الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

فن النفايات

فن النفايات
16 نوفمبر 2016 19:56
مع نمو الاستهلاك الذي وصل حدود المبالغة، ازدادت النفايات بكل سلبياتها الضارية، فأضحت تلوث الماء والهواء والتربة، وبما أن لكل مشكل حلا، وإن كانت الحلول في بعض الحالات نسبية فقط، فقد تم اللجوء إلى إعادة تدوير النفايات كأمر ضروري وكطريقة صديقة للبيئة من أجل الإسهام في التقليص من مخاطرها على الكوكب والحفاظ على الحياة فيه. وبما أن الفن التشكيلي لا يلتزم الحياد وإنما يحمل هوسا دائما بخلق الفرق والإسهام في محاربة القبح ونشر الجمال، فقد تبنى الكثير من الفنانين التشكيليين إعادة التدوير وحولوا نفايات عديمة القيمة ومهددة للبيئة إلى قطع فنية وجمالية. لكن في البداية لا بد من التساؤل، عن بدايات هذا الفن، وما أثره على البيئة وعلى الذائقة البصرية رغم الالتباس الذي يحف به؟ د. حورية الظل يكشف تاريخ الفن التشكيلي ومدارسه المتعاقبة كيف انتبه الفنانون مبكراً إلى أن ما هو جمالي وما له قيمة قد يتولد عن العادي واليومي والمبتذل وما لا قيمة له، وسبقوا بذلك تاريخ الفن ومراحله المتوالية؛ لأنه لم يتم تبني هذا النوع من الفن رسميا ويتم تقبله والاعتراف به إلا في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، لكن قبل ذلك بكثير انتبه ليوناردو دافنشي للأمر فاقترح على طلابه، لتغذية خيالهم، مراقبة بقع العفن على الجدران أو تلافيف الغيوم في السماء والحفر المليئة بالماء والتي تخلفها حوافر الدواب على الأرض، وهي أمور تؤكد لا حدودية الفن، وأن اللامفكر فيه والمبتذل قد يصبح موضوع إلهام. وإعادة التدوير في الفن أو استعمال المواد التي لا قيمة لها، أو المواد غير النبيلة كما يسميها البعض، ليست وليدة الوقت الراهن حيث أضحت النفايات تشكل هما وهاجسا يؤرق كل الأطراف، وإنما شكل التدوير في فترات معينة عند بعض المدارس الفنية نوعاً من الثورة على السائد وأيضا اقتناعا من بعض الفنانين على أن كل شيء مهما كانت تفاهته ولا جدواه في الإمكان تحويله إلى عمل فني له قيمته. عجلة دوشان أول الفنانين الذين قاموا بإعادة التدوير «مارسيل دوشان» الذي أنجز عملاً فنياً سنة 2013 عبارة عنتركيب عجلة دراجة على كرسي خشبي، فهو اعتمد أشياء «لا جميلة ولا قبيحة» بحسب قوله، أي أشياء لا قيمة لها لتركيب تحفته، فكان سباقا إلى اعتماد فن إعادة التدوير، وهو بذلك يكون قد أكد على إمكانية جعل الفن ينتمي لليومي والعادي والمبتذل فكان عمله استباقيا وقوبل بالغرابة والاستهجان والرفض لأنه استطاع خرق المتعارف عليه بطريقة مستفزة، لكنه بذلك استطاع أن: «يكون له أكبر الأثر في صياغة فن المستقبل»، حسب الناقد فاروق يوسف، وبابلو بيكاسو أيضاً من الفنانين الذين أعادوا التدوير في أعمالهم فاستعمل الجرائد القديمة والخشب في بعض أعماله كما أنجز لوحة «الحلم» بالزيت على قطعة كرتون ومنحوتته «رأس الثور» استخدم لإنجازها مقودا وكرسي دراجة. وبذلك تكون المدارس الفنية التي أعلنت تمردها على السائد في الفن كالتكعيبية والدادائية والسريالية قد لجأ فنانوها إلى إعادة تدوير ما يتم استعماله في الحياة اليومية، فجنحوا إلى الإقناع بأنه في الإمكان جمع عناصر غير متجانسة طبيعيا للحصول على نتائج منطقية ومذهلة في الأعمال الفنية، وهي طريقة تبنوها لتحرير الفن مما هو تقليدي ومزيف حسب رأيهم. وما يمكن تأكيده، أنه مع تنامي الاستهلاك في الغرب ظهرت حركات فنية استجابت لما يعرفه الواقع من تغيرات، ومنها حركة فن البوب، والتي ازدهرت في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، وحققت