الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

في مرآة الحيوان

في مرآة الحيوان
10 فبراير 2016 21:32
العادل خضر أن تجري حكمة الإنسان ومنطقه على ألسنة الوحش والطّير فذاك ما تزخر به أمثال كليلة ودمنة وخرافات لافونتين، فقد كان الحيوان في هذا النّوع من الأدب لسانَ الإنسان وهو يتكلّم من وراء قناع. وسواء أكان المتكلّم حكيماً أم مجنوناً، ظلّ الحيوان في ذلك الأدب دهراً يُعير قناعه لوجه الحكمة أو الجنون، وما زال هذا القناع إلى اليوم يُطالعنا بين الفينة والأخرى في أعمال روائيّة بطلها حيوان يتكلّم كالحصان، أو الكلب على نحو يكون فيه الوضع البشريّ موضوعاً لنظرة الحيوان، وهي نظرة لا تجعلنا نعيد التّعرّف إلى الأشياء وإنّما تحملنا على أن نحسّ بها إحساساً ينطوي في حدّ ذاته على رؤية فيها من الغرابة والتّغريب ما من شأنه أن يحمل القارئ على أن يجدّد طرائق إدراكه للعالم ويحييها، فيطرح على الوجود أسئلة نسِينَاها في خضمّ الحياة. تزاحم القناع في آدابنا الحديثة صورة أخرى من صور الحيوان هي المرآة، أو المرآة الحيوانيّة. وهي ليست من جنس المرائي الصّقيلة الّتي تعكس صورة الإنسان وقسمات الوجوه ودقيق تفاصيلها، وإنّما تُرجع إليه صورته إرجاعاً ليتدبّر بواسطتها شأنه الحيوانيّ أو حيوانيّته الّتي ما فتئ يتوارى منها بأقنعة العقل والحكمة وبلاغات الكلام المضلّلة، فأمام الحيوان ما فتئ الإنسانُ في التّصوّر المسيحيّ أو الدّيكارتيّ وحتّى الفاشستي ينكر حيوانيّته، فكلّما مارس الحب كما نقول اليوم، اقترب من منزلة الوحش الحيوانيّ وابتعد عن طبيعته الأخلاقيّة والرّوحيّة. هذا النّكران ما فتئت تقاومه مرآة الإنسان الحيوانيّة، وتؤكّد بصدقها الّذي لا ينخدع انتماء الإنسان إلى جنس الحيوان عامّة بما أنّه ككلّ الكائنات الحيوانيّة يولد ويحيا ويموت. ولعلّ هذا الاعتراف بحقوق الإنسان الحيوانيّة، وإن كانت قد أنكرته بعض الإيديولوجيّات والأديان والفلسفات، قد وجد في الأدب صورته أو صوره المختلفة. تجربة الوحدة غير أنّ المرآة الحيوانيّة الّتي تعنينا في هذا المقام إنّما هي حيوان أعجم لا يتكلّم ولا يعير شيئاً من كيانه سوى صمتِه. وليس صمت الحيوان طرساً يُسجّلُ عليه الكلامُ، وإنّما هو مرآة تَستقبلُ صورة الذّات الّتي تتكلّم، أي الصّورة الّتي يصنعها الكلام بصمت الحيوان. ويُمكن أن نتساءل: هل يستقبل صمتُ الحيوان كلَّ كلام؟ أم هو ضرب من الصّمت لا يستقبل إلاّ الكلام الّذي تكون فيه الذّات المتكلّمة قد خاضت تجربة يمكن أن نسمّيها تجربة الوحدة. فأن يكون المرء وحيداً في العالم هو في حدّ ذاته جرح، ولكنّه جرح لا ينفتح إلاّ بالكلام. وإذا استحضرنا أنّ (ك.ل.