمهور؛ إلا أن رعاية هذه «المشروعية» وصونها، وتعهـّدها، ينبغي أن تكون «من فوق»، عبر اسـتخدام القادة السياسيين لمختلف الأجهزة والتدابير المتعلقة بها. وهـذا البحث عن الرضا والقبول، هو المقابل لفكرة «القوة الناعمة» التي طالما نظّر لها جوزف ناي المفكر الأميركي المعروف. وفكرة «القوة الناعمة»، هي أبعـد من أن تُجسِّد على الصعيد النظري مفهوماً علميّاً؛ فقـد جرى اســتخلاصها في مطلع سـنوات 1990، وفي سياق كان يتصف بنهاية القطبية الثنائية. كان هـدف جوزيف ناي، وهو ينقض كتاب بول كيندي «نشـوء القوى العظمى وسقوطها»، الذي أصدره في نهاية ثمانينيات القرن الماضي، هـدفاً مزدوجاً: فهـو أولاً، يريـد توصيف طفرات مفهوم القوة أوالجبروت؛ لأنـه يرى أنـه لم يعـد بالإمكان تناول مثل هذا المفهوم بمصطلحات كمية حصراً، أي على أساس «كم» النمو الاقتصادي أو الحجم السكّاني القومي، وكذلك القدرات العسكرية. ثم إن ناي يريد، ثانيـاً، أن يبيّن أن بوسع الولايات المتحدة أن تسـتفيد كل الإفادة من القوة الناعمة، بل أكثر من هـذا، فتملّك القوة الناعمة والتحكّم بها، يمكنهما التخفيف من وطأة أطروحة تراجع الولايات المتحدة وربما أفولها. فبفضل هذه القوة، أي بفضل المكانة والمهابة والصورة والصدقيّة التي تتمتّع بها، يصير بمسـتطاع الولايات المتحدة، وقدرتها «وضع جدول أعمال سياسي يكون من شـأنه صوغ وتشكيل وتعديل الأفضليات التي يفضّلها عنها الآخـرون». راح جوزيف ناي يصقل مفهومه تحت تأثير هجمات 11 سـبتمبر، وخصوصاً إثر التدخل العسكري في العراق. وهو لا يزال يصرّ على مزيّة الإغراء والإغواء، الذي هو نقيض القسر والإكراه وتفترضه القوة الناعمة. غـير أنـه لا ينبغي لهذا الإغـراء، التركيز حصراً، على التهديدات القائمة أو المحتملة؛ فهـو يضم الحلفاء أيضاً. ويضاف إلى ذلك، أن السـجال بـدأ ينزع الى الانزياح أو الابتعاد عن المركز. هكـذا، فإن مفهوم القوة الناعمة، الذي انطلق من السجال حول الجبروت الأميركي، بدأ يحظى بالتطبيق، تدريجاً على بلدانٍ أخرى. ويقيناً أن الشكوك التي تفسـد صلابة هذا المفهوم، تظل قائمة. وهكذا، فإن جوزيف ناي لا يحسم خياره بين المقاربات التي تركـِّز على الموارد، أو على علاقات القوة الفائقة كبنية. ولكنه يلحّ على عناصر كبرى؛ أهـمها، هـو أن القوة الناعمة (وخلافاَ لتأويلٍ سـائد) لا تقابل ولا تعارض القوة الصلبة التي تشمل الموارد المادية، الاقتصادية منها والعسكرية. فبسط ونشر القوة الأولى يفترض وجود الثانية. ثم إن خصوصيّة القوة الناعمة تكمن في طريقة ممارسة الغلبة والسيطرة قبل أي شيءٍ آخـر. وهي لا تنتمي إلى القسـر والإكراه، وإنمـا إلى جاذبية يمكن أن تكتسي أنمـاطاً مختلفة: الإقناع والإغراء والإغواء؛ فالتحكّم بالوسائل العسـكرية، لم يعـد يكفي في عصر الإعلام المعولم، من أجل توطيد الغلبة وترسيخ السيطرة. والدول التي تتمتع بهـذه الأنمـاط، يمكنها أن تروّج «أفضل تاريخ» و»أحسن رواية» وتكسب الجولة و»تفوز». وهذا هـو حال الفاعلين الغربيين، ابتداء بالولايات المتحدة. لكن هل يبقى هذا «الانتصار» ويسـتمر اليوم؟ إلى أيـة تدابير يستند هذا البحث عن الرضا والسعي وراء القبول؟ أليس أن «السـحر المتكتّم» للنفوذ ومفاتنه «الصامتة»، قـد باتت بين أيدٍ أخرى غـير أيادي الدول؟ جاذبية الإبداع بين فرنسا والإمارات لا يقتصر النفوذ الدولي الذي تنشره الدول على الدوائر القيادية، فهو يضم ويجند أدوات ممـا لا زال علماء السياسة يسمونها منذ سـتينيات القرن الماضي «الدبلوماسية العمومية». والدبلوماسية العمومية هـذه تتجاوز الدبلوماسية التقليدية، التي تتّصف بالعلاقات بين نظراء سياسيين، من حيث إن هدفها هـو إعلام الشعوب في الخارج والتأثير عليها. وهي تســتخدم من أجل هذا الهـدف أقنية عدة: الثقافة والتربية من جهة، ووسائل الإعلام من جهة أخرى. برامج التربية والثقافة، هي تقليدياً الحاملات التي تفضّلها الدبلوماسية العمومية. وهكذا فإن فرنسا التي كانت تحاول التعويض عن ضعفها الاقتصادي، وأن تعكس في الوقت نفسه صورتها كقوة عظمى، كانت في الحقبة الواقعة بين نهاية القرنين التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، بين أوائل الرواد في هذا الميدان. فتعلّم اللغة الفرنسية نتج عن مبادرة خاصة، تمثّلت في إنشاء «التحالف الفرنسي l’Alliance française» في عام 1883 (أصبح مؤسسة قائمة منذ عام 2008) مع نظام داخلي مستلهم من نظام الجمعيات. وفي عام 1910، أنشـأت وزارة الخارجية مكتب المدارس والأعمال والخدمات في الخارج (ليصبح دائرة في عام 1919). وفي عام 1945 تحوّلت هذه الهيكلية لتصبح «الإدارة العامة للشـؤون الثقافية». وعلى الرغم من أن البعض يبدي قلقه من تردّي هذه الهيكليّة، إلا أن فرنسا تملك اليوم شـبكة ثقافية واسعة. وقـد جرى إنشـاء مُشــغِّل مشترك بين وزارتي الثقافة والشؤون الخارجية في عام 2011، هو «المعهـد الفرنسي». وهدف هذا الأخـير، هو تعـزيز جاذبية الإبداع الفرنسي المعاصر، وكذلك إضفاء القيمة على الموارد اللامادية. ومنذ عام 2006، وإثر ما يسمّونه في فرنسا «تقرير ليفي – جوبيه»، بدأت الحكومة الفرنسية اتّباع سياسة استراتيجية ثقافية جديدة تدور حول اقتصاد اللاماديات، أو رأس المال الرمزي، وهو اقتصاد يعتمد القوة الناعمة منطلقاً له، ويستند في بعض ما يستند إليه، إلى التراث الفني والجمالي الفرنسي المتجسّد في متاحفها كاللوفر وغيره من جهة، وكذلك إلى الإرث التعليمي الراسخ بنظامه المتطوّر المناهج والمهارات، على غرار جامعة السوربون من جهة ثانية. ولقد نجحت هذه السياسة الثقافية الفرنسية كرهان استراتيجي، عرف كيف يوظّف الإشعاع الثقافي الفرنسي في مكانه، وفي أي مكان في العالم في الوقت نفسه. وفي ضوء ذلك، كان اتفاق في عام 2007، تحوّل إلى حدث ثقافي تاريخي بين حكومتي الإمارات العربية المتحدة وفرنسا، تقضي بنوده بأن يستفيد الجانب الإماراتي، ولمدة ثلاثين عاماً، من المقتنيات الفنية للمجموعة الدائمة لمتحف اللوفر (ومتاحف مركزية أخرى في فرنسا) في إطار إنشاء متحف في منطقة السعديات الظبيانية تحت مسمى متحف «اللوفر أبوظبي»، مقابل مليار يورو يدفعها الجانب الإماراتي للجانب الفرنسي. وسيقوم المتحف الإماراتي المستحدث بوضع 130 عملاً فنياً تملكها المتاحف الفرنسية الكبرى: «اللوفر»، «أوررسيه» و»مركز بومبيدو» تمثل جميعها رزمة من أهم إبداعات الحضارات البشرية، قديماً وحديثاً. وتشير المعلومات الى أن من أبرز الأعمال التي سيقدّمها متحف «اللوفر أبوظبي» لوحة لبابلو بيكاسو تُعرض للمرة الأولى في العالم، أي لم يسبق للمتاحف الفرنسية نفسها أن عرضتها، وهي لوحة بتقنية الكولاج تمثل حفيدة القيصر الروسي ألكسندر الثاني. وهناك لوحات للكبار: إدوار مانيه وبول غوغان ورينيه ماغريت وبول كلي، فضلا عن لوحة بيلليني