الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

البيت العربي.. وظيفة المأوى والبنية الجمالية

البيت العربي.. وظيفة المأوى والبنية الجمالية
16 نوفمبر 2016 19:50
د. حاتم الصكر - البيت من الضروري إلى الكمالي للبدء من دلالة التسمية نهرع لبيت مجازي آخر هو القاموس: بيت الكلمات حيث تنزله المعاني والمفردات وتتساكن داخله. البيت يؤدي في المهمة التي وُجد من أجلها وظيفة المبيت. تسكن فيه النفوس، وتنزل إليه من رواحلها وأسفارها، فتستقر وتطمئن. هو مسكن ومنزل ودار. وتلك أقدم وظيفة للبيت تعبّر عما رآه العلامة ابن خلدون من (الضروري) الذي هو الأصل. اتخذه البدو (المقتصرون على الضروري في أحوالهم والعاجزون عما فوقه) كما يقول. فلم تتعد البيوت تلك الوظيفة: مكاناً ومأوى، يقيهم الأعداء المختلفين كالطقس برداً أو حراً، والحيوان البري واللصوص والغزاة. وحين خطت البشرية خطوة أبعد في التحضر وصلت إلى (الحاجي)، الذي يستجيب للمستجد من الحاجات، فصار البيت وقاية من البيئة وما تحمله من مخاطر، فظهرت الأسيجة والأسوار والطبقات والممرات وسواها، لكن السمة الأكثر تجسداً في الحضارة هي التمثيل الرمزي للتحضر عبر (الكمالي) المضاف للبيت، فظهرت الزخارف والأبواب والنوافذ والطيقان والشرفات، وما سيلي من مستجدات العصر ومداخل الحضارة في المعمار الخارجي، والتأثيث الداخلي الشامل لمواد البناء وشكل أو هيئة المبنى والإضافات المزينة له. من الضروري فالحاجي ثم الكمالي سيشهد البيت تطوراً يوازي تقدم الإنسان علماً وصناعة وإبداعاً. النافذة لم تعد طاقة أو روشناً يجلب الهواء وقاية من الحر، بل صارت النوافذ مثلاً في البيت العربي مزدانة باللمسات الفنية في أبعادها ومواقعها وهيئتها الخارجية. صار لمنظرها الخارجي الذي يراه الداخل أو العابر استحقاقاً في تصميمها وبنائها. - الثورة على البيت وشطريه المتناظرين! تذكر الشاعرة نازك الملائكة في كتابها «قضايا الشعر المعاصر» عدة عوامل اجتماعية لانبثاق الشعر الحر، من بينها ما أسمته (الهروب من التناظر)، معترفة بأنها تحس الآن أن دعوتها إلى الشعر الحر في كتابها الشعري (شظايا ورماد) 1949، التي كانت ثورة على طريقة الشطرين الخليليين، إنما هي نفور من المنزل المتناظر الذي يتطابق جانباه تمام التطابق، وأنها كانت تستشعر ضيقاً شديداً بنظام البيت البغدادي، سواء القديم منه، الذي ينشطر إلى نصفين تتوسطهما حديقة صغيرة، أو البيت المبني مطلع التوسع السكني الحديث على الطراز الغربي، الذي لم ينج من هيمنة النظام الشطري الخليلي، فيقسم المهندسون المسكن إلى قسمين متساويين يميناً ويساراً بتناظر تام يعكس استمرار هيمنة البيت الشعري ذي الشطرين والنسق المتساوي، فيما بدأ طراز المباني يتغير مع ظهور الشعر الحر، فلا نجد ذلك التناظر، وإنما هي نثر لا تخطيط كما تقول. وتلخص بالقول إننا نتأثر بطراز المباني التي نحيا فيها، وتلك من علامات ارتباط الشعر والفن بالحياة. وليس غريباً أن تهرب إلى الفضاء لتكتب قصيدتها الحرة الأولى (الكوليرا)، التي كانت من أوائل ما كتب في الشعر الحر، وهي تؤرخ لكتابتها وتصفها بدقة إذ كان ذلك صباح يوم