الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

أبطال الروايات.. أراجوزات

أبطال الروايات.. أراجوزات
10 فبراير 2016 21:32
عبدالدائم السلامي قَدَرُنا أنّنا لا نُولد أبطالاً، هكذا كتب هنري ميلر، وإنما نولدُ ممتلئين برغبةٍ كامنةٍ في أن نكون أبطالاً حقيقةً أو مَجازاً. وربّما بسبب ذلك يتنامى نزوعُنا -كالأطفال- إلى البحث عن أبطالٍ لنا في أركان تاريخنا الجماعيّ لنتماهى بهم، ومتى عزَّ علينا ذلك، نَتَعنَّى صُنعَهم بأيدينا من صلصالِ مَعِيشنا حتى نستظلَ بظلِّهم من حَرِّ أسئلة وُجودنا ونتسامى على دونيتنا بتساميهم. البطولة لا تتأتّى لنا سهواً رهواً، وإنما هي تَحْفزنا لأنْ نرحلَ إليها رحلةَ المَشقّةِ والصّبرِ، ويكون وكدُنا فيها أن نحمي حُلْمَنا البطوليَّ ونوفّر له كلّ أسباب كمالِه. ولكيْ تطمئنّ قلوبُنا، ترانا نزجّ ببطلنا في تجربة بشريّة واقعيّةٍ أو مُتخيَّلةٍ، ونتركه يركض صوبَ نهايات شغفه كما يذكر ألبير كامو، لنمتحنَ بطولتَه ونَثِقَ في اكتمالِه، وإذ نفعل ذلك لا نتغيّا منه إلاّ امتحانَ صدق رغبتنا في أن نكون أبطالاً، أو في أن يكون لنا أبطالٌ يتجاوزون بنا مَحَلاّتِ هشاشتنا الإنسانيّة. رحلة البطل البيِّنُ في التاريخ الإنسانيّ أنّ اختلاف الجماعاتِ البشريّة في أمور اللغة والفنّ والديانة ومراسم اليوميِّ لم يمنعها من أنْ تأتلف جميعاً في الإنباء بحاجتها الدائمة إلى بطل تحميه ويحميها. غير أنّ سؤالاً يلحّ علينا وصورتُه: لمَ تتشابه الشعوب على اختلاف ثقافاتها وجغرافياتها في تصوّراتها لحال البطل حتى نكاد نعثر في فنونها وآدابها القديمة على صورةٍ له نموذجيّةٍ محمولةٍ في مواصفات جسديةٍ ونفسيةٍ وقِيَمِيَّةٍ مُوحَّدةٍ كالكمال البدني، والشجاعة في الحرب، والإيثار على النفس، ونجدة الآخر، والصبر على المشاقِّ، والتضحية بالذّات الشخصية لصالح الذات الجماعية؟ إنّ سببَ ذاك التشابهِ عائدٌ بالأساسِ إلى وحدة التَّوْق البشريّ إلى وجودٍ أرضيٍّ خالدٍ وقويٍّ، فالتشبّث بالبطل ليس إلاّ تشبّثاً بالحياة في مُنتهى جمالها وكمالها، ذلك أنّ البطل يرحل بآمال مجموعته البشريّة إلى أقصى حدود خلودها حتى يكون فيها كائناً لا يفنى، فإن هو مات عاش خالداً في ذاكرتها. وبسبب من ذلك، اغتنى البطل على مرّ الزّمن برمزيّة ثرّيةِ الدّلالاتِ ما جعل الشعوب تعود إليه في خلال أزمنة يأسها لتَمْتَحَ منه رَواءَ سَرْدِياتها الأرضية قِيَميّاً وأخلاقيّاً وإبداعيّاً، ولتجعلَه حامي ذاكرتها من التلاشي وضامنَ وحدةِ كيانِها الجَمِعيِّ. وقد لاذت تلك الشعوب بآدابها سبيلاً سالكةً إلى نحت أبطالها وفق انتظاراتها الكبرى: الاجتماعية والسياسية والدّينية والثقافية، وإلى تعزيز حضورهم في مُتخيَّلها الجمعيّ عبر زرعهم في مغامرات سرديّة