الشهيرة «العذراء والطفل» من عصر النهضة.. وغيرها. وهناك أعمال نُصُبية تعود الى القرن الثاني، وتمثّل أكثر من تمثال لبوذا، وأخرى تعود إلى القرن العاشر كتمثال الآلهة الهندوسية «شيفا»... إلخ. طبعاً، هذه الاتفاقية الثقافية الإماراتية - الفرنسية الكبرى، جاءت في منتهاها لمصلحة دولة الإمارات، بشهادة الخبيرة اللبنانية باقتصاد المعرفة د. تهاني سنديان؛ فمن وجهة نظرها، تُظهر الاتفاقية، أولاً، مستوى النقلة التنموية الحضارية الكبرى التي تضطلع بها إمارة أبوظبي، واستطراداً دولة الإمارات، حيث يجيء الاستثمار بالفن والإبداع هنا جسراً جديداً من نوعه في عالم الاستثمار العولمي، يمنح البلد الذي يقدم عليه مرتبة معنوية وثقافية سامية لا تقدر بثمن. كما تظهر الاتفاقية ثانياً، أن دولة الإمارات تتجه بالفعل إلى قيام مجتمع المعرفة فيها، وهو المجتمع الذي يؤكد دوماً على النفاذ الحر الى المعرفة والثقافة بتجلياتها كافة، ومن ثمّ تبادلها والاستفادة منها بلا حدود. وتضيف د.سنديان أن أحد أوجه تعدّدية الاستفادة للإمارات من هذه الاتفاقية الثقافية الاستثنائية، يقوم على الاستفادة المادية أيضاً، نعم المادية، وذلك من قلب توهّج الحدث اللامادي العولمي نفسه. فلو افترضنا أن متحف «اللوفر أبوظبي» سيفتح أبوابه للزوار برسم مادي زهيد على مدار 30 سنة، هي مدة إعارة اللوحات نفسها للمتحف الظبياني، فستكون النتيجة المادية التي تحصّلها الإمارات هنا بالتأكيد متجاوزة ربما أكثر بكثير لما دفعته من مال للجانب الفرنسي. لكن حسابات إمارة أبوظبي هنا، هي في مكان آخر تماماً.. فهي تقوم على تصوّر رمزي فائق الأهمية والصدارة، عماده قيام نهضة، بل فلسفة نهضة إماراتية حديثة فريدة من نوعها، ليس على مستوى المنطقة العربية والآسيوية فقط، وإنما على مستوى العالم برمته. وإذا ما أخذنا مشروع جامعة السوربون باريس – أبوظبي، فهو الآخر، يُعدّ أول مشروع فرنسي للتعليم العالي يفتح فرعا له في منطقة الخليج العربي، وأول فرع له خارج فرنسا. وقد فتح سوربون أبوظبي أبوابه للتعليم العالي منذ عام 2006، مستقبلا آلاف الطلبة من مختلف الاختصاصات الأكاديمية.. من العلوم الإنسانية إلى القانون والاقتصاد والسياسة والعلاقات الدولية، فضلاً عن الرياضيات والفيزياء وعلم الأحياء...إلخ. ولقد تحوّلت جامعة سوربون - أبوظبي، ليس إلى ملتقى تعليمي متطوّر ويلقى تقديراً عالميّاً واسع الطيف فحسب، وإنما استحالت هذه الجامعة واحة للتبادل الثقافي الجديد والمتفتّح، خصوصاً وأن طلبتها، هم بالإضافة إلى الإماراتيين والخليجيين، يؤلفون خليطاً استثنائياً من عرب وآسيويين وأوروبيين وأميركيين وافدين، ويشكّلون جميعاً ما قوامه 81 جنسية. وكل ذلك يدخل في إطار استثمار الثقافة في العلاقات الدوليّة، والذي تتوخّى منه فرنسا بقاءها حيّة بين الدول الكبرى المؤثرة في العالم. ولا يتردّد الفرنسيون في الإعلان عن ذلك صراحة. ففي ندوة عقدت قبل سنوات في جامعة القديس يوسف في بيروت وتحت عنوان «الثقافة في العلاقات الدوليّة» قال أوريليان لوشوفالييه، وهو ديبلوماسي فرنسي عريق، ومدير المعهد الفرنسي في لبنان:»إننا نعوّل على مبدأ القوة الناعمة الثقافية لفرنسا، وذلك وفق ما ابتكره ونظّر له العالم الأميركي جوزيف ناي». ثم استطرد قائلاً بما معناه إن العامل الثقافي في العلاقات الدولية له ثقله الكبير. يكفي هذا العامل أهمية أنه