الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

في جماليات العمران

في جماليات العمران
16 نوفمبر 2016 19:51
إعداد وتقديم: إسماعيل غزالي يروم ملف (جماليات العمران) الذي يخصصه الاتحاد الثقافي في هذا العدد، الاقتراب من تخييل المعمار وأثره الجمالي عبر تخييل الكُتاب ورؤاهم الخاصة إلى إبداعيات الهندسة وخرائطيات العمارة في صلب الحياة اليومية والتاريخ والمعنى وموجز فن الأشكال والعلامات. عن فن العمارة وجمالية الهندسة في المدن العربية، من زاوية أو نظرة ذاتية تحتكم إلى تعدد الشهادات والنصوص والمقالات والبورتريهات، بالاستناد إلى تعدد وتنوع المبدعين والكتاب والفنانين، إذ لا يقتصر الأمر على اختصاص المهندس المعماري هنا، بل يتعداه إلى الانفتاح على ذائقة وانطباعات ورؤى الشعراء والنقاد وكتاب السرد قصة ورواية. لا يتعلق الأمر بالعمارة العربية وحدها، كما لا تتوقف فكرة الملف عند حدود العمران الإسلامي، بل تشمل كل صور الأثر الهندسي وأشكال العمارة في المدينة العربية وغيرها، كيفما كانت مرجعيتها وهويتها ونوعيتها وخصوصيتها (محلية كانت أو أجنبية على نحو كوني. يستدعي الحديث عن المعمار وإبداعيته الخروج من نمطية الصورة الخطية المستهلكة حول مألوفه وجاهزية تصنيفاته تاريخية كانت أو معرفية. وعلى هذا النحو تسعى فكرة الملف إلى عدم الوقوف عند التخوم الجمالية للوجود العمراني وحسب، بل تطمح إلى اختراق هذه الحدود باستغوار الخفي والمنسي والغريب، وتفكيك المبنى الداخلي للأثر، أو تفكيك الشفرات والرموز ذات العلاقة المشتبكة بأنماط الحياة وأساليب العيش، بالميتافيزقا والمتخيل الشعبي، والذهاب أبعد إلى استقصاء الأبعاد والاستيهامات فيما يتعلق بالخلفية الأنثروبولوجية وأشكال التفكير، أضف إلى ذلك مجمل الحقول المعرفية التي تتعالق وتتشابك في إنتاج الصورة المعمارية أو العلامة المعمارية، ومنها حتى المكون البيولوجي. هكذا يناغم الملف في تنوعه بين نصوص ذات طبيعة أكاديمية وأخرى انطباعية، ترسم في مجملها صورة فسيفسائية عن فنون المعمار في الحاضرة العربية، وعن فلسفة الشرق العمراني، وأنماط إنتاج المعنى في هذه اللغة المعمارية، وأيضاً عن العلائق والاشتباكات بين البناء الهندسي وبين المتخيل الديني والاجتماعي والأسطوري. فضلاً عن الثابت والمتغير في هذه الصروح الفنية، وعن التحولات النوعية والانزياحات ونزوع التماهي مع المستقبل. «نظام الفوضى» في المدينة العربية شاكر لعيبي أحسب أن قراءة للخطط المثالية (المحال السكنية) للمدينة العربية الإسلامية، يظل مخططاً مثالياً لم يتقيّد به الواقع على الإطلاق. جميع الصفات النظرية المقالة عن تخطيط وشروط المدينة في العالم الإسلاميّ تتجاهل بشكل شبه تام الفوضى التي وسمت منذ البدء العمارة المدينية. لقد فُسّر تقسيم المدينة الإسلامية إلى خطط «محال سكنية» على أنه كان انعكاساً للصياغة الإسلامية التي حاولت التلاؤم مع الطبيعة القبلية العربية، والتأكيد على رابطة صلة الرحم بين أفراد القبيلة الواحدة، وجمع هذه القبائل في خطط متعددة تجمعها مدينة واحدة ذات كيان مادي متكامل وإطار التآخي» (المدينة الإسلامية، محمد عبد الستار عثمان، عالم