السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

«عزيز» العربي في حالة انتظار

«عزيز» العربي في حالة انتظار
14 يونيو 2012
يبدو أن فكرة (الانتظار) التي تناولها المسرحي الايرلندي صموئيل بيكيت، وعرضت أول مرة على خشبة المسرح عام 1959 في مسرحيته الشهيرة “في انتظار جودو”، التي اعتبرها بعض النقاد واحدة من روائع المسرح الحديث، ما زالت تحظى باهتمام بالغ من جانب الكتاب والمخرجين حتى يومنا هذا، على النحو الذي تابعناه مؤخرا في نتاجات السينما العربية، بعد أن قام المخرج والسيناريست شريف وهبه بتقديم فيلم روائي قصير بعنوان “عزيز”، وقبس فكرته عن رواية الكاتب البولندي المعروف مارك هواسكو بعنوان “الرسالة”. الفيلم العربي الجديد قام بتجسيد أحداثه كل من أحمد بدير، عايدة رياض، محمد يونس، مي القاضي، بهجت عدلي. “في انتظار جودو”، التي كتبها بيكيت بين أكتوبر عام 1949 ويناير عام 1950، وترجمت حتى الآن الى خمسين لغة أجنبية، وعندما ظهرت لأول مرة في طبعة جماهيرية، بيع منها في فرنسا فقط نحو مليون نسخة، ومنذ ذلك الوقت ما زالت المسرحية تحمل إشكالياتها وتفسيرات النقاد المتعددة لمضمونها الذي سحر المشتغلين في مجال المسرح والسينما والأدب، وخرجت علينا بأشكال كثيرة، كانت جميعها بلا استثناء أسيرة لفكرة الانتظار والخلاص والبحث عن منقذ لا يأتي، وهذه في الواقع فكرة عالمية خالدة ومتوالدة وصالحة لكل وقت، فأين هو المنقذ؟ واين هو المخلص؟ وأين هو النموذج البطولي الذي نحتاجه في وقت اصبح فيه الانسان على الهامش؟ موضوع فيلم “عزيز” لا يختلف كثيرا عن فكرة مسرحية بيكيت، التي صورت لنا كلا من فلاديمير وأستراجون وهما ينتظران جودو كي يخلصهما من عبث العالم، ومن وحدتهما وعزلتهما وكآبتهما، لكنه لا يأتي رغم التوسل والثرثرة بعد أن قضيا حياتهما في حديث طويل، تنتهي معه المسرحية ولا يحضر، ولا أحد يعرف عنه شيئا، حتى بيكيت نفسه لم يعرف من هو جودو الذي قتل وبدد أحلام ابطاله. يحكي فيلم “عزيز” قصة رجل قضى عمره في إنتظار رجل البريد (البوسطجي) كي يأتيه بخطاب مهم، لكن الخطاب لا يأتي، ورجل البريد لم يحضر، ولم يمر حتى بالمكان الذي يعيش فيه بطل الفيلم، الذي أدمن الخمر والكلمات وأحلام اليقظة وانتظار الليل الطويل حتى تحوّل مع الوقت الى كاتب خطابات، يكتبها لنفسه، خطاب تلو الآخر وكل واحد فيها ممتلئ بأوهامه وخيالاته وأحلامه الكثيرة التي لا تنتهي. صور الفيلم بطله على أنه رجل إتكالي، يريد أن تأتيه الفرصة جاثية على قدميها، لكن الفرصة في عالم اليوم لا تأتي إلا بالجهد والعمل والبحث والكدّ، وينتهي الفيلم نهاية مأساوية مريرة صادمة، فعندما يصل الخطاب يكون الرجل قد رحل عن الدنيا بعد أن ضاقت به سبل الحياة التي لم يعد يتحمل قسوتها وخيباتها ومرارتها، فهو لم ير منها سوى التعب والهمّ وصعوبة التكيّف مع المجتمع والناس والقوانين والمشاكل الكثيرة التي لا تنتهي، فقد توقف الحوار ولغة الكلام بينه وبين من حوله. هذه الاحداث وغيرها تدور في حارة مصرية صغيرة يعيش فيها بطل الفيلم عزيز، الذي قدمه بروعة وتميز الفنان احمد بدير، الذي حوّلته ظروف الحياة الى رجل مدمن، لا همّ له في هذه الدنيا ولا شغل له فيها سوى إنتظار البوسطجي كي يسأله عن رسالة ينتظرها منذ زمن طويل، لكنه لا يأتي الى هذه الحارة المنكسرة مثل انكساره وليله الطويل، فيما تعمل أم علي صاحبة البيت الذي يستأجره منها على الزواج منه بأي طريقة ووسيلة، وهو منشغل فكريا بماضيه المرير الذي يتلخص في زوجته التي هجرته بعد أن عاد من العمل في إحدى الدول العربية خاوي اليدين بلا