السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

عراء فسيح

عراء فسيح
14 يونيو 2012
أرض النَّسر في الحيرة ذاتها، المرّة كعصارة الألم، يتموّج الجسد، يرتعد يئنّ ويتكسّر، وينطرح آخر الأمر مثل أرضٍ شهدت حرباً، فصارت خفيفةً، وصار الهواء يهبّ عليها، ويحملها بين يديه مثل بقايا قميص ممزق. ذلك الجسد نفسه هو أرض النَّسر. أرض عاليةٌ وطائشةٌ في الفضاء، تتصبّبُ بالأنفاس، وتخفق مثل جناح ممسوس. أين أجدكِ؟ في أيّة بلاد أعثر عليكِ، أيّتها المرأة المشتهاة، المرأة المنسوجة من خيوط المطر، والتي تهبُّ ضحكتها عليَّ في المساءات الوحيدة مثل زوبعة عظيمة من الخواتم؟ أتذكّر كيف اتّكأتُ أمام جرن النّار في المرّة الأولى، وكيف رحتُ أهذي. أتذكّر تلك الرّفرفة العذبة للأصابع، أتذكّر إغماضة العينين، والشّفتين اللتين راحتا تتقدّمان في الظّلام مثل سمكتين محاربتين. أتذكّر تلك الانعطافة المباغتة الفرسيّة، والسّكتة المدوّية! ثمّ ذلك الضّوء الثّخين الأسود وهو ينزّ قطرةً قطرةً من عين الحيوان. أين أنتِ؟ يداكِ نائيتان وعنقكِ يتوهّج مثل سيفٍ في قبضة السّراب! ليس لي بيت لأذهب إليه. ليس لديّ حصانٌ ليخبّ بي في منحدرات الريح. ليست عندي أطيان أو أكياس مملوءة بالفضّة. أنا محض أمير منسيّ من حاشية رسمي أبو علي، ألعب بالكلمات على الرّصيف، وأسوّي منها تماثيل لنساء متخيّلات، نساء لا يشبهنكِ في شيء، يا شقيقتي في اليأس، أيّتها المرأة المتكوّمة قربي مثل قارب محطّم قذفت به الأمواج. المرآة لا تدلّ عليكِ المرآة ورقة مقدودةٌ من دفتر الحلم. أيّهما أكثر حقيقيّةً أنتِ أم صورتكِ؟؟ لأكن أكثر دقّة، وأعاين المسألة. أنتِ محض كائن مسكين وبائس في شعاب هذه الغابة البشريّة التي تعجّ بالمجرمين واللصوص! والتي لا تعرف مصيرها المجهول الذي ستؤول إليه ذات يوم. أنتِ لا تدرين أيّ طالع معتم يتربّص بكِ في منحدرات الأيّام. هل فكّرتِ يوماً في الشّيخوخة، وفي تلك التّجاعيد التي ستغزو جسدكِ؟ هل انتبهتِ إلى رتل النّمل الذي بدأ يتسلّق ربوتكِ الخضراء وذلك الرّمل الأصفر المتطاير القائم في الأعماق؟ أيّتها الصّبيّة المرحة والتي ستغدو بعد قليل مجرّد ببولينا مهدّمة، إن كان لكِ من مأثرة، فمأثرتُكِ الوحيدة في الحياة تتمثّل في تصعيد الغواية. بالغواية فقط أنتِ تستطيعين أن تصعدي ذلك المعراج الحلميّ المعراج الذي يؤدي بكِ إلى أرضكِ العالية أرض النّسر كلّ شيء لا يكتب عنه الشّاعر لا يُعوّل عليه. كلّ شيء لا يلمسه ولا يمنحه بركة الكلمات لا يُعوّل عليه. وأنتِ لا بدّ لك من مديح ما تدبّجه من أجلكِ راحتاه المشغولتان بالخلق. أتعرفين أنّ الزّهرة قائمة في فكرتها لا في عطرها! وكذلك القمر الشاخص في الأفق مثل عين ضريرة! أتعرفين أنّ البحر هو غير هذه الأمواج التي تتراءى أمام ناظريكِ، وأنّه قائم فقط في لغة الحلم التي يهجس بها الشّاعر؟ من أجل هذا كلّه لا بدّ لكِ من الدّخول إلى قلبه من تلك البوّابة الوحيدة: الغواية حسب. ازدلفي له حتى تكون لحياتك معنى ضلّليه حتى يعتقد بالحبّ. بالحب ستطئين أرض السّعادة والرضا. بالحب ستحصلين على خلاصكِ الوحيد. فالحب سيزوّدكِ بالأجنحة، وسيمنحكِ القدرة على التّحليق. حينها سوف تنسين الألم الفادح الذي تسبّبه لكِ الأيام، وذلك الشّوك الذي يجرّح قدميكِ الصّغيرتين في طريق الحياة. بالحب أيضاً ستولدين مرّةً ثانية، فكلّما ذبلت أزهار بستانكِ وغزا حقلك الجراد كلّما خفق قلبكِ مثل نجمةٍ بالضّوء، وسرت في عروقكِ النّار. أيمكن أن يكون كلّ ذلك وهماً: المرأة والحبّ والشّاعر