المعرفة، ص49). هنا يقع الحديث عن نظام أي انتظام ما يُسمّى بإقطاع السكك والأحياء، التي لم تبق أحياء منعزلة إلا لوقت قصير، لتتراكب فيما بعد بشكل كبير. سنجاري هذه الفرضية لضرورات فهم «الفوضى» العمرانية التي وسمت مدن الإسلام، ونحن نقارب الزعم القائل أن تصورات الإغريق قد أثرت على تخطيط المدن الإسلامية غير الدقيق إلا في أمثلة قليلة. يقال بأن «المدن الإغريقية القديمة كان لها تأثير كبير على تخطيط المدن ومن أوضح الأمثلة على تخطيط المدن الإغريقية مدينة الإسكندرية التي خططها المهندس دينوكراتس Dinocrates الذي يقال إنه استعمل أفكار ونظريات التخطيط التي نشرها هيبوداموس Hippodamos من ميلتوس في القرن الخامس ق. م. وهو تخطيط أتبع في غيرها من المدن مثل بيرايوس Peiracios ورودوس Rodos وهاليكارنوسوس. Halicarnosus، وكان طابع هذا التخطيط الشبكي هو الذي اتبع في الإسكندرية، وهو عبارة عن شوارع مستقيمة تخترق المدينة من الشمال إلى الجنوب، ومن الشرق إلى الغرب، في خطوط متعامدة تقسمها إلى مربعات يجعلها أشبه بلوحة الشطرنج). وهذا التخطيط متطوّر عن التخطيط المصري القديم، لكنه تطوّر وتبلور ليربط أجزاء المدينة ويجعلها وحدة واحدة حول السوق التي جعلت مركزاً للتجارة وتحقق له هذا الهدف عن طريق تلك الشبكة المنتظمة من الشوارع المستقيمة الواسعة، التي تتعامد عليها وتتقاطع معها شبكة من الشوارع الفرعية الجانبية. وفي العصر الرومانيّ اعتبرت المدينة العادية هي التي تخطط على هيئة مربع أو مستطيل يخترقه طريقان عموديان في الوسط ويتجه أحد هذين الطريق الرئيس من الشمال إلى الجنوب، وهو يسمى كاردو Cardo ويعني محوراً، أما الطريق الثاني الرئيس الآخر فيتجه من الشرق إلى الغرب ويسمى ديكومانوس Decumanus وكان الشارع الرئيس عريضاً على جانبيه رواقان بأعمدة كورنثية عرض كل منهما ستة أمتار...» (نفسه، ص155-156). هذا لا ينطبق إلا نادراً على أوصاف المدن الإسلامية، كما في وصف التيجاني لشوارع مدينة طرابلس. بل إن مقاييس الشوارع واتجاهاتها ظل بدوره نظرياً ومثالياً سوى بعض الشوارع التي يصفها المقريزي في القاهرة. وقد وصفت «جلّ الدراسات الأثرية والحضارية والتاريخية للمدينة الإسلامية شوارع المدينة الإسلامية بالضيق والالتواء»، بل إن بعض هذه الدراسات اتهم المسلمين بإفساد نظام الشوارع في المدن القديمة التي فتحوها كدمشق وحلب وغيرهما» (نفسه، ص162-163). (الأغورا) والمسجد ثمة عنصر «انتظام» واحد بارز تشترك به العمارتان المدينيتان الأغريقية واليونانية، هما (الأغورا) والمسجد. الأغورا (Agora) تمثّل المركز المدنيّ الرئيسيّ للمدينة اليونانية القديمة وأحد أهم أجزائها، وهي فضاء مميَّز للتجمع واللقاءات المختلفة في المناسبات العامة، يجتمع فيها الناس لمناقشة المواضيع السياسية والاجتماعية والتجارية والثقافية. أما المسجد فإنه يقع في قلب المدينة أيضاً كأنه عنصر رمزيّ «به يبدأ نشوء التجمعات السكنية وحوله تلتف مرافقها وخدماتها العامة»، وهو منظِّم للنسيج العمرانيّ حوله، رغم أن النمو السكنّي غير المنتظم، سنقول الفوضويّ للعمران، جعل المسجد في كثير من الحالات يُبنى على أراض طرفية. دور المسجد لم يكن دينياً كما هو الحال بعد نشوء الدول القومية في العالم العربيّ والإسلاميّ. كان فضاء للاجتماع لمناقشة مختلف المواضيع السياسية والاقتصادية والتجارية بل بؤرة انطلاق للتمرّد على السلطة. أسست في بداية الإسلام العديد من المدن أو القواعد العسكرية التي تحولت إلى مدن. أهمها البصرة في 633م والكوفة في 638 م والفسطاط في 642م والقيروان في العام 665 م. يتشابه تخطيط هذه المدن إلى حد كبير: كان الجامع يقع وسط المدينة وأيضاَ مركز الحكم وإدارة الدولة، وبيت المال كما كان الحال في مدينة دمشق. بجوار المسجد كانت تخصص أرض للسوق تترك فضاءً كما في المدينة المنوّرة، ولم يكن يسمح بالبناء فيها في حينه. بعد ذلك كانت تخط أراض بينها شوارع رئيسية للقبائل المختلفة، ويترك تخطيط هذه الأراضي للقبائل كما هو الحال في المدينة المنوّرة. مخطط بغداد المدوَّرة إن أدقّ تخطيط، شبه رياضيّ، نعرفه للمدن الإسلامية، مخطط بغداد المدوَّرة (وما نجده حتى اليوم في مخططات المدن التي بنيت بغداد على شاكلتها كمدينة فيروزآباد) الذي يجعل المسجد في قلب المدينة، لم يمنع نمواً عشوائياً للسكن حواليه. إن الفوضى الراهنة لما تبقى من المدينة البغدادية القديمة هي يقيناً ما كان يَسِمُها في عصرها العباسيّ، وما يَسِمُ مدن العراق الأخرى كالبصرة، حيث الأزقة ضيقة والمشربيات متداخلة ومتقاربة بحيث يسمع الجارُ حميمية جاره. كل المدن الإسلامية خضعت لـ «نظام فوضويّ» رغم التخطيط الافتراضيّ المثاليّ، فكان تخطيط الفسطاط يقوم على إعطاء كل قبيلة قطعة من الأرض تقيم فيها مساكنها، ويفصل بينها وبين غيرها مساحة فارغة من الأرض طواها فيما بعد التوسع العمرانيّ الذي زحف عليها. جميع الأحياء السكنية التي هي المساحة المرئية الأكبر في المدن الإسلامية، تتابع مخططاً «لا نظامياً»، في الفسطاط وبغداد وفاس والقيروان ودمشق وغيرها. مبدأ الفوضى يهمّنا من بين جميع عناصر التكوين الداخلي للمدينة «مبدأ الفوضى» في وسط النظام المُفترَض غير المتحقّق حسب المراجع العديدة. فكيف تحققت هذه الفوضى المنتظمة من حينها حتى اليوم؟. المبدأ المتبع دائما هو: تكتُّل من الخلايا الأولية agglomération des cellules élémentaires للسكن تتميز ببنُى عنقودية en grappe وتستخدم طرقاتvoiries شبه خاصة (أي ليست عمومية) على شكل نهايات مغلقة تحدّد طبيعة وشكل كل حيّ سكنيّ. على هذه الشاكلة من الفوضى تطوّرت المدينة العربية الإسلامية كما نراها اليوم، رغم كل نوايا التخطيط التي يطالب بها المُشرّع أو الفقيه أو الحاكم. إننا في قلب الخلايا التي ظلت تتراكب وتتراكم طيلة القرون إلى يومنا في داخل سور نظاميّ في الغالب. يشبه الأمر قليلًا غرف قصور تطاوين الخلوية بدورها التي بنيت وفق آنيَّةٍ ما (وظيفية من طبيعة غير سكنية)، وظلت تتراكم حتى أعطت للقصور شكلها الراهن. المدينة العربية خلوية وتقدّم لها القصور التونسية نماذج مُصغَّرة مبسطة على سبيل المقاربة. من أبرز الأمثلة على ذلك، ولعلها الأكثر فرادة، قصبة العاصمة الجزائر. إذ عبر ممرات ضيقة تقطعها السلالم، وعمارة مستلهمة في آن واحد من العمارة التركية والعربية، عمارة عسكرية ومدنية في ذات الوقت، تشكل