الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

قوانين السرد

قوانين السرد
14 يونيو 2012
يتطلع منهج التحليل السيميائي أو ما يدعى بالقراءة السيميائية إلى الكشف عن دلالات السمات الكامنة في مجاهل اللغة الطبيعية والاصطلاحية معاً. وقد حفل ديوان العرب بالعديد من أبيات الشعر العربي القديم، لأمثال الشعراء عمر بن أبي ربيعة وصريع الغواني، والعباس بن الأحنف، الذين تطرقوا في أشعارهم لذكر الروائح والعطور سواء في البيت المفرد، أو الصورة الممتدة في القصيدة العربية التي تشير إلى أنواع العطور أمثال المسك والريحان وغيرهما، فضلاً اشتغال إنقاد المحدثين بهذا المصطلح ودلالاته... ويركز كتاب “فصول في السيميائيات” لمؤلفه الدكتور نصر الدين بن غنيسة، الصادر عن عالم الكتب الحديث بإربد في الأردن إلى وصف النظرية السيميائية من حيث سعيها إلى استخلاص ظاهرة هي عنصر أساس في حياتنا اليومية ألا وهي السرد، وذلك من خلال تحديد مجموع القوانين التي تتحكم جزئياً في السردية. عقد المؤلف الكتاب من ستة فصول، ذكر في المقدمة أن فصوله: “تنوس بين سياحات نظرية ومحطات تطبيقية، يجمعها هاجس واحد هو محاولة تقريب بيداغوجي لكثير من المفاهيم والمصطلحات والتعليلات النظرية والإسقاطات العملية في المجال السيميائي الذي لم يعد حبيس المدرجات الجامعية ودوائر الاختصاص في العملية بل تجاوزها ليصل الى كل مثقف، وبما ان هذا الرافد المعرفي وافد علينا من الثقافة الغربية، فإن كثيراً من المقاربات اعتورها غموض إلى حد اللبس، فكان القارئ ضحيتها بامتياز، إذ غالباً ما يقع في تجريدات فلسفية تفرغ المفاهيم من مدلولاتها البراغماتية لتولها إلى تقعرات متفذلكة يجد القارئ صعوبة في الإمساك بجوهرها، مما حدا به لأن يتعامل بحساسية مفرطة مع هذا المجال، على اعتبار انه رزمة من المفاهيم والمصطلحات العصية على الفهم، تعززها معادلات ورسومات بيانية وخطاطات تنفر ذوي الاختصاصات الأدبية من هذا العلم الجاف الذي اقتحم عليهم مقارباتهم الكلاسيكية”. عرض الفصل الأول “السيميائية السردية، المفهوم والإجراء” آليات التحليل السيميائي للنص ـ الخطاب انطلاقاً من تصورين أحدها نظري ويتعلق الأمر بالمسار التوليدي للخطاب، إذ افترضنا كونه ينطلق تشكل الدلالة من قيمتها التجريدية الأولية المتمثلة في الوحدات الدالة القائمة على التضاد ـ التناقض “المستوى العميق”، لينتقل إلى البعد السردي حيث تترجم هذه الوحدات إلى حالات وتحولات تشمل عوامل وأفعالاً في إطار برامج سردية “المستوى السطحي”، ليتحول في الأخير إلى صياغة خطابية حيث تنقلب هذه العوامل إلى ممثلين يتحركون في إطار من الزمان والمكان”المستوى الخطابي”. في الفصل الثاني للكتاب تحت عنوان “العوامل والممثلون والصور” الذي اجتزأه المؤلف من كتاب غريماس “في المعنى 2”، سعى هذا الأخير إلى طرح بعض الإشكاليات السردية التي تنبثق من التمييز بين العوامل الصادرة عن النحو السردي وبين الممثلين المتمظهرين في الخطاب، فالمشكلة المطروحة في إطار النظرية السردية، خاصة في مركبتها العاملية، هي معرفة ما إذا كان للتصويريات الخطابية ان تخضع للتحليل البنيوي، أي هل يمكننا أن نستخلص عناصر اسمية منفصلة، قابلة لمواجهتها ومطابقتها، كلمة كلمة، بالأدوار العاملية. ترجم مؤلف الكتاب في الفصل الثالث من كتابه فصل “العناصر الأولية لتحليل الخطاب السردي” المتقطع من كتاب “سيمياء اللغة” لصاحبه جوزيف كورتيز، وسعت هذه الترجمة إلى الإسهام في تقديم قراءة بيداغوجية للخطاب السيميائي في تحليله للظاهرة السردية المتعلقة بتتابع الحالات والتحولات المسجلة في الخطاب والمسؤولة عن إنتاج