يعزز سبل التفاهم المتبادل عن طريق الجاذبية والإقناع بدلاً من السلبية والإكراه.. كما أن العامل الثقافي يظل ذا سلطة أخلاقية معنوية على الآخر، داخل بلاده وخارجها. بريطانيا والولايات المتحدة أمـا بريطانيا، فإنهـا اسـتلحقت هذا البعد في زمانٍ متأخر، إذ جاء بعـد الحرب العالمية الثانية، وخصوصاً إبان الحـرب الباردة. ويقيناً أن «المجلس الثقافي البريطاني»، ظهـر إلى الوجود في عام 1934، إلا أنـه كان يسعى حينذاك إلى جمع الأموال الخاصة، بأكثر مما كان يسعى إلى قيادة عمل دبلوماسي تتولاه الدولة وتكيفه. أمـا الولايات المتحدة، فإنهـا من جانبها التزمت التزاماً صريحاً بالدبلوماسية الثقافية بهدف تعزيز مواقعها في قلب الحرب الباردة. ثم إن المواجهة الأيديولوجية بين «الجبّارين»، أدّت إلى وضع تدابير واعتماد ترتيبات تهدف إلى تأمين إشـعاع مشروعيهما السياسيين. وثمـة برامج عدّة كانت تحظى بتفضيل الولايات المتحدة. ويتعلّق أولها بالمبادلات عـبر برنامج «الزائر الدولي» الذي جرى إنشـاؤه في عام 1940، وكان يهـدف إلى تعزيز وتدعيم العلاقات الثقافية بين الولايات المتحدة وشركائها الأجانب (تستقبل وزارة الخارجية الأميركية 5000 زائر أجنبي سنوياً، في إطار هذا البرنامج). وسـفراء الجـاز، هم مثال رمزي آخر على هذه الاسـتراتيجية الثقافية. كانت وزارة الخارجية تمـوِّل حفلات موسيقية في الخارج، في أوروبا ابتداء، ثم في بلدان الجنوب. وهكـذا فإن العديد من الفنانين كانوا يزرعون القارات حينها، ذهاباً وإيابا: ديزي جيليبسي في عام 1956، لويس أرمسترونغ في العام 1961، ديوك آلينغتون في عام 1963. كانت الموسيقى السـوداء، أو موسيقى الفنانين الأميركيين من أصل إفريقي، موسيقى معترفاً بها كعنصر  كامل من عناصر الثقافة الأميركية. أمـا على الصعيد السياسي، فإن هؤلاء الفنانين كانوا يمثلون دينامية النسق الديموقراطي الأميركي الذي يهدف إلى الدمج: جرى إقرار قانون الحقوق المدنية وقانون حقوق التصويت في عامي 1964 و1965 على التوالي. ولا يزال البرنامج مسـتمراً إلى اليوم عبر»الموسيقى الأميركية في الخارج»، التي تموّل مهرجانات الفنانين الأميركيين وجولاتهم في الخارج. وكذلك فإن الفن التشكيلي التجـريدي، المعروف على وجه العموم تحت اســم «مدرســـة نيويورك»، يُستخدم هو الآخـر في «هجمة الإغواء والإغراء» هذه، ولاسيما عبر الوجوه المركزية التالية: جاكسون بولوك، روبرت ماذرويل، ويليم دوكونيغ ومارك روثكو. ويلعب متحف متروبوليتان للفنون دوراً مركزياً في المبادلات الثقافية وفي تنظيم المعارض الجـوَّالة في العالم. أمـا المؤتمر من أجل الحرية والثقافة، فإنـه يسـعى من جهته إلى إتاحة انبثاق نخبة موالية لأميركا. وقـد أَنشـأَ هذا المؤتمـر الذي نَشِــط بين 1950 و1967 مجلات ونظَّم مؤتمرات وندوات وقدّم منحاً جامعية. كان نقـد الماركسية في أزمنة الحرب الباردة تلك، يشكّل المدماك الأساس الذي تقوم عليه الهجمة الثقافية الأميركية. وقـد قـدّم العـديد من الفنانين والمثقفين دعمهم لهذه الهيكلية، وكان من بينهم كارل ياسـبرز وريمون آرون. وثمـة حاملة أخرى تستحق الانتباه، هي الفن السـابع. وتمثل هـوليوود في ما عنى الفن السينمائي، مركز الثقل في التأثير بالنسبة إلى الحالة الأميركية، وعلى غرار فيلم «حرب النجوم»، فإن عـدداً كبيراً من الأفلام جرى إنتاجها هناك، وتستهدف كلها جمهوراً واسعاً في