أموال. ينتهي فيلم “عزيز” بخبر تزايد المقاومة العراقية للقوات الأميركية في العراق، وتكتب على الشاشة جملة بحروف كبيرة هي: “لكل منّا انتظار”، وفي الواقع فإن هذه الجملة لا تحتاج الى تفسير سواء كانت في مسرحية صموئيل بيكيت أو في فيلم شريف وهبة أو حتى في رواية البولندي مارك هواسكو، فالانتظار سواء كان إيجابيا او سلبيا هو الانتظار بكل حمولاته من قلق ومرارة وفرح وخوف وأمل لا يتحقق. لكن ربما أجمل ما يكون في تصوير الحالة عربيا من خلال هذا الفيلم الجميل ما تمثل في مأساة البطل الذي يصور حالة عربية ماثلة أمامنا اليوم بكل وضوح وشفافية في بناء فني متصاعد، من خلال رؤية سينمائية مستقبلية تقوم على عناية فائقة في اختيار الشخصيات والأحداث والصور المتتابعة والأماكن وزوايا التصوير، مع دمج بارع للقطات التسجيلية والدراما الواقعية بمزج الجالة العامة للمجتمع والناس والحالة الخاصة التي عاشها بطل الفيلم طوال 60 دقيقة من الانتظار والقلق وجذب المتفرج الى هذا الكادر الخاص جدا، لتصبح مع الوقت حالة واحدة يعيشها الجميع اسمها الانتظار، في حارة مصرية صغيرة، بدت لنا من خلال لقطات وكادرات مؤثرة من خلال كاميرا مدير التصوير المحترف وائل يوسف الذي قدم لنا في الواقع مشاهد مؤثرة ساهمت الاضاءة الطبيعية في تحديدها وجمالياتها سواء في تصوير الواقع المتردي للبطل من خلال ديكورات غرفة عزيز المهترئة او من خلال أسطح المنازل الفقيرة التي بدت من خلالها المباني الكبيرة والمتنوعة ما يعكس الفوارق الطبقية من خلال هذه المباني ومستوى المعيشة المختلف للمجتمع. مونتاج الفيلم الذي بناه بتوازن جميل رفيق جورج كان احترافيا بكل ما تحمله الكلمة من معنى من خلال السلاسة والنعومة في تركيب المشاهد بما يتناسب وفكرة وموضوع الفيلم، وقد عكس جمال المونتاج وضوحا عاما لفكرة ولقطات العمل وتدفق الأحداث التي وصلت للمشاهد مصقولة ومتساوية زمنيا ومكانيا، وقد حقق هذا الجمال من التقطيعات جمالا إضافيا لهذا الفيلم الجميل والجريء والجاد للسينما المستقبلية أو الطليعية التي نتطلع اليها . ما يميز هذا الفيلم في جانبه التقني المناظر والديكورات الطبيعية التي غلبت على سياق الاحداث ونقلاتها السريعة، وقد لعب مهندس الديكور ومركب المناظر إيفان أديب دورا مهما في تجهيز ديكورات طبيعية ساهمت بقوة في وضوح مأساة وطبيعة وحالات الشخصيات وسلوكها وانفعالاتها مع الاحداث داخل الحارة، بما يتناسب أيضا مع الموسيقى المعبرة وكانت موسيقى عالمية امتزجت بعناية مع جملة الأغنيات العاطفية المستمدة من روح واعمال الفنان الراحل محمد عبد المطلب، والمطرب الراحل صالح عبد الحي، والمطرب كارم محمود، وموسيقى شعبية مختارة. وقد أسهمت هذه الأغنيات وتلك الموسيقى البديعة في إشاعة حالة من الشجن، كما أحدثت نوعا من التعاطف مع مأساة بطل العمل، حيث أكد الفنان المخضرم أحمد بدير على عمق الاداء ومقدرة على التجسيد من خلال البساطة والخبرة والمهارة والاستفادة من الأداء المسرحي في تحديث الأداء السينمائي. كما قدمت الممثلة عايدة رياض دور أم علي بمهارة عالية وبخاصة أدائها لدور المرأة التي تعاني من الفراغ العاطفي والبحث عن رجل في حارة مصرية بسيطة تعج بالمشكلات والفقر والقلق والمعاناة والبطالة والفساد الاجتماعي مثل الكثير من المجتمعات العربية التي تعاني ذات المشكلات. “عزيز” فيلم روائي عربي جديد، إنه قطعا ليس فيلم شباك، لكنه نوع من أفلام السينما المستقبلية الجديدة التي تحمل في جنباتها فكرا جديدا ورؤية تصورية للشارع العربي...
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©