المعنى. فالتحليل السيميائي للنصوص هو في العمق اعتراف وتوصيف للاختلاف في المعنى. ولذا جاءت السيمياء السردية لتقترح وصفاً لهذا الاختلاف ممثلاً في وصف التركيبة السردية، حيث يرد النص كمتوالية لمجموعة من الحالات والتحولات الطارئة على هذه الحالات. وعليه يعد التحليل السردي، الذي هو كشف عن الحالات والتحولات وتمثيل للاختلافات في شكل التتابع، الإجراء المنهجي الأكثر ملاءمة من شأنه أن يساعدنا على تعقب حركة المعنى في الخطاب. وتتالت الفصول الأخرى للكتاب التي جعلها المؤلف ميدانية، وحاول من خلالها البحث عما يمكن ان تقدمه السيمياء السردية في مجالات مختلفة كالأدب والثقافة والإعلام تجمعها إشكالية واحدة، ألا وهي إشكالية الصورة. لذا وقع اختيار المؤلف في الفصل الرابع ضمن مقام الأدب على “مقاربة سيميائية لجدلية الأنا والآخر في رواية الحي اللاتيني لسهيل إدريس”، وهي أحد الأعمال الأدبية التي تناولت صورة الآخر في مخيلة الأنا، فكانت قراءته قراءة وليست القراءة، فالرواية تظل مفتوحة على عدد لا نهائي من المقاربات. وإذا كان للسيمياء السردية فضل في شيء فهو محاولتها مدنا بالمنهج الإجرائي لتفكيك آليات تشكيل صورة الآخر في مخيلة الأنا وما يتبعه من تحجيم للنظرة الأسطورية للآخر ومن نقد ذاتي لما يمكن أن تختزنه الذاكرة الجماعية من مواضعات تكتسي طابع القداسة. أما الفصل الخامس فتناول فيه” سيميائية التواصل التثاقفي ورهانات الحوار الثقافي” في الجانب الثقافي، حيث كان توجه المؤلف رهين مستجدات العولمة وما جنته على الإنسانية ـ إذ أنّ الأحداث المتعاقبة على العالم والتي حولته إلى قرية تستعر أطرافها بنيران الحروب والمواجهات المسلحة دفعت مناصري نظرية “صِدَام الحضارات” إلى التبجح بمدى صدقية النظرة الاستشراقية لهنتنغتون بعدها حتمية تاريخية حكمت ماضي البشر وستحكم مستقبلهم. ولم يكن لمناوئي هذه النظرية من بدّ سوى التصدي بمروجيها داعين الى “حوار الحضارات”، إلاّ أنّ خطاب هؤلاء قد توشح بنزعة منبرية حولته الى شعارات تزين منصات الملتقيات وصفحات المجلات وبلاتوهات التلفزيون، مما حدا بالبعض ممن توجه توجهاً علمياً إلى محاولة تناول هذا الخطاب من وجهة نظر علمية. والسؤال الذي انبثق من التراكم المعرفي لهذه التوجه البعيد عن النزعة الخطابية، هل بإمكان العلوم الإنسانية أن تضبط مفاهيم هذا الحوار؟ وهل لها ان تقاربه منهجيا؟ ولأجل أن لا يكون طرح ابن غنيسة تعميمياً، فقد وقع اختياره في هذا الفصل على السيمياء التي استطاعت في العقود الأخيرة ان تخضع كثيراً من الظواهر الإنسانية إلى منطقها العلاماتي، وراح يتساءل: عن مدى إسهام هذا العلم في بلورة مفاهيم تثاقفية تسير لأطراف الحوار التخلص من العقد التي تتحكم في تشكيل العلاقات بين الثقافات من خلال مقاربته للأشكال الثقافية ذات الخصوصية الهوياتية ودراسة لغاتها وأنظمتها العلامية التي تنظم الحياة اليومية وموروثها الرمزي. وفي الفصل الأخير توقف بن غيسة لقراءة استثنائية لضرورة انفتاح السيمياء على روافد معرفية أخرى حتى تتجاوز حالة الانسداد المعرفي الذي وصلت إليه حين حصرت همها في مقاربة الخطاب من وجهة نظر المحايثة، وخير ما جسد هذه الضرورة هو المقاربة السيميائية للخطاب الإشهاري التي لم تعد تفي بالغرض، إذ إن التركيز على النقد السيميائي فقط التي للإشهار قد يخفي الطابع الاقتصادي الأساس للدعاية الإشهارية، فموضوع التحليل السيميائي هو العلامة، وفي الاتصال القائم على العلامة، تنحصر العلاقة بين المرسل والمتلقي في تبادل التمثلات الرمزية لأفكار تجردية أو عوالم واقعية.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©