جمعة، والبيت يموج بالحركة وضجيج يوم الجمعة -العطلة الأسبوعية آنذاك. وكان إلى جوارهم بيت شاهق يبنى ووصل البنّاؤون إلى سطح طابقه الثاني، فتجلس الشاعرة على سياج واطئ مواجهة الفضاء وتكتب (الكوليرا) في ساعة لتعود نازلة لتصدم بشكلها الشطري الجديد وقوافيها المتعددة، من سيسمعها من الأهل. - تحولات البيت البغدادي بعيداً عن ذرائع الشاعرة التي تختفي خلفها دوافع نفسية دون شك وأسرية خاصة، وفي مدينة متعددة الثقافات وذات نهرين وعلى تخوم حضارات قديمة هائلة العمارة والفن كبغداد العاصمة العربية الإسلامية لأكثر من خمسة قرون، لا يؤدي البيت وظيفة تقليدية أو ضرورية. في جانب من ذلك ابتكر البغداديون نظام البناء التحتي أي صنع (السرداب) أسفل غرف المنزل، والذي يحمي من الحر ويقضي فيه البغداديون قيلولاتهم في ظهيرات الصيف بالغة الحرارة في بغداد. ويتم تبريد السرداب بنظام تهوية خاص عبر فتحات طولية من الأرض باتجاه السقوف. كما استغلوا السطوح، بما أن بيوتهم متضامنة واطئة وذات طابق واحد أو اثنين غالباً، فكانوا يقضون الأمسيات الصيفية على تلك السطوح، ويفترشونها للنوم ليلًا هرباً من الحر قبل انتشار لوازم التبريد. ويبتكرون لقهر القيظ وشدته أشكالاً من الطابوق لا توصل الحرارة (التي ستزيدها مواد الإسمنت والحديد المجتلبة من الهندسة الغربية الحديثة لاحقاً)، ويرصفون الأرضيات بنوع من البلاط يسمى الفرشي، وهو من الموروث المعماري البابلي، له قدرة على امتصاص الرطوبة ومنع الحرارة. كما تكون السقوف الخشبية مساعدة على البرودة، والبناء بمواد طينية ذات ليونة ونعومة مخلوطة بما يذرون عليها من التبن أو سواه. وفي مرحلة أولى من النهضة العمرانية صار للحديقة الوسطية أو البقجة مكانة هندسية تضيف متعة بصرية سرعان ما زالت باكتظاظ المدينة والهجرة إليها، وتزايد أفراد العائلات وأزمات المساكن، فصارت الحدائق في البيوت البغدادية العصرية تتقدم المبنى وتقود إليه عبر ممرات جانبية. وتؤدي الحديقة وظيفة بيئية كذلك بتلطيف الجو لا سيما في الأصياف، وتكون مكاناً بديلًا للغرف الداخلية أيضاً لأغراض السهر والسمر والضيافة. لقد كان للحاجي أثره في البنية الجمالية للبيت، ولكن بلمسة تنتمي للكمالي الزائد للترف. كان ثمة جمع مختلف التخصصات يتآزرون لاستكمال هيكلة البيت وإنجاز بنيته. نقاشون وبنّاؤون حِرَفيّون (أو الأسطوات كما تسميهم العراقية الدارجة، وكما يظهرون في أعمال فنية كثيرة أشهرها لوحات لجواد سليم) وزراعيون يربون النبات، وصباغون يطلون الجدران بألوان الجص الأبيض وما هو قريب منه، ونجارون يختارون الأبواب ومقابضها بعناية تتوخى متانتها قبل وظيفتها الجمالية، التي ستظهر في الأبواب الخارجية ذات المدقّات المتنوعة والمؤطرة غالباً، والمتوَّجة بما يعلوها من تمائم كالقرون والرؤوس والأشكال البدائية المانعة للحسد بحسب المعتقد الشعبي، أو معلقات خطية كالبسملة والتعوذ وسواهما مما يطلب التبرك، لكنهم أضافوا من الكمالي ما يمكن أن ندعوه ترفاً بصرياً وزينة إضافية كالعقود والمداخل المتنوعة والحدائق الداخلية والتزجيج والنقوش والطوابق المتعددة والأبواب المتنوعة الأحجام