الولايات المتحدة وسواها، وتستفيد من الترويج على الصعيد العالمي. وثمة عوامل اقتصادية ومالية بالتأكيد تفسّر التغلغل في الأسواق الثقافية الأجنبية. غـير أن هـذه الأفلام، ولاسيما تلك التي جعلت الأمن القومي والمسائل الاسـتراتيجية، موضوعاً لها، تعرض في السانحة نفسها عالماً عقلياً فريداً يتأسس على خصائص عدة: «تحويل موظفي ووكلاء الدولة والعاملين لديها إلى أبطال، تكريس الطابع المقدس للدولة.. طالما لم تبتعد عن الدفاع المحض عن المواطنين الأميركيين، ووضع التهـديد وفق تعريفه الرسمي، وكما تغذيه المخيلة الجماعية الأميركية في صور». يبقى أن الرابط بين هوليوود وواشـنطن فيه بعض التنويعات. ففي حين أن روزفلت طلب في عام 1942 من المنتجين الإسهام في المجهود الحربي على نحـوٍ رسمي، فإن مستشار الرئيس جورج دبليو بوش، السياسي، التقى بعـد 11 سـبتمبر وجوهاً هوليودية عدّة (رئيس نقابة الممثلين، ممثلو الاسـتوديوهات الكبرى) ليلحّ على التمييز بين «الإرهاب» و»الإسلام»... ويبقى أن كثيراً من الأفلام التي جرى إنتاجها، مثل فيلم « 24 ساعة كرونو»، أو «وطن»، توحي بقبول الحرب على الإرهاب والموافقة عليها. غـير أنه يمكن أن تظهر توترات بين الخيارات السياسية الرسمية على الصعيد العسكري وبين السـرديات التي تقترحها بعض الأفلام. «دموع الشمس» (2003) يبيّن الضرورة الخُلُقية التي تملي عدم احترام الترتيبات الهرمية، وذلك من أجل غوث أولئك الذين يشـكلون «الجمهورية الجديدة»، التي ربمـا كانت الضحية المحتملة لعملية إبادة الجنود الأميركيين الذين يلوذون بالفرار من الحرب الأهلية مع اللاجئين النيجيريين. و»حاصل جمع المخاوف»، أو» المخاوف كلها» (2002) يشـير بإصبع الاتهام إلى خيارات الأميركيين المحافظين المهووسين بضرورة التدخل العسكري في الشرق الأوسط. وأمـا فيلم «لعبة التجسس» (2001) فيســتنطق عمليات تحويل الممارسات الديموقراطية عن وجهتها، كما يحدث في خضم الحـرب على الإرهاب». ويبقى أن مـا يصنع هذه الأدوات الكلاسيكية جميعاً هو السياق الاقتصادي المعولم. روسيا والصين يبقى أن هذه النزعات ليست وقفاً على دول غربية كبرى بعينها فقط؛ فها هي روسيا، وبالنظر إلى الدور الكبير الذي مارسته خلال الحرب الباردة، تضع يدها على مفاتيح «القوة الناعمة»، من منظورها طبعاً، وتستخدم لائحة الأعمال المقترنة بها. وفي حـين أن الحكومة الروسية لطالما حاذرت هذه الفكرة، إلا أن الصيغة الأخـيرة من مفهوم السياسة الخارجية، الذي وافق عليه الرئيس بوتين في مطلع عام 2013، ينصّ بصريح العبارة على «أن القوة الناعمة» باتت جـزءاً لا يتجـزأ من السياسـة الـدولية المعاصرة.» وتسـتند روسـيا في «مساعيها الناعمة» إلى أدوات عـدة، منها إنشـاء شـبكة إعلام متواصل (روسيا اليوم) بالإنكليزية والعربية والإسبانية؛ إنشاء منتدى فالداي السجالي، الذي يسهم في صوغ وجهة نظر روسية حول السجالات العالمية الكبرى؛ حبك أو نسج شـبكات دولية تستند إلى قاعدة أساس، هي مؤسسة روسكي مير (العـَالَم الروسي، أو الدنيـا الروسية) التي أُنشـئت في عام 2007، وأوكل اليها الحفاظ على اللغة الروسية ونشرها في العالم عبر مراكز ثقافية، أو بواسطة (الوكالة الاتحادية للتعاون الإنساني الدولي التي أُنشـئت في عام 2008)؛ تنظيم أحداث رياضية ذات مدى عالمي على شـاكلة الألعاب الأولمبية التي جرت في سوتشي، أو مباراة كأس العالم القادمة