الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الدخول والخروج من الموت

الدخول والخروج من الموت
14 يونيو 2012
قليلة هي الأعمال الروائية التي تناولت مدينة أبها جنوب السعودية كفضاء تدور فيه الأحداث، وبغض النظر عن فنون أخرى كالقصة والمسرح، هناك روايات كتبت ضمن هذا الفضاء المليء بالحكايات ووظفت عوالمه في الأسطورة الشعبية أو اكتفت به مسرحاً لطرح قضايا هامة بارزة في هذه المنطقة عموماً.. مما يعنى بحوار التقاليد والتراث والعادات وبقية النظم الاجتماعية. هناك إبراهيم شحبي وإبراهيم مضواح وعبدالله ثابت وأحمد أبو دهمان وغيرهم ممن أفادوا من هذا الفضاء في الكتابة السردية، مستفيدين من حياتهم ضمنه ومعطيات المكان بالنسبة لهم. وبين يدي رواية صدرت مؤخراً عن دار طوى تحت عنوان “الباب الطارف” للروائية عبير العلي التي عرفت أيضا كاتبة للشعر، وهي روايتها الأولى، اختارت لها مدينة أبها كي تسافر بنا نحوها عبر أحداث قصة الحب بين حنين وسعد، حنين التي خبرت هذا المجتمع وفهمت ثقافته عن كثب ثم مع أول تصادم بين أجنحتها والعادات والتقاليد التي تستقر بصلابة مثل جبال عالية في الأرواح، مع أول أسئلة الحياة داخلها حيث تولد منها شرارة البحث وتوقد فيها جحيم يتنازع الطرقات، تتوقف حنين لكنه ليس توقفا طويلا بل توقفا يسكنه العمق وتمنحه العاطفة ظله المناسب.. كيف لا وهي أحبت سعداً، وبدأ كل شيء في المكان يدل عليه أو يكوّن ذاكرة تخصه وحده، بدءا من الباب الطارف مروراً بذلك الممر حتى الغرفة التي في الجزء القديم من المنزل إلى آخر كل ما تحفظه الذاكرة بل ويسكن في تفاصيل كل الموجودات، وها هي تقول: “كما اتفقنا تماماً سأترك لك الباب الطارف كما تسميه جدتي المجاور لفناء منزلكم مواربا، وأنت أمضيت من السنوات بيننا ما تستطيع معها أن تجد طريقك لغرفتي التي ما زالت تقع في الجزء الطيني القديم من المنزل، سأترك لي مهمة الانتظار ولك لهف الخطى والمغامرة، أماري في التحدي وأجلس بهدوء مصطنع بين رسائلك وكارم حتى تحين منك إطلالة..”. كانت هذه خريطة الحب وغواية المكان التي تأثثت بحكايتهما معا، حتى والسفر يحول بينهما والظرف يستبد بهما لكنه ليس أعلى من غيوم نبضيهما فتأخذها الأوقات إلى القراءة ومحبة الشعر: “لم يعلم بأنك أصبحت في داخلي نورا لا تصله الأيدي ولا يغيب..”. يأخذهما الغياب وهما حالة حضور في بعضيهما، ولا تتركها الحياة غضة كثيراً، بل سرعان ما يحزنها الموت من حولها تارة وتصارع الأفكار المعتمة من حولها تارة أخرى. وبين مد وجزرلا يكبر إلا الأسى على صفحة الأيام في هذه المدينة الفاتنة، وكأن الأشياء لا تكتمل سوى بهذا الصراع المر بين الحرية والنوافذ الضيقة وبين باب موصد وآخر طارف.. تتزوج حنين بعدما فقدت الأمل في عودة حبيبها، ويصلها عبر كذبة لا تغتفر خبر زواجه، فتقرر أن تنعطف وتعيش حياتها في محاولات مستميتة للتخلص من كل شيء يمت له بصلة، وكم هي مهمة شاقة خصوصا وهي الآن في عهد رجل آخر تتزوجه كحل إضافي للنسيان، وتبدأ من جديد مشكلتها مع وجودها الصعب مع قوانين مجتمع ذكوري قد لا يغفر لأي زلة أو خطأ، وعليها أن تحتمل كل هذا في سبيل مهمة النسيان.. ولكن كيف وهذا الباب الطارف يقف هناك في مكان يفضح نبضات القلب ويعري الروح نحو مرادها، الباب البطل الخفي في هذه الرواية، البطل الذي ظل يحرك الأحداث ويبوح بالحكايات ويفتح نحو أسئلة الإنسان في مجتمعه البسيط الذي لوثته السنوات بعد أن كان مزهرا بالحب، و(بصحبة النقا)، كما هو التعبير الجنوبي الذي تذكره عبير العلي ويشكل أهمية في فحواه ومدلولاته. لم يكن كافيا كي تنجو حنين من عذاباتها مع الذاكرة ومع واقعها الجديد، بل عاشت فصولاً من المأساة أدت إلى انفصالها لاحقا حتى عاد الأمل مرة أخرى بعودة سعد واتضح أن زواجه لم يحدث أبداً، وأن وراء ذلك الوشايات التي كانت تحاك ضدهما، فيتزوجان بعد كل هذا المشوار ويتوجان الحياة وكفاحها والحب الذي كاد أن ينتهي لولا الروح التي تبعث الأمل في الأصقاع البعيدة من الغياب، ثم يرتسم نداء الوطن وترتسم معه الأسئلة الصعبة.. الحب الوطن.. والخيارين يتجاذبهما القلب.. يذهب سعد للقتال عبر الحدود الجنوبية ضد هجمة الحوثيين وهناك يقتل.. لكن عبير العلي تمسح عنا تعب هذه النهاية بفيض الأمل ومعنى الحب في حقيقته وجوهره فتهمهم حنين: “لن أذهب لأي مكان، سأبقى بانتظارك هنا ولو طال بي الانتظار العمر كله”، وتتداعى حنين: “ترحل ينازعني فيك الوطن ولا أملك إلا التسليم..”. وبلغة شعرية فاتنة تختم عبير العلي هذه الرواية منتصرة للحب كوطن لا يمكن الاستقالة منه، وللوطن كحب علينا تحمل كل نتائجه في نبضات القلب، وتمنح الأسطر الأخيرة روح طمأنينة يشوبها الحنين حين يحزن: “لكني لا أريدك أن تخاف علي من الوحدة أو على وجودك من النسيان حتى لو غيبك الموت.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©