وشعريّة يظهرون فيها قادرين على الارتقاء بكينوناتهم من مَحَلّها البشريّ العاديّ إلى مَحَلّات استثنائيّة. البطل في السرد ويبدو أنّ وحدةَ صفات البطل لدى الشعوب القديمة لم تمنع مسيرتَه في المتخيَّل البشريّ من أن تعرف تحوّلاتٍ جمّةً داخل مدوّنة الأدب العالميّ من إلياذة هوميروس وإنيادة فرجيل إلى آخر الروايات العصرية، وذلك وفقاً لتنوُّع ثقافة كلّ عصر وتشابك وقائع معيشه. وقد اهتدى جوزيف كامبل في كتابه «البطل بألف وجه» إلى رصد تحوّلات البطل في الأدب العالمي من نشأته إلى موته، وحدّدها في خمسٍ رئيسةٍ هي: المحارب، والمحبّ، والإمبراطور أو الطاغية، ومخلّص العالم، والقدّيس. ورأى أنّ «البطل يترك عالَم الحياة اليومية ويُفتِّشُ عن مجال المُعجِزة ما فوق الطبيعية، فإذا ما تغلّب على قوى هائلة، وأحرز نصراً حاسماً، يعود من رحلته المليئة بالأسرار، وكلّه قدرة على أن يُزوِّدَ بني البشر من جنسه بالنِّعم والبركات». غير أنّ هذه التحوّلات المذكورة لم تمسَّ من البطل إلاّ بعضَ موضوعات بطولته، ولم تنصبَّ على تبيّن تحوّلات صورته في متخيَّل مجموعته البشرية. وهي صورة نقف فيها على تخفُّفِها من صفة الاقتدار الجسماني الذي وَسَمَ حالَ أبطال الميثيولوجيا القديمة على غرار هيكتور وأخيل وإنياس وغير هؤلاء كُثرٌ، بل ونلفيها تتعمّد السخرية من هذه الصفة على حدّ ما تشي به حالُ الفارس دون كيخوته في أزمنة قريبة منّا. وإذ تفعل ذلك لا تُخفي نزوعَها إلى التَحَلّي بصفة الاقتدار العقلي الواقعيّ على ما هو بيِّنٌ في الرواية الغربية المعاصرة، خاصة منها الرواية الفرنسية التي نحتْ إلى التخلّي عن قداسة الأصل الإمبراطوريّ أو الدّينيّ أو البورجوازيّ للبطل، وسعت إلى جعله مواطناً من عامّة الناس ومن نَبْتهم الاجتماعي، وعملت على تهميش مفهومه داخل الحكاية وجرّدته من كلّ قداساته ومظاهر تعاليه. وهو أمر نميل إلى تفسيره بقولنا إنّ «عمومية» البطل الروائي الغربي الراهن وليدَةُ مُسوِّغات عديدةٍ، منها تراكمُ تاريخ هذه الرواية النصيّ، ومنها شبعَها من نظامها الحكائيّ «البلزاكيّ» بكلّ تقنياته الفنية المنصبّة غالباً على انتخاب الأبطال من الطبقات الاجتماعية الحاكمة أو الراقية. وربما كان هذان الأمران حافِزيْن لها لأنْ تُجدِّدَ في صُور أبطالها وتُجرّدَهم من انتماءاتهم النبيلة، بل وإلى أنْ تُعلن عن نهايتهم عبر التأسيس لظهور بطولة جماعية ينال شرفَ الاتصاف بها كلُّ مُواطني مجتمع السَّردِ، خاصة بعد أن ازدهرت حضارةُ الفرد الأوروبيّ ونال استحقاقاته الاجتماعية والسياسية والثقافية، وحلّتْ بطولةُ القوانين والتشريعات محلَّ بطولةِ الفردِ الواحدِ. وقد تماهت الروايةُ العربية بالرواية الغربية في تهميش صورة بطلها ووظائفه القِيَمية داخل