الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

لم نفقد الجمال وحده

16 نوفمبر 2016 19:51
محمد الأسعد إذا كان صحيحاً، وهو صحيح بالطبع، أن الظاهرة المعمارية، من خلال وجودها في مجال الرؤية البصرية، هي كتابٌ مفتوح نمرّ بصفحاته يومياً، فإن هذا الكتاب بكلماته وجمله وسطوره وفصوله لم يعد مفهوماً بالنسبة لنا، جزئياً أو كلياً، أو لم يعد كذلك بالنسبة للغالبية العظمى من سكان المدن والقرى العربية. إن رسالته، برموزها وإشاراتها، لم تعد إلا خليطاً لا رأس له ولا ذنب، يحجب حتى اللغات المعمارية التي ألفناها، أو يتدخل فيبعثرها، أو يحولها إلى أصداء ووهوهة شبيهة بتناوح الرياح وهي تلوذ بأطراف الجلاميد. لم نفقد سحرَ الظلال وحده، كما رأى الروائي الياباني «جونشيرو تانيزاكي»، حين انتشرت المصابيح الكهربائية التي لم نخترعها، واقتحمت الأضواء الساطعة المختليات والمحاريب والقاعات، وطردت أوهى الظلال منها، وتغيرت مفردات عمائرنا التقليدية وخرجت على سيطرتنا، أو فقدت في نظر بعض الناس وظيفتها، بل فقدنا ذلك التناغم بين مفردات لغة أساسية تستمد منها المدن والعمائر مظهرها وشكلها، ويتشكل منها الكل العضوي، أي «كتابها» المفتوح. هذه المفردات، أو العوامل التي لابد من الأخذ بها حسب تعبير مخطط المدن «د. سابا شبر»، هي الجغرافية التي تشمل عنصر المناخ، ومعالم الأرض التي تعني العناية بطبيعة موقع المدينة، والفلسفة العمرانية التي هي عنصر أكثر رهافة ودقة من العنصرين الآنفي الذكر، فهي ذات صلة بالنواحي الاجتماعية والمعنوية والجمالية أكثر من اتصالها بالنواحي الطبيعية الملموسة، وأخيراً يأتي عنصر الحياة الاجتماعية الشامل لجميع خصائص ومميزات وعادات البيئة. تناغم هذه العناصر يقع في صلب أي تفكير معماري شرقي. فلو كنا من اخترع وسائل الإضاءة، لاتخذت شكلًا مختلفاً، ولكانت لها وظيفة مختلفة، هذا ما يقوله الروائي الياباني الذي يندب ضياع المفهوم الشرقي لتفاعل وتناغم الضوء والظل، أو تدميره بالأحرى بسطوة المفهوم الغربي، ذاك الذي يرى أن الشمس لا تعرف كم هي جميلة إلا حين تسقط على جدار بناية. فالغربي الذي يهتف هكذا منتشياً، يتحدث عن الشمس وليس عن الجدار، يتحدث عن طرف دون آخر، ليس عن تناغم بين شمس وجدار، بين ضوء وعتمة، التناغم الذي يشكل أساساً وجودياً في النظرة الشرقية لا تقوم للوجود قائمة من دونه. بكلمة مختصرة، ما فقدناه هنا هو «النص» أو اللغة المعمارية التي يتشكل برموزها وإشاراتها ما نقرأه في المكان، سواء كان مكاناً ألفناه أو كنا على وشك التعرف عليه. ومثلما تضيع معاني الكلمات والسطور ثم النصوص حين لا تتجمع لتؤدي رسالة ما، أو تتحول إلى مجرد ضجيج، كذلك معاني المفردات المعمارية حين تصبح غير قادرة على الإشارة أو الدلالة، فيصبح المعمار أشكالًا وحجوماً ومسطحات بنائية عاجزة عن تشكيل بيئة معمارية بفقدانها لعناصر التكامل الأربعة. الكتاب المفتوح ليس كل تحول أو تحديث أو تطوير في لغة العمارة، يستطيع تلقائياً إبراز المعاني في البيئة المعمارية، فهو إما أن يعزز هذه المعاني أو يربكها أو يمحوها. ولأن بصرنا يمر يومياً بما أطلق