انزياحاً أكيداً عن تقاليد الفن المعروفة فتبنت اليومي والعادي، وعمد فنانوها إلى إعادة التقييم البصري لما يشكل جزءا من حياة المجتمع الغربي، وهذا الفن حسب هاملتون: «فن شعبي، ابتدع من أجل الجماهير، وهو فن متغير من يوم إلى آخر، ذو طابع آني، قليل التكاليف، غزير الإنتاج» وتأثر أيضا ببعض المدارس الفنية كالدادائية والسريالية، وما أخذه عنها يتلخص في تقنية الكولاج والتركيب والتجميع وهي تقنية قال عنها أولينير: «يمكنك أن ترسم بأي مادة تعجبك، بالأنابيب والطوابع البريدية والبطاقات أو أوراق اللعب.. وقطع القماش والجرائد» وهي من التقنيات التي تقوم على إعادة التدوير وتبنّي العادي واليومي. وبذلك يكون فن البوب قد انزاح عن المدارس الفنية السابقة وإن كان قد أخذ عن بعضها ما يلائم توجهه. وأيضاً ظهرت حركة إعادة التدوير في إيطاليا سنة 1960، وسمي الفن الناتج عنها «الفن الفقير»، ويرى النقاد بأن كلمة الفقر، المقصود بها هو المواد الأولية المهملة، أما الأعمال الفنية الناتجة عن هذه المواد فلها قيمتها الجمالية التي يضفيها عليها الإبداع. وما يمكن تسجيله، هو أن فن إعادة التدوير يقوم على استعمال مواد تنزاح عن تلك التي اعتاد الفنانون استعمالها، وسماها بعض النقاد، «المواد غير النبيلة»، وعدم نبلها يتلخص في انعدام قيمتها كمادة أولية لكن الفنان يستطيع تحويلها إلى أعمال فنية ذات قيمة من خلال إضفاء لمسته الروحية عليها، واتخذ الفن القائم على إعادة التدوير مع هؤلاء الفنانين شكلا محددا، ومعهم أيضا أصبحت المادة أساسية للفنان. وتدوير النفايات وتحويلها لأعمال فنية ظهر أيضا بعد الحرب العالمية الثانية التي خلفت تلوثا بصريا فادحا نتج عن الدمار وكتل النفايات، فتم لجوء الكثير من الفنانين إلى إعادة التدوير سعياً لإعادة بعض الجمالية المفقودة إلى المدن بسبب الخراب، واستعملوا نفايات الحرب في إنتاج أعمالهم الفنية. أما فن إعادة التدوير مع الفنانين المعاصرين فقد تمردوا من خلاله على السائد، وحاولوا التعبير عن الرفض الأكيد لما تتعرض له الطبيعة من عنف ناتج عن النفايات، وأسهموا في نشر الوعي للحفاظ عليها بطرق جمالية، كما جنحوا للمغايرة والتجديد في أعمالهم. هلع على البيئة بما أن البيئة هي المستقبل المتشارك بين الناس، والكوكب موطن للجميع، فلا بد من التغلب على كل المشاكل التي تتهدده، وخاصة لما يتعلق الأمر بالطبيعة التي تعد متلازمة مع الإنسان ولا يمكن أن نفصل أحدهما عن الآخر، والمخاطر المهددة للأولى تظهر نتائجها مباشرة على الأخير، لذلك لا بد من تعدد الحلول للحفاظ على الطبيعة، وفن إعادة تدوير النفايات أحد هذه الحلول. اتجه الكثير من الفنانين التشكيليين المعاصرين إلى تحويل ما لا قيمة له من نفايات منزلية وصناعية كالعلب البلاستيكية والألمنيوم والأسلاك والأقمشة والكرتون والزجاج إلى أعمال فنية محملة بأبعاد وقيم جمالية وأيضاً منزاحة عن المتعارف عليه في المدارس الفنية التقليدية. والأكيد أن الأعمال الفنية الناتجة عن التدوير جاءت كنتيجة حتمية للتغيرات التي لحقت الواقع، فسعى من خلالها الفنانون إلى نشر رسالة توعية بضرورة الحفاظ على البيئة، فغيروا آليات اشتغالهم في إطار بحثهم المستمر عن المغايرة، واستطاعوا تحويل التافه وما لا قيمة له إلى ما هو جمالي حيث يقوم الفنانون بمنح النفايات حياة ثانية من خلال الخلق الفني، وأيضاً الإسهام في الرقي بالذائقة البصرية، فهل نجح هؤلاء الفنانون في توصيل رسالتهم، أم لا يزال الأمر يتطلب جهودا أكبر لمقاومة تهديد تغوُّل الاستهلاك الزائد عن الحد والذي ينتج