م) في اللّسان من معانيها الجرح، أصبح المتكلّم بكلامه جارحاً وجريحاً، بل بذلك الجرح الّذي يحدثه الكلام تنفتح الذّات المتكلّمة على وحدتها، أو على وعيها بانفصالها عن العالم، غير أنّ هذا الانفتاح لا يكون في تجربة الوحدة إلاّ أمام الحيوان ورفقته، ولا ينكتب إلاّ بصمت الحيوان ونظرته الخرساء، فالصّمت والحيوان كلاهما شيء واحد. وعندما يجابه الإنسانُ صمتَ الحيوان يُفرض عليهما بالضّرورة وضع الوحدة بما هي تجربة. وإذا علمنا أنّ الفعل الّذي اشتقّ منه لفظ الاستعارة في اللّسان الإغريقيّ، وهو (metapherô)، يعني في اللّسان العربيّ (حمل وانتقل وتحوّل)، صار من الطّبيعيّ أن لا يكون الكلام في تجربة الوحدة مجرّد عمل من أعمال القول وإنّما سبيل المتكلّم إلى أن ينحت بالكلام كينونة أخرى، فالكلام في تجربة الوحدة لا يرسّخ قدم الذّات المتكلّمة في العالم وإنّما يضاعف من إحساسها بانفصالها عنه كلّما ازداد وعيها بذاتها حدّة، ولكن ما هو العالم الّذي تحاول الذّات الانفصال عنه؟ يقول موريس بلانشو: «حين أكون وحيداً، لا أكون موجوداً هنا». فقولي «أنا موجود» هو إثبات للكينونة بمعزل عن الآخرين ومن دونهم. وهذا بالضّبط هو ما نسمّيه وحدة حين نكتشف بقول «أنا موجود» العدم الّذي يؤسّس الذّات المتوحّدة. حينها يغدو الإنسان واعياً بذاته بوصفه منفصلاً، منسيّ الكينونة، أي يصبح على وعي بأنّ جوهره ليس في أن يكون فحسب، وإنّما في أن لا يكون. وإذا ربطنا ذلك كلّه بتجربة الوحدة قلنا إنّ الإنسان في وحدته يتجلّى له كلّ ما كان يُخفي كينونته ويجعله كائناً منسيّاً. هذا المنسيّ هو الّذي ما فتئ الفنّ الرّوائيّ يجتهد في مقاومته بإظهاره أو باستكشافه، وإذا كان نصيب كلّ رواية هو أن تكتشف جزءاً من الوجود فإنّ الرّواية الّتي تتوسّل بالمرآة الحيوانيّة، أي بصمت الحيوان، هي الرّواية الّتي تحاول أن تختبر الكائن في وحدته وهو يحاول أن ينفصل عن العالم بمقاومة القوى الّتي تحاول أن تجعله نسياً منسيّاً. حِيَل السماء ولعلّ هذا الافتراض يمكن أن نفحصه من خلال عمل روائيّ هو رواية الصّادق النّيهوم البكر «من مكّة إلى هنا». وهي رواية شخص من سواد النّاس، يدعى مسعود الطّبّال، قد جُرّد من كلّ صفات البطولة الّتي تجعله فوق النّاس. ولعلّ طرافة هذه الرّواية تكمن في أنّ مؤلّفها قد سوّاها بأسلوب جرّده من الحيل السّرديّة الّتي جعلت من سارق نار كبرومثيوس بطلاً أسطوريّاً، ومن بحّار كأوليس بطلاً ملحميّاً، ومن ملك كأوديب بطلاً تراجيديّاً. فبين الشّخص في التّاريخ والشّخصيّة في فنون التّخييل مسافة كتلك المسافة الّتي تفصل مملكة الواقع عن إمبراطوريّة الخيال. إلاّ أنّ القصّ بسحره وفتنته وأحابيله، أي بالأعمال السّرديّة المختلفة، يميل دوماً إلى تقليص هذه المسافة وطيّها، جاعلاً من الإنسان العاديّ شخصيّة فوق العادة في أجناس القصّ النّبيلة، أو دون المعتاد في أنواع السّرد اللّهْويّة. وهذا الانقلاب في منزلة الشّخص لا مفرّ منه في فنّ السّرد، لأنّه دون ذلك التّحويل الّذي يضاهي عمل الاستعارة والحلم واللّعب، لا توجد الشّخصيّة