مجموعته الاجتماعية - وإنْ لم تتجرّأ على إزاحته تماماً من حكايتها - وذلك ضمن انبهارها بموضة التجريب السرديّ دون أن يتنبّه روائيّونا إلى الفارق الحضاريّ بين الروايتيْن وإلى اختلاف هواجسهما. أبطال مهزومون لا يخفى أن ما تعيشه شعوبنا العربية الراهنة من فوضى اجتماعية وقِيَمية عارمة، جعل الناس فريسةً لشُعورٍ حادٍّ بالدّونية الحضاريّة، ممزوجٍ بإرباكٍ ذاتيٍّ أثقل حركة أيامهم ونغّص عليهم صفاءَ أحلامهم، وقوّى لديهم الحاجة إلى بطل يتماهون به في لحظات يأسهم العامّ. إذْ أنّ واقعَهم شحيح بتصنيع أبطال لهم ماديِّين، فإنه لم يَبْقَ لهم من سبيل إلى ذلك سوى أن يتوسّلوا الأدبَ فضاءً مُتخيَّلاً لإنتاج بطلٍ يعلّقون عليه آمالَهم في الانتصار للخير والعدل والكرامة. وإذا ذهبنا مذهب تودوروف وقلنا معه إنّ البطل لا يوجد إلاّ في حكاية، جاز لنا أن نسأل: هل نجحت رواياتنا في صناعة بطل يمثّل بالنسبة إلى قرّائها كائناً استثنائياً يُعلِّلون بكماله نقص كمالهم ويُخفّفون بانتصاراته من ثقل خيباتهم؟ الرأي عندنا أن الرواية ليست حكايةَ واقع تاريخيّ أو راهنٍ، وإنما هي بناءٌ لواقع جديدٌ له حكايةٌ تضيفُ معنى لحكاية الواقع، وينهض على دعائم فنية، وأخرى مضمونية تتعاضد جميعاً لتصنع أدبيتَها وتجعلها جديرة بالقراءة، وبالحياة في أذهان الناس. غير أنّ النظرَ في رواياتنا العربية الراهنة يشي بأنّ وكدَ روائيّينا مُنصبٌّ على الاهتمام بالجانب الشكلي لكتاباتهم، والحرص في ذلك على استثمار أحدث المقولات الغربية دونما تقديرٌ منهم كبيرٌ لمفهوميْ «الحكاية» و«البطل»، إذْ كثيراً ما تُوهمنا الرواية بكثرة أحداثها وتشابكها، فنُعيد قراءتها آملين في الوقوف على شيء قد يكون فاتنا من تلك الأحداث حتى تتضحَ في الذهن حكايتُها، ولكننا لا نظفر من قراءتنا لها إلاّ بفوضى تخييليّة مُحيلة بدورها على فوضى في حضور شخصياتها وعلائقها وأفعالها، وعلى انتفاء معنى من معاني البطولة منها. والحقّ نقول إنّ روايتنا العربية مولعةٌ اليومَ بتصنيع «أبطال» مهزومين ومُهَمّشين، لا، بل وضعيفي البنية النفسية، فتراهم غارقون في محلاّت المراهقة الفكرية أو الجسدية والتعالي الزائف والعصابية والهَذَيانية والرغبة في الانتقام والخضوع إلى السلطة والتحالف مع الشيطان لتحقيق مكاسب مادية، فلا هم إيجابيون كاملون ولا هم سلبيون كاملون (لأنّ التوسُّطَ قد يكون جميلاً في كلّ شيءٍ إلا في البطولة)، حتى لكأنّ روائيّينا، أغلب روائيّينا، مُحَرّكو أراجوزات، لا يعنيهم من البطل إلاّ رقصاتُ نصفه السُّفليّ وإيقاعاتُ شهواته، يفعلون ذلك وهم يتناسون أن للأبطال -إضافة إلى البطون وما جاورها- عقولاً يمكن أن تكون فاعلةً في السرد، وتستطيع أن تُنير عتمةَ أيام الناس، وتكون سنداً لهم في أزماتهم