المزيد من النفايات؟. إن ما يميز الأعمال الفنية الناتجة عن التدوير هو تحيزها للغرابة والالتباس، وهو التباس مقصود من قبل الفنانين، حيث من خلالها يسعى هؤلاء إلى تغيير وعي المتلقي تجاه محيطه وأيضا الرقي بثقافته البصرية، خاصة وأن هذا الاتجاه لا يتوجه لفئة دون أخرى وإنما هو موجه للجميع وفيه نوع من السعي إلى دمقرطة الفن. ولما يقوم الفنان بإعادة التدوير فإنه يتخلى بالنتيجة عن نبل المواد ليستنجد في عمله بما لا قيمة له، كنوع من المغايرة والرفض، وأيضا كنوع من فتح المجال للمتلقي للتأمل والاقتناع بأن التغيير ممكن ببضع لمسات، حيث النفايات يمكن تحويلها إلى قطع فنية ولما هو جمالي. بحثاً عن التغيير واهتمام الفنان بإعادة التدوير يعد تأكيدا على وعيه بقدرة الفن على الإسهام في التغيير وأنه مرآة للعصر، ويؤكد ذلك الفنان التشكيلي السوري «باسم الساير» وهو من الفنانين الذين يحولون النفايات إلى قطع فنية: «بتخفيض كمية النفايات التي ننتجها، نصل إلى عالم أكثر إشراقة وبهجة، ولا يوفر لنا ذلك إلا الفن»، ورغم أن النفايات قطع ميتة فإن الفنان يعيد لها الروح من جديد لما يحولها إلى قطع فنية لها قيمة جمالية ويساهم في تخفيف العبء عن البيئة المهددة، فيرى الفنان والنحات السوري سليمان أحمد أيضا بأن: «الهدف من الفن البيئي هو الإقناع بأن كل شيء يرمى من الممكن أن يشكل عملا فنيا إذا أعيد تدويره بشكل فني». ونظرة أرهف على عملية إعادة التدوير في الفن تؤكد جدواها في تمكين الفنان من تنويع تجربته الفنية وتجاوز الحدود الممكنة في الفن إلى آفاق جديدة تجعل رؤاه أكثر اتساعا فيحقق خصوصيته وينزاح من خلال أعماله عما هو تقليدي ومتعارف عليه. ورغم أن فن إعادة التدوير، فن هش وهو جزء من العادي واليومي ولجأ له الفنان للتوعية بالمخاطر المحدقة بكوكبنا وأيضا كنوع من التخلي عن السامي والراقي، وهذه السمة لصيقة بالفن المعاصر، لكن ما يميزه ويحسب له، هو أثره الإيجابي على المتلقي، حيث يتلقى هذا الأخير الفن كجزء من حياته اليومية، لأن الفن الناتج عن إعادة التدوير حسب الناقد المغربي فريد الزاهي: «يتسلل إلى الهواء الذي يتنفسه المتفرج، بحيث يعيش هذا الأخير الفن باعتباره كيانا عاديا من ضمن كيانات أخرى». ومن مميزات فن إعادة التدوير أنه يمنح الأعمال المنجزة خصوصيتها كما أنه جزء من الفن المعاصر، وهذا الأخير حسب فريد الزاهي: « يصبح فنا ملتبسا، لا يقطع مع ما ليس فنًا، بل يستلهم الأشياء اليومية ويمنحها وضعية جديدة ومعنى جديدًا أيضًا». ومعظم هذه الأعمال مختلفة ومنزاحة عن مقاييس ما اعتدنا رؤيته وتسائل ذوقنا الفني وتنزاح عن القواعد وتخلق الصدمة والدهشة للجمهور، فتحقق له المتعة الجمالية وترفع وعيه بضرورة الحفاظ على البيئة. من خلال ما سبق يتأكد بأن الفنانين التشكيليين يتشاركون الهلع مع كل الأطراف على مصير البيئة، فسارعوا إلى الإسهام في إنقاذ ما يمكن إنقاذه، وحاولوا من خلال ذلك التأسيس لإعادة صوغ علاقة الإنسان بالبيئة من خلال توعيته بأهمية التدوير وجعله يتذوق بصرياً ما ينتجه الفن الناتج عن ذلك. تدوير المشاهير جين بيركينز واحدة من الفنانين الغربيين المعاصرين الذين اعتمدوا إعادة التدوير في أعمالهم الفنية، وهي فنانة من المملكة المتحدة حيث تعيد تدوير ما تعثر عليه من مواد؛ فأعمالها تتكون من عدة أشياء، كالأزرار والخرز واللعب وغيرها، وقد أعادت استنساخ اللوحات الشهيرة كالموناليزا والفتاة ذات القرط اللؤلؤي وأيضاً بعض الوجوه الشهيرة كإينشتاين والملكة إيليزابيت ونلسون مانديلا.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©