القصصيّة ولا تكون. غير أنّ فنّ الرّواية رغم تقلّبه قد ظلّ طيلة تاريخه الطّويل يحاول دون هوادة أن يستكشف في كلّ رواية، أو على الأقلّ في الأعمال الرّوائيّة الكبرى، جانباً مجهولاً من الوجود. فما يمكن أن تكتشفه الرّواية يمثّل في حدّ ذاته علّة وجودها. ولعلّ ما حاولت رواية «من مكّة إلى هنا» أن تستكشفه من خلال تتبّع شخصيّة مسعود الطّبّال هو هذا الجزء المجهول من الوجود البشريّ حين يشعر الإنسان أنّه وحيد في العالم وإن كان بين النّاس، ولكنّها وحدة قد قرّبته إلى الحيوان وهيّأته لنوع من التّحوّل يسمّيه دولوز الصّيرورة الحيوانيّة. ليس مسعود الطبّال ضابط إيقاع كما توحي بذلك كنية الطبّال وإنّما هو صيّاد أسماك، يذكّر، بعناده وشيخوخته ووحدته، بشخصيّة سنتياغو، الصيّاد الشّيخ، في رائعة إرنست هيمنغواي الشّهيرة «الشّيخ والبحر». تدور أحداث رواية «من مكّة إلى هنا» زمن الاحتلال الإيطاليّ لليبيا، أيّام كانت على أحد وجهي العملة صورة موسيلينيّ، ولكنّها صورة تشير أيضاً إلى الحضور الإيطالي السّياسي الّذي أحكم قبضته على الأهالي وبدأ في تجنيدهم استعداداً لغزو الحبشة، كما تشير إلى حضوره الاقتصاديّ من خلال الجالية الإيطاليّة الّتي مثّلتها في الرّواية صاحبةُ المطعم الإيطالي في قرية الصّيّادين، السّنيورة توريستا، أو الرّوميّة كما يناديها أهالي القرية، وكذلك المزارعُ الإيطاليّ، السّيسيليّ الأصل ذو الرّجل الخشبيّة، أو«قوارب الإيطاليّين المزوّدة بالمحرّكات والشّباك العملاقة» (ص112)، أو الكنيسةُ الّتي قرّرت الحكومة بناءها بسوسة. يمثّل هذا الحضور الإيطاليّ خلفيّة الرّواية التّاريخيّة، ولكن ينبغي أن نضيف إليه تأثيره في بنية العلاقات الاجتماعيّة، فقد استفاد من هذا الوضع الجديد أصحاب القوارب الكبيرة الّذين أغرقوا السّوق بالسّمك فقضى بذلك على صغار الصّيّادين الّذين عجزوا عن دفع الضّرائب ورسوم الرّخصة. ويعلّق مسعود الطّبّال، بطل الرّواية، على هذا الوضع الجديد بقوله: «إنّ العمل في بنغازي لم يكن في صالح أحد من الصّيّادين القدماء» (ص30). وقد اضطرّه هذا الوضع الجديد إلى الاغتراب والتّنقّل بين قرى الصّيّادين. نزاع التأويل تجري وقائع الرّواية «في قرية الصّيّادين الواقعة على طرف خليج سوسة» (ص5). والحقّ أنّ الأحداث في هذه الرّواية قليلة لأنّ معظمها كان يدور في سريرة البطل وباطنه أكثر ممّا كانت تجري في أرض الواقع، فالمتأمّل في مستوى القصّة يجد بصفة مجملة أنّ الأحداث واقعة بين اضطرابين متشابهين: جدَّ الاضطراب الأوّل في بداية الرّواية لمّا غرق صبيّ أحد الصّيّادين وهو يحاول صيد سلحفاة من سلاحف البحر، وقد أعقب هذا الحادث شغب شديد أثار قرية الصّيّادين الّذين «قضوا ثلاثة أيّام كاملة في البحث عن الجثّة داخل منطقة الكهوف» (ص12)، فلم يعثروا على جثّة الصّبيّ إلاّ «عند العصر وراء منطقة الأعشاب الواقعة