اليومية، فتجيب عن أسئلتهم العصية، وتجدّد لديهم قدرتهم على طرح أسئلة جديدة، وتعضد إصرارَهم على الحضور الحُرّ في العالَم. ونحن واجدون أمثلة لهؤلاء الأبطال في روايات كثيرة، نذكر منها روايتيْ «أصابع لوليتا» و«أنثى السراب» لواسيني الأعرج، حيث نُلفي البطل مندرجاً في تمجيد مراهقته والاحتفاء بمغامراته النسوية، وحين يمسّه تهديد وهميّ يهرب إلى الغرب طلباً للنجاة، تاركاً شعبَه يُقاسي وحدَه ويلات حرب التسعينات في الجزائر مع الجماعات المتطرّفة، فلا يظهر من أفعاله تنبُّهٌ إلى أدواره الثقافية كالوقوف إلى جانب جماعته الاجتماعية في دفاعها عن سيادة العقل ضدّ زحف الظلامية. ويتجلّى «الطلياني» بطل رواية شكري المبخوت في صورةِ شابٍّ مجروحٍ في رجولته، ومهزوم في نفسيته، فهو زوج لا يُخلص الاحترام لزوجته حيث نُلفيه يخونها في غرفة نومها مع صديقتها، وهو مناضل ثوريّ سرعان ما يضعف أمام إكراهات الواقع السياسيّ، فيتناسى أيديولوجيته الثورية ويصير صُحفياً متعاطِفاً مع السلطة القمعية ببلاده التي كان يناصبها العداء زمن دراسته الجامعية. ويظهر «بخيت منديل» بطل رواية «شوق الدرويش» لحمّور زيادة، سجينَ عبوديته وثقافتها السائدة زمن الثورة المهدية بالسودان، بدءاً ومنتهى، إذ تصوّره الرواية عاشقاً لـ «ثيودورا» التي لم يبدُ منها ما يُحيل على كونها تبادله الحبّ نفسَه، ولم يقدر على حمايتها من دراويش المهديِّ الذين عذّبوها وقتلوها، بل هو مَن حفر لها قبرها دون علم منه بالأمر، ما جعله ممتلئاً برغبات الانتقام لها من قاتليها، ومن ثمة ظلّ عاجزاً عن تحرير ذاته من سجنيْ العبودية والانتقام. ولا شكّ في أن صُورَ أبطالنا الروائيّين تحفزُنا لأنْ نُقرّ بأنه مهما كانت أحوالُ الناس في واقعنا، فإنها تبدو أفضل أخلاقياً وثقافياً واجتماعياً من أحوال هؤلاء الأبطال، بل إنّ البطولة صارت تتعاظم حضوراً في ناس الشوارع لا في الروايات، ذلك أنّ الحياة، والمصائب، والعزلة، والهجر، والفقر، كلّها ساحات معارك يقودها أبطال مجهولون هم في أغلب الأحيان أعظم شأناً من الأبطال المكرَّسين على حدّ ما يقول فيكتور هيغو في بؤسائه. وهو ما نزعم معه أنّ روايتنا فشلت في توصيف الواقع، فشلَها في اقتراح بديل عنه، وظلّت في خلال ذلك تلوك أحداثَه اليومية والتاريخية، وتُغرِق في بؤسها جمهورَ قرّائها. ضمور ضمورَ قرائية رواياتنا هو من تهافت حكايتها وضُعف شخصية أبطالها، وذلك على اعتبار أن فشل الروائيّ في صناعة بطله الاستثنائيّ يجعل حكايتَه مألوفةَ المباني والمعاني، ويمنع عنها أن تكون ساحةً لملحمة كتابية يتواجه فيها البالي من القيم وظَلاَمِيُّها مع المُتَوهِّجِ منها بكَوْنيته وتسامُحِه واعتدالِه.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©