لكرة القدم في عام 2018. غـير أن المـوقف الصيني، هـو الشـاهـد الأفضل على التوظيف الذي تضطلع به الدول الصاعدة في سجل النفوذ والتأثير. فقـد كان هدف الصين من تنظيم الألعاب الأولمبية عندها في عام 2008، وتنظيم المعرض العالمي في شـانغهاي في عام 2010، هـو بث ونشر صورة إيجابية عن البلاد على الصعيد الدولي. وفضلاً عن ذلك، فإن الكتاب الأبيض حول السياسة الخارجية، الذي أقـرّ في عام 2007، يحيل صراحة إلى القوة الناعمة. وهذا الانتساب الرسمي إلى القوة الناعمة يأتي ليتناغم مع التحليلات السابقة، ولاسيما تحليلات وانغ هونغ؛ الذي كان يؤكّـد على أن القوة الناعمة هذه تمنع المواجهة. وهي تندرج، على كل حال، في استراتيجية مراوغة، من شـأنها أن تكشف تفوّق فاعل على آخـر، الأمـر الذي لا بـدّ أنـه يُـذكـِّر ويحيل إلى أحـد مفكري الاسـتراتيجية الصينيين، صن تـزو، وكذلك، وعلى وجهٍ أعمّ، إلى سلسلة من المفكرين التقليديين، الذين كانوا يلحّون على ضرورة التحلّي بالقوة المعنوية للقادة السياسيين. وثمـة عوامل عدة تفسر هـذا التوظيف الصيني: الوعي بأن سقوط الاتحـاد السـوفييتي السابق نتج عن استبعاده للقوة الناعمة، والقناعة بأن مشـروعاً لترجمة الجبروت (يؤلف بين القوة الناعمة والقوة الصلبة، يتيح صنع كيان قومي جبار ومعولم)، هو مشروع يـوفـر وضعية طمأنينة (مقاصد الصين تظل في ما عنى باقي العالم، مقاصد سـلمية)؛ والأدوات المسـتخدمة لديها هي أيضاً أدوات متنوعة. فهناك أولاً، مبادلات تربوية وتثقيفية تتنامى، تتعلق بالطلاب وبأسـاتذة التعليم. وتجدر الإشـارة هنا إلى أن قطاع التعاون في مجال الدفاع لا يفلت من هذه الحركة، ذلك أن جامعة الدفاع القومي أو الوطني تسـتقبل عسـكريين أجانب، وأن العـديد من الضباط الصينيين يتابعون اليوم تحصيلاً علمياً ويتلقّون إعـداداً وتدريباً في أكاديميات عالمية عديدة. كمـا أن الحكومة أوفدت ملحقي دفاع باتوا معتمدين لدى ما يقارب المائة دولة. ثانيـاً، لم تنس الصين المجـال الإعلامي وقوة تأثيره، حيث أنشـأت برامج متعددة باللغات: الإنجليزية، الروسية، العربية، الإسـبانية والفرنسية على قناة البث الصينية الرسـمية. كما أن هـذه القناة انطلقت بدورها في مشاريع البث 24 ساعة في اليوم، على غرار قناة بي.بي.سي البريطانية، وسي.إن.إن الأميركية. ثالثاً، تزودت السياسة الخارجية بجدول أعمـال ثقافي يهدف إلى بث صورة إيجابية عن الصين في الخارج، يشمل إنشـاء معاهد كونفوشيوس (يبلغ تعـدادها 400 معهـد حالي) تابعة لوزارة التربية، وقائمة على أساس تفاهمات خمسيّة مع جامعات أجنبية. وبخلاف تعليم اللغة الصينية والتعريف بالحضارة الصينية، فإن المعاهـد المذكورة تنظّم تظاهرات ثقافية متنوعة ومبهرة، تجذب الكثيرين خارج «القارة» الصينية المترامية الأطراف. وإلى ذلك، فإن هذا الإقحام للثقافة في تسيير الشـؤون الخارجية، يسـتند كذلك إلى الدعم المقدم لترويج المنتجات الصينية الثقافية، مثل مشـهديات الفنون القتالية والأوبيرات التقليدية. وفي عام 2014 تكوّنت مجموعة الفنون والتسلية الصينية بهدف بيع هذا الضرب من الخدمات والأداءات الصينية إلى الشركات الأجنبية. وهكـذا فإنه جرى عرض «أوبرا مطر الزهور» على طول طريق الحرير (التي تعود إلى عام 1979) في الخارج. ثم إن هـذه الأوبرا التي جاءت كرد غـير مباشر على «مهرجان ميدان واشنطن»، الذي جرى بموازاة التدخل في