في طرف الحافة الشّرقيّة» (ص14). وإثر الجنازة تشاجر فقيه القرية ومسعود الطّبّال. وهو شجار قد رسمه المؤلّف في اللّوحة التّالية: «وكان الفقيه قد دعاه إذ ذاك «عبداً سكّيراً تربّى على أكل لحم الخنزير في بيوت الإيطاليّين»... وكان قد تشاجر معه في المقهى بعد عودتهم من جنازة الصّبيّ، وقال له على مسمع من روّاد السّوق... إنّ زنجيّاً زانياً مثله لا يجوز أن يبقى في سوسة يوماً واحداً...» (ص15). أمّا الاضطراب الثّاني فقد حدث لمّا حاول صبيّ آخر من أبناء الصّيّادين أن يصطاد ذكر سلحفاة كان قد ظهر في وسط الخليج وكان قد امتطى قارب مسعود الطّبّال ليطارده، وما إن رأى الفقيه «الصّبيّ يجلس في قارب الزّنجيّ ويلاحقه بمجدافه متّكئاً على حافة الدّفّة» (ص117) حتّى ثارت ثائرته. في البداية شتم الزّنجيَّ أمام الصّيّادين، ثمّ انقلب الشّجار إلى عراك لمّا رفع الفقيه «عكّازه في الهواء ولطم الزّنجيّ على وجهه» (ص119) فما كان من الزّنجيّ إلاّ أن هوى بذراعه على وجه الفقيه الّذي خرّ على أثر اللّطمة على الأرض مغشيّاً عليه. ولكنّ العراك لم يتوقّف عند هذا الحدّ، فقد استنجد الفقيه ببني عمّه الّذين هجموا على الزّنجيّ بعصيّهم، فكسروا ذراعه، ولم يتمكّن من التّخلّص منهم إلاّ بمعونة زوجته. بعد ذلك خفّ التوتّر، ففي الأحداث الأخيرة من الرّواية خرج مسعود الطبّال وهو يحمل شبكته مظهراً أنّه يريد صيد السّمك «وكانت شبكة الزّنجيّ قد خدعت أمهر الصّيّادين» (ص141) لأنّه في الحقيقة قد بيّت أمراً آخر هو أن يصطاد ذكر السّلحفاة الّذي ظهر في وسط الخليج، ولكنّ الرّواية تنغلق والفقيه قد طعن من الخلف وهو يتأهّب لرمي بيض سلحفاة في البحر دون أن تفصح على نحو صريح عن هويّة المعتدي. ويمكن أن نتساءل عن القادح الّذي كان يشعل في كلّ مرّة فتيل كلّ شجار؟ إن تأمّلنا في الأحداث الّتي تلت كلّ اضطراب ألفينا معظمها قد كان محكوماً باختلاف في تأويل الوقائع أو باختلاف النّظرة إلى الأشياء والموجودات في العالم. آية ذلك أنّ بعض الأحداث لم تُروَ كما وقعت بالفعل وإنّما جرى عرضُها كما أُدْرِكت. فأقوال الشّخصيات المحوريّة في هذه الرّواية ليست تمثيلاً للحدث وإنّما هي تأويل له، فالأقوال في هذه الرّواية لا تُمثّل الحدث مباشرة وإنّما تُمثّل إدراك الشّخصيّة للحدث، أي تُمثّل طريقة فهمها لما جرى، بحيث تصبح أقاويل الشّخصيّات تأويلات مختلفة للحدث الواحد، ويحملنا ذلك إلى أن نعتبر أنّ ما نشب من شجار أو عراك إثر كلّ اضطراب مردّه إلى اختلاف تأويل الشّخصيّات لبعض الأحداث، فغرق الصّبيّ في مطلع الرّواية قد أوّل بطرق مختلفة، يمكن حصرها في طائفتين متقابلتين: اختلفت تآويل الطّائفة الأولى في تحديد مكان جثّة الصّبيّ، ويفسّر اختلاف التّأويل باختلاف الشّهادات، فكلّ شاهد رأى الجثّة في مكان مّا من الخليج أو خمّن أنّها موجودة في مكان مّا باعتماد بعض