عليه المعماري د. ياسر محجوب»الكتاب المفتوح»، أي الأحياء والشوارع وظاهر المباني وبواطنها، فنحن معرضون لتلقي مئات الرسائل والرموز، مفردات قد يعزز بعضها بعضاً، أو قد ينفر بعضها من بعض، مفردات قد تكون مفهومة أو غير مفهومة، وسيؤدي الاحتمال الثاني الغالب بالإنسان القارئ إلى أن يفقد المعنى في نهاية الأمر، ويفقد الارتباط بالبيئة العمرانية المحيطة. إن لمظهر البناء أهمية ضئيلة مقارنة ببواطنه الخاصة بتجربة الإنسان، فهو قد يرى «إبداعات» المظهر وفنونها وتثير إعجابه، ولكنها لا تقيه من الإحساس بالوحشة حين يكون المعمار مكاناً للعمل أو مأوى للإقامة أو للنزهة. ولأن المعمار عنصر مهم في تشكيل الإنسان، في الحفاظ على التماسك الاجتماعي، وفي نقل القيم وطرائق السلوك، وليس عنصراً يتشكل وفق حاجاته ورغباته فقط، فإن فقدان المعنى يحمل معه مخاطر فقدان أشياء جوهرية تنعكس على الشخصية. وليس غريباً أن نلاحظ أن ما تحمله التدخلات المعمارية وتقود إليه من قيم ثقافية وفنية، تعكس نفسها على شكل تحول الإنسان من منتج إلى مستهلك، أو من مواطن، كما تقول «سارة سواريز»، إلى مجرد «متسوق»، لا يربطه بمن وما حوله رابط. وفي وضعية المدينة العربية الراهنة، حيث تحولت البيئة المعمارية إلى خليط من الرسائل والرموز والإشارات المفروضة فرضاً، إما كنتاج للجهل أو اكتساب مال، لم يعد العمران يعكس أوضاعاً ذات سمة «حضارية» بقدر ما يعكس أوضاعاً ثقافية واجتماعية وسياسية واقتصادية تخلو من أي دلالة، المدينة العربية «نص» لم تعد كلماته وجمله وفقراته، وكله جملة واحدة، يقول شيئاً ذا معنى. ولا يجب أن يخدعنا هذا التبرج الفائض على الحدود لأبراج من الزجاج والألمنيوم، ولا هذا التجميل الساذج في واجهات المباني، ففي كل هذا انفصام للمدينة عن حاضرها ومستقبلها، وخسارة فادحة للماضي الذي تتزايد عزلة الإنسان عنه. تماماً مثل معمار «مسجد إسلامي» رأيته، بعد أن وضع تصميمه وأقامه معماري غربي في حديقة عامة، فأقام مكان المنارة برجاً يشبه صومعة غلال منعزلة وبجوارها أقام مبنى حل فيه مكان القبة سطحٌ مزدوجٌ مائلٌ لا يعرف المشاهد له وظيفة محددة، ولا لماذا كان مائلًا وقاتم اللون. ودهشتُ حين قيل لي إنه مبنى لمسجد، وحين تساءلتُ إن كان هذا التصميم يحمل ملمحاً واحداً من ملامح آلاف المساجد الإسلامية المنتشرة في كل بقاع الأرض تقريباً، والمتنوعة تنوعاً مذهلاً، أشار بعضهم إلى هلال معدني ضئيل يعلو الصومعة، وقال آخر، ليس المقصود بهذا التصميم بناء مسجد، بل بناء «مصلى»! لم يكن ما رأيته مسجداً. وإذا كانت ملامح أي معمار تشير إلى وظيفته، أي إلى معناه وعلاقته بإنسان ما أو شعب ما، فهذه النوع من «التحديث» المزعوم كان يمحو المعنى الأصلي للمسجد، ولا يمنحني معنى جديداً حتى. وكانت المفاجأة رؤيتي لهذا التصميم المعماري، أو شبيهاً به، في مدينة من مدن «البوسنة»، يقوم مقام المسجد أيضاً، كأن هناك محطة خفية، تلفازية أو إذاعية، تبث هذا النوع من لغة معمار المسجد وتوزعها على مختلف البلدان. في هذا النوع من التصميم لا يفقد «المسجد» هويته ومعناه حين يقرأه المشاهد بصرياً فقط، بل يمتد الفقدان إلى المشاهد ذاته وإلى ما حوله، لن يعود «مسجده» مألوفاً، وقل ذلك عن ملايين المشاهدين. وربما سيتساءل هذا المشاهد: ما هذا؟ ومن أنا إذاً؟ إن تمزق المشهد البصري يغرّبه عن المشاهد المماثلة في مدن أخرى وبلدان أخرى، يشعره بالتوحد، أو بالاغتراب بلغة الصحافة الشائعة، وينتقل هذا الشعور إلى الإنسان صاحب الأرض، يغرّبه عن مدنها التي كان يشعر بالألفة حين يسافر ويتنقل بينها رغم تنوع واختلاف نظمها السياسية، بل ورغم حروبها على بعضها البعض. وسيكون على بعضنا أن يذهب إلى كتابة «تدبير متوحد» آخر على خطى «ابن ماجة» الذي هاله اغتراب إنسان عصره، فبحث عن وسيلة يتدبر فيها أمر اغترابه عن بيئته الطبيعية والاجتماعية. تمزيق هوية صحيح أن الإنسان العربي ما زال يجد ألفة مع هذه العاصمة أو تلك حين يزور أماكن معينة أو زوايا نجت من قضم نمل ما تسمى حركة التحديث، ولكن مع توالي الانقضاض على مفردات وجمل و«نص» الشوارع والأحياء والمدن العربية كما هو السائد حالياً، سواء فجّرت سطورها وفقراتها قطعان الإرهابيين ومحت ملامحها، أو امتدت إليها يد البلى والإهمال، أو زُجّت فيها علامات معمارية لا تعلق لها بلغة هذه الأرض، ستكون النتيجة واحدة، تمزيق هوية أمة واحدة. لأن العمران إطارٌ يشكّلنا بمقدار ما نشكّله. نحن شرقيون بالسليقة، أي بالطبيعة، وقانون الطبيعةالساري فينا وفي الكون من حولنا هو التناغم، أي تضافر العناصر لا تنافرها، سواء صممنا معماراً أو كتبنا قصيدة أو رواية أو حافظنا على ذكرياتنا من التناقص والاضمحلال. نحن لم نفقد سحر الظلال وحده، أي لم نفقد هذه الوحدة بين العتمة والضوء فقط، بل فقدنا كل شيء تقريباً، بما في ذلك حتى إدراكنا للمئذنة والقبة والرواق والقناطر المقوسة وثراء الفسيفساء، بما يعنيه هذا من فقدان لإدراك مكاننا في المكان، ومكاننا في الزمان. فعلى الصعيد الأفقي، لم نعد نشعر بالألفة كما كنا نشعر سواء حين نتنقل بين أحياء مدينة من مدننا أو نتنقل بين العواصم العربية، وعلى الصعيد العمودي، لم نعد نشعر بإنسانيتنا مع تراكم الخسائر الفادحة لماضٍ لم يعد ماثلًا إلا في مواقع التواصل الاجتماعي. ولعل تدمير المتاحف والأماكنالأثرية القائم الآن، وهو يترافق مع تدمير مدن أصبحت أشبه بأوجار ثعالب وذئاب وجحور فئران، هو المقدمة لظهور «إنسانٍ» عربي معذَّبٍ خارج من تحت الأنقاض يسأل كل من يصادفه في طريقه «أرجوك.. قل لي من أنا.. أرجوك.. قل لي أين أنا؟»!. فقدنا كل شيء نحن لم نفقد سحر الظلال وحده، أي لم نفقد هذه الوحدة بين العتمة والضوء فقط، بل فقدنا كل شيء تقريباً؛ بما في ذلك حتى إدراكنا للمئذنة والقبة والرواق والقناطر المقوسة وثراء الفسيفساء، بما يعنيه هذا من فقدان لإدراك مكاننا في المكان، ومكاننا في الزمان. فعلى الصعيد الأفقي، لم نعد نشعر بالألفة كما كنا نشعر سواء حين نتنقل بين أحياء مدينة من مدننا أونتنقل بين العواصم العربية، وعلى الصعيد العمودي، لم نعد نشعر بإنسانيتنا مع تراكم الخسائر الفادحة لماضٍ لم يعد ماثلًا إلا في مواقع التواصل الاجتماعي.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©