أفغانستان في عام 2002، إنمـا تريـد أن تُظهِـر وجها آخـر من وجوه صين مـا بعـد مـاوتسي تونغ. وهي تقدّم مقابلاً ضمنياً بالنسبة إلى الباليه الشـهيرة «المفرزة النسائية الحمـراء» التي جرى عرضها إبان زيارة الرئيس الأميركي الأسبق نيكسون لبكين في عام 1972، والتي كانت عملاً فنياً يمجّد الماوية. أمـا «أوبرا مطر الزهور»، فتدافع عن دولة صينية متعدّدة الأعـراق، يشــغلها شـاغل الحفاظ على الاسـتقرار بين مختلف الأمم على طريق الحـرير، بل إنهـا لا تخفي نقـدها للفسـاد المحتمل للنظام. ويبقى أنه فيمـا يتعدى هـذه الصورة، فإن الاقتصاد الصيني يحقق مكاسب اقتصادية من هـذه الأعمـال. فقـد مثلت النشاطات الثقافية نسبة 5% من مجمل الدخل القومي القائم في الصين في عام 2015. وتجدر الإشارة هنا إلى أن الحزب لا يتحكّم بالنشاط الثقافي بكامله. وهناك عـدد متزايد من الفنانين الذين ينزعون إلى صياغة وجهات نظر أخرى. وهذه ظاهرة تكشف عن انكسار احتكار التأثير والنفوذ الرسميين. نحـو وقف احتكار الجاذبية ثمـة سـيرورتان تعربان عن هـذا المنحى: انعتاق الفنانين، والجاذبية التي يمارسـها إرهابيو الإرهاب العابر للقوميات. والحق هو أن المنحى الأول ملموس تمامـاً في الحالة الصينية. فالحكومة الصينية لا تتردد في إجـراء الرقابة على العـديد من المنتجات السـينمائية، مع الترويج للأفلام التي يفترض أنهـا تُمثل العلامات الخاصة بالحضارة الصينية. غيـر أن ثمـة جـانباً بالتمام والكمال من الخلق والإبداع الفني يفلت منها. وهكـذا فإن مصمم»عش العصفور» الشهير، الذي جرى افتتاحه بمناسبة ألعاب بكين الأولمبية، الفنان إي فاي فاي، اتخـذ موقفاً ضد النظام، إذ أنجـز أعمالاً فنية تنـدّد به، انطلاقا من زلزال منطقة سيشوان الذي أودى بحياة 70.000 ضحية. فعنـدما ذهب فاي فاي إلى هناك (منطقة الزلزال)، فإنـه لاحظ آثار ومفاعيل الفسـاد عبر عدم وجود مباني مضادّة للهزّات الارتدادية، بما في ذلك في مباني المدارس. وهكـذا فإنـه تجنـّد لعمل إبداعي يسـتخدم في مادته القِطع المعدنية الصدئة التي وجدها في موقع الزلزال («مسـتقيم» - 2009) أو من مجرد حقائب الظهر التي كانت تعود الى التلاميذ («تـذكـّر» - 2009؛ «سقف الثعبان» – 2013). والجدير بالذكر أن الاعـتراف بهذه الأعمـال الفنية في الخارج، والصدى الذي لقيته ليست بالحالة المعزولة. فاعتماد سياسة القوة الناعمة يصبح عندها، بالنسـبة إلى الحكومة الصينية، منحى في التوجّه إلى شـعبها ذاته، بهـدف تأمين تماسـكه الوطني والقومي. أو بعبارة أخرى، فإن تقديم صورة عن صين ديناميكية وموغلة في القدم، هـو أمـر لا يسـتهدف الجمهـور الأجنبي وحده. أمـا المصدر الثاني لانكسـار الاحتكار، فينتج عن فاعلين غـير متناظرين (متفاوتو القوة) ضالعين في نزاعات مسـلحة يخوضونها باسـم إسـلاموية، هي في الوقت ذاته إسلاموية مخصخصة (تكوين كتائب من المتطوّعين الدوليين) ومعولمة (دعوة مسـتدامة إلى الجهاد). أو بعبارة أخرى، فإن الجاذبية يمكن أن تتمارس لمصلحة مجموعات إرهابية تطمح إلى أن تصير دولاً (حالة داعش) أو لا تطمح إلى ذلك (القاعـدة). وهي جميعاً تستغل الشبكات الاجتماعية وتستخدمها لتبث وتنشر عبرها صوراً وتمثلات، من شـانها اســتثارة الانتماء والالتحاق، ولاسيما من جانب الشبان، إن في مجتمعات الشرق الأوسط أو في سـواها. مشروع «داعش» يسـتند إلى مرجعية الخلافة التي تقترن