القرائن، ورغم اختلاف التّآويل كانت كلّها موضوعيّة لأنّها فسّرت اختفاء الجثّة بعوامل طبيعيّة كالتّيّار المائيّ، فكان القول يثبت ما هو موجود، أو ما تستقرئه نظرة العين من قرائن وعلامات، وبذلك كان تأويلها بالقول على قدر ما رأته العين ووعاه الإدراك. أمّا الطّائفة الثّانية فيمثّلها فقيه القرية الّذي اعتبر أنّ الصّبيّ لم يظهر لأنّ أسياد البحر لم يطلقوا سراح الصّبيّ أو أنّ السّلحفاة الجريحة حبسته في الكهف لأنّ «الصّبيّ ما يزال في منطقة المياه العميقة وما يزال مكتوف اليدين في كهف سيّدته الجريحة» (ص13)، ولتخليص الصّبيّ «ذبح الفقي في السّاحة الرّمليّة كبشاً أدغم محجّلاً بالبياض، ثمّ أحرق حوافره في إناء فخّاريّ وكتب فوق ضلوعه بالحبر المصنوع من الصّوف المحترق.. ونثر الرّماد على طول الحاجز الصّخريّ وراء الخليج» (ص13). وحين عثر الصّيّادون على الجثّة أَوَّل خلاصها بقوله: «إنّ السّلحفاة ظلّت في المنطقة حتّى تمّ العثور على الجثّة، وأنّ الأسياد حضروا بعد ذلك مجلّلين بالسّواد ومشوا في جنازة الصّبيّ» (ص14). فتأويله لما جرى عقديّ لأنّه نابع من تصوّر أسطوريّ ينفي فيها صورة الحيوان الظّاهرة، معتبراً أنّها تخفي صورة أخرى لا تُرى. فكان تأويله أو قوله نفياً لما يُرى رأي العين وإثباتاً لما لم تره العين. وعلى هذا النّحو نرى كيف قسّمت حادثة الغرق الشّخصيات وفق اختلاف تأويلها لما جرى. وقد تحوّل هذا الاختلاف إلى خلاف حين قال مسعود الطبّال للفقيه «على مسمع من الصيّادين إنّه لا يصدّق كلمة واحدة ممّا قاله عن الأسياد، وأنّه رأى الجثّة بنفسه عند مدخل الكهف» (ص14). ومن ثمّة انقلب الخلاف إلى خصومة وعراك كان قادحها نزاع التّآويل بين الشّخصيات، وهو نزاع تكشفه أيضاً النّظرة الّتي تحملها بعض الشّخصيات إلى بعض الكائنات، ونعني هنا السّلحفاة. من ذلك أنّ الفقيه يعتبر السّلاحف حوريات البحر وصيدها يهدّد القرية بحلول لعنتها عليها، مثلما تعتبر زوجة مسعود أنّ صيد السّلاحف هو السّبب المباشر في عقمه وعدم إنجابه، فكلاهما يرى في السّلحفاة غير ما هي عليه على الحقيقة بينما يرى مسعود الطبّال السّلحفاة مجرّد «فكرونة». الخسران ويمكن أن نتساءل ما علاقة نزاع التّآويل هذا بالمرآة الحيوانيّة وتجربة الوحدة؟ ينبغي أن نسجّل قبل كلّ شيء أنّ أغلب الأحداث الواقعة بين الاضطرابين معظمها من ماهية نفسيّة، وقد كان مسعود الطبّال قطبها وبؤرتها، فهي في غالبيّتها ذكريات وأحلام أو خواطر وأخيلة نابع معظمها من إحساس عميق بالوحدة، وهو إحساس طاغٍ في الرّواية مثّل بتوارده المنتظم الغرض الأهمّ فيها، ويمكن أن نعزو هذا الإحساس إلى أسباب عديدة لعلّ أبرزها في تأويلنا خسران الحِمَى أو المجال، فعندما يفارق المرء أرضه، يفقد عالمه أيضاً، فيعتكف بذلك الفقدان على ذاته اعتكافاً يمكن اعتباره شكلاً من الحداد، بوصفه عملاً نفسيّاً تتشبّث فيه الذّات وتقاوم كلّ ما من شأنه أن يقطع الأواصر الّتي تشدّها إلى موضوع شوقها، أو موضوع الفقدان، وهو ها هنا الأرض. هذا الشّكل من الحداد نجده على نحو صريح في هذا الحوار الّذي دار بين مسعود الطّبّال وزوجته: «وقالت امرأته من طرف الوسادة الحمراء المزيّنة بهلال فضّيّ: اسمع لماذا نتورّط في شراء أرض في سوسة؟ هذه ليست بلدنا.. هل سوسة بلدنا؟ نحن عجوزان طاعنان في السّنّ وقد نلنا نصيبنا من الدّنيا، وأدار لها الزّنجيّ ظهره دون أن ينصت إليها ثمّ قال بعد ذلك: سوف نذهب إلى مكّة، هذا ما نزمع أن نفعله. إنّني لن أشتري أرضاً في سوسة على أيّ حال. لماذا أفعل ذلك؟ أنا مجرّد عبد وحيد مغترب هنا، وسوسة ليست بلدنا.. ثمّ لوّح بيده في الظّلام، وقال شارد البال: سوسة بلد الفقي وأبناء عمّه المسلّحين بالعصيّ.. أنا لا أملك بلداً على الإطلاق.. سوف نبيع قطعة الأرض ونذهب إلى مكّة المكرّمة» (ص 29-30). ولا يكشف هذا الحوار موضوع الحداد وهو فقدان الأرض والبلد في قول البطل: «أنا لا أملك بلداً على الإطلاق»، وإنّما يوضّح دلالة «مكّة» الواردة في رأس العنوان. فمكّة عند الغرباء الّذين فقدوا المكان هي أرض الميعاد وأرض الحلم. يمكن أن نتساءل مرّة أخرى ما علاقة خسران الحمى بما هو شكل من الحداد بالمرآة الحيوانيّة وصمت الحيوان وتجربة الوحدة؟ ينبغي ها هنا أن نستحضر تلك المعادلة الّتي صاغها بودريار في مقالته الجميلة «الوحوش والمجال والتّحوّل» على هذا النّحو: «ليس للوحوش لا شعور لأنّ لها مجالاً، ولم يكن للنّاس لا شعور إلاّ حين لم يعد لهم مجال». ورغم أنّ هذه المعادلة تقتضي تحليل العلاقة بين اللاّشعور والمجال فإنّه من الممكن أن نستأنس بها في تأويل تجربة الوحدة تأويلاً فضائيّاً نصوغه على هذا النّحو: كلّما خسرت الذّات مجالها تشكّلت بنية الحداد الفرديّ حيث يتكرّر دون توقّف أو أمل هذا الخسران. وليس الحيوان أو الوحوش سوى مرآة ذاك الحنين، ولكن لماذا الحيوان؟ لأنّه يمثّل المجال، فالوحوش لا تفارق مجالها ولا تهاجره إلاّ إذا انتزعت منه. وعندما تراءت لمسعود الطّبّال صورته تارة في الجرذ: «والتقت عيناهما في نظرة بسيطة خالية من العداء، كانا ينتميان إلى عالم واحد... وفجأة خطر بباله أنّ الجرذ في الواقع صيّاد مثله» (ص 76-77). وطورا في النّورس: «ذلك النّورس ليس معمّماً على كلّ حال.. إنّه أسود الرّأس... أعني أنّه زنجيّ مثلك». (ص97-98). فإنّه في واقع الأمر يعرب من خلال تماهيه فيهما عن شوقه إلى أن يكون له مجال، أو وطن أو حمى، أو مكان مّا في العالم، فالجرذ والنّورس هما المرآة الحيوانيّة الّتي على صفحتها يتكرّر هذا الحداد بما هو خسران وفقدان وافتقار للمجال، ولكنّ هذا التّوحّد الاستيهاميّ بين البشريّ والحيوانيّ لا يعني تحوّل الصّيّاد من هيئة بشريّة إلى صورة حيوانيّة أو من ماهية إلى أخرى، وإنّما هو تحوّل حيوانيّ فحسب قد تحقّق في