قصبة الجزائر العاصمة نوعاً فريداً من المدينة الإسلامية، ونمطاً مثالياً لفوضاها المرتبة. ولعلها لهذا السبب مدرجة في قائمة التراث العالمي لليونسكو منذ عام 1992. هذه الفوضى في عمارة قصبة الجزائر هي من جهة أخرى ما يمنحها كل حميميتها وجمالها البصريّ، وهي ما جعل لوكوربوزييه يكتب عنها (من إقامته في القسم الأوروبي الاستعماري فيها يومها) وصفاً مغرقاً في حبه ورومانسيته. وهو أيضاً ما جعلها تُوصف – وكل العمارة المدينية المشابهة في شمال أفريقيا- بأنها مثال بارز على العمارة العاميّة «L›architecture vernaculaire» الذي يشير إلى العمارة الخاصة بمواد منطقةٍ وبحقبة ما. إذا ما حاولت نظرية الفوضى théorie du chaos اكتشاف النظام الخفيّ المُضْمَر في العشوائية الظاهرة للعيان محاولةً وضع قواعد لدراسة أنظمة مثل السوائل والتنبؤات الجوية والنظام الشمسيّ واقتصاد السوق وحركة الأسهم المالية والتزايد السكانيّ، فإن نظامها الديناميكي système dynamique المقترَح هو أيضاً نظام سبييّ معقد على ما يبدو، نظنه فوضوياً بسبب غياب الشروط البدئية (تأثير الفراشة)، أو عدم معرفتنا بالطبيعة الفيزيائية الاحتمالية لميكانيك الكمّ. يسمى النظام الديناميكي فوضى chaotique إذا كان جزءاً مهمّاً من مراحل فضائه يقدم بشكل متزامن الخصيصتين التاليتين: الحساسية للشروط الأولية، والاستعادة récurrence القوية للظاهرة. وجود هاتين الخاصيتين يقود إلى سلوك غير منضبط بشكل كبير يوصف بحق بأنه «فوضويّ». إن اتسام بناء المدينة العتيقة بالفوضى لا يمنع من أنها يقوم كذلك على احتمالية probabilités لا متناهية بشأن إمكانية نظام معماريّ خلويّ لا يقف ظاهرياً على قاعدة ثابتة، لكن تمّ اكتسابه بالفعل عبر الخبرة الطويلة والتجربة والمراقبة والحذر من عدم الاختراق الجذريّ لقواعد البناء الرياضية المعروفة من قبل المهندسين أو من يقوم مقامهم. ولعل الخلايا السكنية هنا تستجيب إلى فكرة جوهرية في نظرية الفوضى ونظامها الديناميكيّ وهي التطور غير المنقطع في الزمن une évolution continue dans le temps الذي يقود إلى فوضى منظمة، أو نظام فوضوي. إن الشكل الأصمّ فقط في بناء المدينة العربية العتيقة هو ما يبدو فوضوياً. لأن هذا البناء القائم على الخلوية يمتلك لغته أي نظامه الداخليّ. يذكر محمد لُبّار Mohamed Lebbar أن ثمة «تشفيراً codification لنشاط الفضاءات المدينية في المدينة الإسلامية، يقود إلى تعارُض كامل بين الفضاء العام والفضاء الخاص. وفيها اتجاه قويّ نحو فصل الفضاء الواحد إلى أحياء متجانسة تمتلك مرافق أساسية (مسجد، حمّام، محلات تجارية). كما أن هذا التجانس homogénéité يتمّ على أساسٍ الدين (المسلمون واليهود والمسيحيون) والعرق (الأرمن، الكرد) أكثر مما هو على أساس الفوارق الاجتماعية. وفي هذه المدينة العتيقة الخلوية يتم استبعاد الغرباء على أساس مبدأ الانطواء العائلي وهيكلة الأحياء المتجانسة في آن واحد، لتظهر المباني والنزل المكرّسة للمسافرين والخانات للتجار وهي أماكن العبور العارض والتخزين». هنا ثمة فوضى في البناء ونظام في المفاهيم الوظيفية.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©