ومرائب السيارات. أما البيوت الشعبية التي تمتاز بصغرها فيظل لها جمالياتها الخاصة كالجدران البسيطة العارية من التزيين والصباغة، والارتفاعات القريبة والأبواب الضيقة والغرف المتلاصقة كناية عن ضيق معيشي، أو تجزئة البيت ليستوعب أسراً أكثر لمواجهة الأزمات المختلفة. كثير من التفاصيل لن تتسع لها هذه الانطباعات الواصفة السريعة، كالمرايا التي تزين المداخل الصغيرة، والشناشيل التي كانت لزمن قريب علامة على البيت البغدادي ينتهي بها البناء من جهة النهر أو الشارع، لكنها زينة معمارية فحسب، يطل منها الساكنون ويتأملها المارة، وهي سلسلة شبابيك طولية ذات زجاج متنوع وفتحات من الداخل تتقدم جبهة البيت غالباً من جهة حجراته. وأبراج الحَمام التي يربي فيها البغداديون أنواع الطيور وتألف السطوح كساكنيها تماماً. - في صنعاء: دهشة لا جواب لها الوظيفة رديف للكماليات تقدمه بيوت صنعاء القديمة، التي سيخل الاختصار بما يجب أن يقال عنها. طرق طويلة وبيوت على جانبيها تنتهي غالباً بساحة مشتركة للمناسبات، ويليها بستان الوقف المزروع تبرعاً (المقشامة)، ويسقى من مياه الوضوء من مسجد الحارة. علينا أن نرفع رؤوسنا لنرى العمارة المهولة في البيت الصنعاني ثم نخفضه لنرى الأبواب الخشبية النادرة والمزينة بمدقات نحاسية أو خشبية بالغة الجمال، ينفتح بعضها جزئياً من الداخل على الطريقة الرومانية. المعماريون اليمنيون توخوا أمرين في تصميم البيت اليمني: الحجْب وعزل الأسرة عن العيون العابرة، والأمن المطلوب في مدينة تتعرض كثيراً لغزو الأغراب والداخلين لها من الأرياف، ولا يحميها سورها الطيني الذي يحتضنها من جهاتها الأربع. باب اليمن أو صنعاء القديمة تقدم معماراً مدهشاً يلبي الضرورتين اللتين ذكرتهما، فيبدو البيت شاهقاً كعمارة، لكنه في حقيقته ينفتح أولاً على فراغ واسع يستخدم غالباً للخزن، ويبدأ طوابقه من ارتفاع بسيط يتصاعد لتكون الغرف في الأعلى. ذلك البيت التقليدي يبهر بألوان الآجر والهوية المعمارية المميزة التي لا بد من ذكر بعضها، كالشواقيص وهي نوافذ بالغة الصغر تسمح لرؤية الخارج كله ولا تفصح عن جسد الرائي لضيقها، كما تنتهي غالباً بطيرمانه عثمانية هي المفرج اليمني القديم الذي يستخدم للسمر وتناول القات، ويسمح برؤية بانورامية تنعش البصر وتغذي الخيال. البيت الشاهق الارتفاع يحل مشكلة المزالج والأقفال بابتداع (المجر) السابق على اختراع الإنترفون في العمارة الحديثة، أو الفتح الآلي للأبواب من الأعلى، حيث يرتبط المزلاج بحبل المجر الذي ينتهي في أعلى المنزل ويتحكم به السكان، فيسحبونه ليفتح الباب بدل النزول. القمريات ذات الضوء المدهش تتحكم بنوافذ البناء الصنعاني من جهة الضوء، فتعكسه للداخل نهاراً عبر زجاجها الشفاف الملون ببراعة وتلقائية تجعله نافورة ضوئية في الليل، يتمتع العابرون برؤيتها لأن ألوانها تنعكس للخارج ليلًا، وهي تؤطر بالمرمر أو المواد الأخرى التي تثبتها في النوافذ والإطلالات الخارجية للغرف وواجهات البيت الصنعاني ذي الدهشة التي لا تخفيها العين والغموض الذي لا تفصح عنه الخواطر.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©