الرّواية لمّا حلّ الحيوان محلّ المجال المفقود، فالحيوان صورة الخسران، وما صمته سوى المرآة الّتي ترى فيها الذّات فداحة ما فُقِدَ. .............................. الهوامش: الصّادق النّيهوم، من مكّة إلى هنا، تالة للطّباعة والنّشر، طرابلس ليبيا، الانتشار العربي، بيروت لبنان، الطّبعة الثّانية، 2001 (الطّبعة الأولى، دار الحقيقة، بنغازي، 1970). شيء يشبه الموت كان يعرف أن الصبي قد استدار بقاربه لكي يقطر السلحفاة وراءه، وكان يريد أن يدركه قبل أن يقترب من الرف الصخري الضحل، وقد انطلق يجري بأقصى سرعته في اتجاه اللسان الممتد على بعد نصف ميل إلى الشرق ملوحاً بيديه في الهواء.. وعندما استدار عبر انحناءة اللسان نفسه توقف فجأة وصرخ بأعلى صوته: - ابتعد عن الصخور.. لا تدعها تلمس الأجراف.. دعها وشأنها. وكان الصبي قد لاح خلال برهة قصيرة عبر انعكاس الشمس ثم اختفى مرة أخرى فيما كان صوت محركه ينمو باطراد على طول الرف الصخري وصرخ والده لآخر مرة: - ابتعد عن الأجراف.. عد إلى المياه العميقة. ثم استدار عند حافة اللسان وتوقف مصعوقاً فوق المنحدر الصخري المغمور في المياه.. وكان القارب قد بدأ يترنح فجأة حتى مال على جانبه فيما ظهرت السلحفاة وراءه، وهي تجاهد لكي تستعيد توازنها بعد أن غرست عنقها في حافة الجرف الناتئ.. وانزلق القارب على جانبه تحت وطأة الضغط المفاجئ.. وأصدر المحرك أزيزاً عالياً في الهواء عندما قفز الصبي إلى الدفة محاولاً أن يستعمل مجدافه في إبعاد القارب عن الجرف الناتئ.. وفي اللحظة التالية ترنح القارب مرة أخرى وانحشر جسد الوحش المربوط من عنقه في مروحة المحرك.. ثم انكفأ القارب فجأة وهوى الصبي على الجرف فيما كانت السلحفاة تستعيد توازنها فوقه مباشرة.. وفتح الصبي عينيه.. ورأى الكهف العظمي النتن الرائحة ينطبق على غير هدى في كل اتجاه.. ثم أحس به ينهش عنقه في لمسة خاطفة خالية من الألم.. ومد يديه مغمض العينين واحتضنه في هدوء.. رواية: «من مكة إلى هنا» ص (10-11) سرّ الجثة عندما عاد والده في المساء كان الخبر قد انتشر في القرية بأسرها.. وكان أحد ما قد زعم أن السلحفاة حملت جثة الصبي إلى منطقة المياه العميقة وأن والده لم يستطع أن يعثر عليه، لكن الصياد الذي ظل يبحث عن الجثة طوال النهار قال بعد ذلك إن التيار جرفها إلى منطقة الكهوف.. وأنه رآها بنفسه تنزلق في اتجاه حافة الجزيرة الشرقية وسوف يصبح بوسعه أن ينتشلها في اليوم التالي عندما تتحسن الرؤية في منطقة الأعشاب. وقد أقيم مأتم الغلام طوال الليل.. وتجمعت نساء القرية في الساحة الرملية المواجهة للخليج وأصررن على أن يقمن المأتم في العراء حتى يعثر الصيادون على الجثة.. فيما تبرع الفقي بالذهاب إلى الجزيرة لكي يعمل على إطلاق سراح الصبي من أسياد البحر.. رواية «من مكة إلى هنا» ص (13)
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©