الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

شُرُفات على التّاريخْ

شُرُفات على التّاريخْ
4 أكتوبر 2017 20:18
د. منصور جاسم الشامسي الحُصونُ والقِلاعُ وجْهٌ مِنْ وجوهِ الوجودِ والحضارةِ الإنسانيَّيْن، وشَكَّلتْ ضرورةً حياتيةً، وهي مُفْعَمةٌ بالجَماليّ والدَّلاليّ، تَتَمَرْأى بَصَرياً بِفُنونِها الْمِعْماريةِ، وهَندستِها، وآفاقِها، مُنسابةً في المَدى الأرضِيّ، ولَعبتْ أدواراً حاسِمةً في نَشأةِ المُدنِ والدُّولِ والمُجتمعاتِ والإمبراطورياتِ، وكانتْ مُنَظِمةً لِشُؤونِها، مَعْنيةً بإصلاحِها، ومن جِهةٍ أخرى، انْتهجَتْ نَهْجَ السَّيطرةِ على المجالاتِ الحَيويةِ في الحياةِ، لتأمينِ الوُجودِ، أو النُّفوذِ، أو الهَيْمَنةِ، أو تَحقيقِ التَّمدُّدِ، بوسائلَ عِدَّةٍ، فَضلاً عَنْ قِيامِها بوظائِفَ اجتماعيةٍ. كانتِ الحُصونُ والقلاعُ مراكزَ قُوّةٍ. في التاريخِ العربيِّ الإسلاميِّ، الحُصونُ والقِلاعُ عَمارةٌ عسكريةٌ، ترافقتْ مَعَ نَشأةِ البُيوتِ والمساجِدِ، فكانَتْ نُواةَ مَدائنَ، والأسوارُ الّتي عَرَفَتْها المَدائنُ العَربيةُ التاريخيةُ حُصونٌ. كما أدّتِ الحُصونُ والقِلاعُ دَوْرَ البُيوتِ، والمَساكنِ، والمَنازلِ، بمُسْتَلْزَماتِها. ومُصطلحُ «القَلْعَةِ» العربيُّ دَخَلَ قواميسَ بَعضِ اللُّغاتِ الأجنبيةِ، في دَلالةٍ على قُوةِ التّأثيرِ الحَضاريِّ العَربيِّ، فالثَّراءُ العربيُّ الإسلاميُّ، في الشرقِ الأدنى، تَحديداً، بالقلاعِ والحُصونِ، أَثّرَ في العَمارةِ والهَندسةِ الأوروبيّتَيْن للقللاعِ والحُصونِ، عَبْرَ التَّواصُلِ، أو التَّجاذُبِ، أو الصِّراعِ، أو التَّفاعُلِ بينهما. «القَلْعَةُ» اسْتِحكامٌ عَسْكَريٌّ بَحْتٌ، مَعَ مُستَلْزَماتِهِ المُتَنوّعَةِ، في حينِ أنَّ «الحِصْنَ» يَشهَدُ أنشطةً مَدَنِيةً أوسعَ، كالحياةِ السياسيةِ والاجتماعيةِ، إلى جانبِ سِمَتِهِ الحَرْبيةِ، الصِّرفَةِ، في دَلالَةٍ على التَّواشُجِ السّياسيِّ الاجتماعيِّ العَسكريِّ الرُّوحيِّ الثَّقافيِّ. «القَلْعَةُ» تَتَمَيَّزُ بسماتٍ رئيسةٍ، كالشُّرُفاتِ المُتقدِّمةِ، والأقْواسِ والزّوايا، والمَتاريسِ الدّفاعيةِ، والأبراجِ، والمَشْرَبيّاتِ التي تَلعبُ دَوْرَ النّوافِذِ، والمَداخِلِ المُتعَرِّجَةِ؛ جَمالياتٌ مِعماريةٌ، وللقَلْعَةِ نظامٌ إداريُّ وعسكريٌّ، وقَدْ تَحملُ القلاعُ، أو بعضُها، مُسمياتِ «القُصور»، أو سِماتِها لجَمالِ عَمارتِها، وحياتِها الأَرِسْتُقراطيةِ. القَلاعُ والحصونُ كانتْ سُكْنى لأباطرةٍ وجَبابرةٍ ومُلوكٍ وأُمراءَ ونُبلاءَ وخُلفاءَ وقَادةٍ وفُرسانٍ ومُناضلينَ ومُجاهدينَ ومُرابطينَ، وغَيْرِهِمْ مِنْ مُقاتلينَ، أو مُغامرينَ، على اخْتلافِ مشاربِهِمْ، خاضُوا وقائعَ، وحوادثَ، مُتنوّعةً