الذي يكتب القصيدة! وليمة الحجر حين رأيتها أول مرة، خيّل إلي أنني أعرفها منذ زمن بعيد، وأنها واحدة من منحوتاتي التي ربما أنجزتها في الألف الثالثة قبل الميلاد.. إن ضربات إزميلي ما تزال واضحة منذ ذلك الزمن، خاصةً في منطقة الخدين الطويلين السائلين مثل شلالي نار. الأكثر من ذلك هذا الجرح الغائر أسفل الذقن إذ يبدو لي أنني سهرت عليه طويلاً وأنه أرقني قبل أن أتمكن من نحته بأظافري على هذا الشكل الحاذق! كل شيء كان يشي بذلك الرعب الذي خلّفته أصابعي وأعصابي في تفاصيل هذا الحجر الشفاف الذي يقف الآن أمامي ويلقي عليَّ نظرته السريعة كما لو كان يراني سهواً، وكما لو كنت واحداً من الفضوليين الذين لا علاقة لهم بمجرى حياته. هل ما حدث معي كان حلماً عابراً من أحلام اليقظة؟ هل كنت أتوهم؟ إنني لا أعتقد ذلك، إذ إنها هنا تتألق بكامل فتنتها أمامي، وها إن دمها يتأهب للطيران.. ثمّ أخيراً ها هي تتمتم ببضع كلمات، وبشكل أدق ها هي تهمهم بأصوات غابرة أجدني غير قادر على فهم مغزاها. أصوات غريبة تتسرب إلي من جوف هذا الحجر الذي هو أمامي، أصوات تترنح وتصلصل كما لو كانت حشد أفاعٍ يطل علي برؤوسه من كهوف بدائيةٍ ويبدأ بالفحيح، أصوات خفيفة تطير كالمناديل، ولكنها لو سقطت على جبل لتهدم بكامله.. أصوات تحرث الجسد بمخالب طويلة ومعقوفة وتترك آثارها عليه مثل رماح المحاربين. أصوات لحيوانات وكائنات ممسوخة ووديان تتكسر فيها حجارة الرعد، أصوات تندفع فجأة وتنقطع، إذ تمتصها على آخرها آلاف الأفواه المفتوحة للكائن المكان. يا إلهي الحجر ينطق الحجر يهيئ لي وليمته الباذخة، من لحم الصواعق وعصارة النار. أصوات، وطوى المكان نفسه كالسحابة، وغادر مفسحاً المجال لعراء فسيح أن يظهر، لهياكل أشجار عملاقة، وهواء أحمر ينفجر فجأة من جهة بعيدة، وكائنين خرافيين يشتبكان في عناق لذيذ: أنا وهي. كانت النار تسيل من أطراف الأصابع كان الدم فوق الدم والأقدام على الهاوية وكنت أنادي عليها فيما هي ملتصقة بي، وأظافرها تخدد صدري. كنت أصيح وأقول: تعالي منتظراً أن تجيء مرة ثانية. أسقط من سماء سابعة، وأنظف رأسي من رصاصة الحلم الطائشة، وأعود لأتأملها من جديد: العينان واسعتان تسيل منهما موسيقى سوداء، الأنف طويل مثل منقار صقر، الشفة السفلى في أقصى نضوجها وتوشك على السقوط. هذا الوجه بالضبط، بهذه الملامح التي ليست لامرأة على وجه الأرض سوى لها.. المرأة التي تقف الآن أمامي، والتي يخيّل إلي أنني عرفتها منذ زمن بعيد، ترى هل هو وجه حقيقي أم هو مجرد قناع، قناع لا غير. إنني لا أعرف تماماً.. إن كل ما أعرفه هو أن سطح العشبة أوسع كثيراً من السماء. المرأة تشبه قفصاً، من القفص تتسرب إلينا موسيقى ناعمة لعدد هائل من البلابل والعصافير، غير أن القفص فارغ تماماً من الطيور. المرأة تشبه حديقة. الحديقة تهب منها رائحة الخزامى والأقحوان، ولا أثر فيها للورد. المرأة تشبه شجرة مكتظة بالخضرة. الشجرة دون أوراق وثمار. ودون ظل أيضاً. المرأة أي كلمة ملعونة تخرج من أفواه الشعراء؟ وإذا لم تكن كذلك فأين يمضي كل هذا الحشد الهائل من الطواويس؟ أين يمضي قصب الضوء، وتلك القباب المعجنة بالنار؟ وكيف تقضي وقتها المرأة التي ازعم أنني نحتها قبل خمسة آلاف عام؟ صدفةً التقيتها ثم شاهدتها بعد ذلك، ورأيت كيف كانت تسير مترنحةً تحت عبء جسدها الملعون الذي كان يبدو لكائن آخر لا علاقة له البتة بها، جسدها الذي كان يتصبب بالنار ويترك وراءه شريطاً طويلا من الحرائق!
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©