في المتخيّل الإسلامي العام بالعصر الذهبي في التاريخ الإسلامي. وثمـة مسلسلات تلفزيونية تبرز هـذه الحقبة. ثم إن التجنيد الإيديولوجي يسـتفيد من حاملات إعلامية تتيح للمجندين الشبان بأن يعرفوا أنفسهم ويحـدّدوا ذواتهم كمساهمين مباشرين في الخلافة المثالية. اللجـوء إلى التأثير عبر الوسائل البصرية والرقمية، يسـهم كذلك في الحرب «الهجينة» التي توصِّف جـزءاً من المواجهات المعاصرة. ثم إن هـذه الحروب تمفصل الوسائل التي تنتمي إلى النمط المنتظم (اســتخدام وتركيز الموارد العسـكرية)، والنمط غـير المنتظم (عمليات الدعاية والاسـتراتيجية غـير المباشرة). تركيز ماكس ويبير ثمـة وجـهٌ آخـر من وجوه الغلبة والسيطرة يتبدّى عبـر إظهار وإعلان وإشـهار القبول والرضا كنمط من أنمـاط ممارسة القوة على المسرح العالمي. والمسـألة هنا ليست مسألة التحكّم بحـيِّز معطى بقـدر مـا هي إثارة تأييد الأقوام الأجنبية لخياراتـ (ك) السياسية. وهـذه الظاهرة تأتلف مع إرادة الضبط والإحكام التي تحرك الدول وتدفعها لتمارس جاذبيتها الدولية تحت تأثير التحولات والاستحالات، ولاسـيما اسـتحالات الرأسـمالية العالمية، وتتمفصل عليها. وبعض المحللين يجدون في ذلك «دبلـومـاســــية عمـوميــة جـديـــدة» تجـد أسـاسـها جزئياً في تعبئة أو «تجنيد» تقنيات التسـويق، وكذلك في اللجـوء إلى المواطنين كوسـطاء دبلوماسيين. لكن التعبير عن التأثير والنفوذ يتّصف بنزعة إلى الإزاحة عن المركز. وهذا أمـرٌ ليس وقفاً على الدول ولا هو احتكار تحتكره. فمفاتن التأثير والنفوذ يتناقص «تكتمها»، ذلك أنها لم تعـد تقتصر على أروقة المستشاريات الوثيرة وردهاتها وكواليسها المزخرفة الصامتة. فقـد باتت تملأ الأبصار. وهي تُـعرض بصراحة، إذ يعرضها، إما الفاعلون الذين يزدادون اسـتقلالية إزاء الدول، أو الفاعلون الحرونون الذين يستخدمون الوسائل العنيفة لوضع النظام الدولي القائم موضع مساءلة. كان عالم الاجتماع ماكس ويـبير يركّـز لدى تناوله لمشـروعية السلطة السياسية بالتحليل، على مطالب الحاكمين، وليس على معتقدات المحكومين. وهذا الخيـار ناتج عن صعوبة كبرى، هي صعوبة توصيف الأشكال التي يجري إدراك أعمـال القادة بها. فالواقع أن تقبّل التدابير المقررة لممارسة التأثير والنفوذ، والتفكير حولها، وتقييم فعاليتها والتفكير فيها، ليس بالأمـر السهل ولا بالشيء الميسـور. وهـدف هذا الشأن هـو أن يتموضع في المنبع، وفي وجهة تعاكس التيار لكي يقوم بتوصيف متزامن لتطوّرات وتنوّعات مصادر ومجاري التأثير والنفوذ الحاليين. لكنه يبقى أن بوسـعنا طرح فرضية تسير مع التيار، مفادها أن متلقي الإرسـال يملكون حـرية التقدير والحكم. نسـتطيع الإعجاب بمقر كوكا كولا في ولاية أتلانتا الأميركية، ونظل على ارتيابنـا إزاء الفكرة التي يوحي بها الفيلم، الذي تفتتح بـه زيارة ذلك المقر: لحظات السـعادة هي تلك التي يعيشـها من يشـرب ذلك الشراب الغازيّ الشــهير. ولحظات السعادة مع شربه تذكرك بسحر من شربه قبلك من مشاهير أو من طرف نماذج جديدة مصنّعة بطريقة جاذبة، من شأنها أن تبقي جاذبيتها راسخة فيك على نحو أرسخ من أي قوة مادية أو رمزية أخرى، تظهر بلد المنشأ وكأنه البلد الذي لا يضاهى ولا يجارى في صنع النماذج أو «المعجزات الثقافية» المؤثرة، حتى من قلب حدث الاستهلاك الاعتيادي ذاته.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©