مِنْ نِزاعاتٍ وصراعاتٍ وحُروبٍ؛ غَزْوٍ، دفاعٍ، فُتوحٍ، مُغامراتٍ، ثَوراتٍ. كما لازمتْ عوالِمَ القِلاعِ والحُصونِ أساطيرُ، وقِصصٌ خُرافيةٌ، غَرائبِيَّةٌ، تَفاعلتْ معَ قِوى الطَّبيعةِ، و الأدواتِ السّحْريّةِ. البُعْدِ الإماراتيّ دولةُ الإماراتِ العربيةِ المُتحدةِ، في إماراتِها السَّبْعِ، تَتمَيَّزُ بكثافةِ القِلاعِ والحُصونِ، ذاتِ التَّنوُّعِ المِعْماريِّ والهَنْدسيِّ، وتشييدُها يَعكسُ أهمّيةَ مَوقِعِها التاريخيّ، التجاريّ، الاستراتيجيّ، واسطةَ عِقْدٍ بينَ القارّةِ الهِنديةِ والشّرقِ الأوْسطِ، وآثارُها المُكتَشفَةُ تؤكِّد ارتباطَها بحَضاراتِ بلادِ الرّافِدَيْنِ والسّنْدِ، وأنّ حركةَ التّشييدِ والبِناءِ للقلاعِ والحُصونِ، أو ماشابهَ، تَعودُ إلى ما قبلَ الميلادِ، حيثُ أدّتْ أدواراً عسكريةً وسياسيةً واجتماعيةً، حاسمةً، إلى جانبِ أدوارٍ أخرى. «حِصنُ الزّبّاءِ» في رأسِ الخيمةِ، من أقدمِ الحُصونِ الإماراتيةِ، يعودُ تاريخُهُ إلى القرنِ الثالثِ الميلاديِّ، وبعضُ المصادرِ التاريخيةِ تُشيرُ إلى أنَّ لهُ صلةً بمَلكةِ تَدمُرّ الزَّبَّاءِ. بَعْدَ الغَزْوِ الاستعماريِّ البرتغاليِّ لمنْطقَةِ «جَنوبِ الخليجِ العربيّ»؛ أو «الساحلِ العُمانيّ» (حالياً أجزاءَ من سلطنةِ عُمانَ، ودولةِ الإماراتِ) في عام 1506، شهدتْ حركةُ تشييدِ الحُصونِ والقلاعِ ازدياداً كبيراً، سواءٌ منَ الطّرَفِ الأوروبيّ الغازي، أو مِنْ جانبِ الطّرَفِ العَربيِّ المُقاومِ، بزعامةِ «اليَعاربَة»، قادةِ الِمنطقةِ في ذلكَ الوقتِ، في دَلالةٍ على احْتدامِ الصّراعِ بينَ الطَّرفينِ. وبعدَ انْتصارِ المُقاومةِ العَربيةِ، ورحيلِ الاستعمارِ البُرتغاليّ، استمرَّ بِناءُ القِلاعِ وتشييدُ الحُصونِ، حيثُ تَعرَّضتِ الِمنطقةُ للْغَزْوِ الهولنديِّ، في القَرنِ الثامنَ عَشَرَ الميلاديِّ، ثمَّ الغزوِ الإنجليزيّ، في القَرنِ التاسعَ عَشَرَ، واستمرَّ بِناءُ القِلاعِ والحُصونِ حتَّى القرنِ العشرينَ. يُوجدُ، حالياً، في الدولةِ، نحوُ مِئةٍ وخمسينَ حِصناً وقلعةً، حافظتْ عليها؛ لمْ تندثِرْ، حيثُ اندثرتْ أعدادٌ كبيرَةٌ من الحٌصونِ والقِلاع في الإماراتِ، سواءٌ في تاريخِها المُعاصرِ، أو ما قبلَ. (انظر: «الحُصون والقِلاع في دولةِ الإمارات»، للباحثِ: علي محمّد راشد). البُعد المُعاصر حالياً، هذهِ القلاعُ والحصونُ، إلى جانبِ كونِها إطلالاتِ ماضٍ، فهيَ امتداداتٌ جماليةٌ نائمةٌ، ومراكزُ جذبٍ سياحيٍّ وثقافيٍّ وروحيٍّ؛ فعلى سبيلِ المثالِ، مدينةُ «ديزني لاند»، الأمريكيةُ، مُتأثّرةٌ بنظام القلاع المعماري الهندسي الزُخرفيّ الألمانيّ، والحركةُ التشكيليةُ العالميةُ تَعُدُّ القلاعَ والحُصونَ مصدرَ إلهامٍ لها، كما أنّ حركةَ الترفيهِ والتسليةِ والتثقيفِ، عَبْرَ صناعةِ الأفلامِ العالميةِ، والسينما الحديثةِ، تمْزِجُ مواضيعَ القلاعِ والحُصونِ التاريخية وحياتَها، بالفنِّ والعلمِ والخيالِ الجامحِ والتّقنيةِ الحديثةِ، والمؤثراتِ الصوتيةِ والبصريةِ، بصورةٍ خَلّابةٍ ومُدهشةٍ، لتُنتجَ أفلاماً مَلحَمِيةً ذاتَ تأثيرٍ عالمِيٍّ. البُعدُ العاطفيّ تستبطنُ القلاعُ والحصونُ، وامتداداتُها؛ القصورُ، والأمكنةُ، «البُعدَ العاطفيَّ، حيثُ احتوتْ أفنيتُها وفضاءاتُها قِصصَ حبٍّ ومَلاحمَ عِشقٍ واقعيةٍ، أو خياليةٍ، أو مزيجاً مِنْ واقعٍ وخيالٍ؛ دراما وتراجيديا، أبطالُها عاشقونَ وعاشقاتٌ كتبُوا التاريخَ بشكلٍ آخرَ؛ تاريخاً عاطفياً تواشَجَتْ فيهِ سياقاتُ الحُلُمِ والبطولةِ والتَّضحيةِ والأدبِ والحُبِّ والجَمَالِ، مُتشابكةً خيوطُ هذا التاريخ العاطفيّ، بدرجاتٍ مُتباينةٍ، معَ التاريخِ السياسيِّ والاجتماعيّ والاقتصاديّ للدولِ والمجتمعاتِ، وممتدّةً منَ المألوفِ والمُتَوقّعِ، إلى المُفاجئِ المُدهشِ. وفي مسألةِ الحُبّ، تخلعُ الأبنيةُ الحجريةُ أنسجةَ الحديدِ وكُتلَ الذخائرِ، والتقاتُلِ، والغُبارِ، والهَدرِ والخساراتِ، والفَقْدِ والخوفِ والمتاريسِ، وتَرتدي ورودَها، تخطفُها نشوةُ القلوبِ، والقُبَلُ، ويتغشَّاها الشَّذا، وتكونُ حِكمةُ الهوى مُمتدةً تشملُ الحياةِ كلَّها. القُوّةُ العاطِفيَّةُ السّابحةُ تَقتحمُ سَطوةَ الأحجارِ تُقيمُ مَمالكَ الماءِ والغُصونِ. القُوّةُ العَاطفيَّةُ إرادةٌ ونورٌ وخِصْبٌ وزِينةٌ وظِلالٌ ويَنابيعُ ومَلاذٌ وبُشرى دائِمةٌ، وهي مُرتَبطةٌ ارتباطاً شديداً بالإنسانِ وفِطرَتِهِ ومَصالِحِهِ الطبيعيةِ المشروعَةِ. الجَبَهاتُ الحَجَريَّةُ تَتَهاوى مُرْتعِشةً مِنَ التّقدُّمِ العَاطِفيِّ في الحَياةِ. العاشِقونَ آمنونَ في سَريرِ العاطفَةِ، روحُهم واعيةٌ، بَدْئِيَّةٌ، بمَنْزِلَةِ الشَّمْسِ والقَمَرِ، مُنْدَفِعةٌ للأرضِ تُقيمُ ممالِكَها المُحَلِّقَةَ، وتصنَعُ كُنْهَ الحياةِ، والحيويَّةِ، والطاقَةِ النَّقيَّةِ، وهي مَصدرُ»النُّمُوِّ الحَقيقيِّ»، والجَنائنِ الماثِلةِ والبَعيدةِ، والصَّدى الحاضِرِ؛ تَبقى في السُّموِّ الأعلى، حاكِمةً، والحَجَرُ خادِمٌ، يَبقى في الأسفلِ. القُوّةُ العاطفيّةُ تصنعُ الدَّمجَ، والانسجامَ، والتناغُمَ، والطُّمأنينةَ والسَّكينةَ وتَمُدُّ الجُسورَ، وتُزيلُ الخَوفَ والاضْطرابَ والعَذابَ، نَسْعَدُ بها ونَنتشي، ويَتناثَرُ الشِّعرُ، مَصيريّاً، يَمسحُ الغُبارَ عن بُيوتِ الوالهينَ. باقٍ الشِّعرُ، وباقٍ العاشِقُ؛ إرادةٌ مُشتركةٌ، في تَحالفٍ مع الماءِ والنَّباتِ، تُعيدُ بِناءَ القِلاعِ والحُصونِ والقُصورِ والأمكنَةِ بشكلٍ آخَرَ.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©