الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

مسألة سيادة..

مسألة سيادة..
10 فبراير 2016 21:32
عبدالسلام بنعبد العالي خلال معرض فرانكفورت للكتاب، خصّ المترجم الألماني هارتموت فندريش إحدى الصحف باستجواب دالّ من بين ما جاء فيه اعترافه شاكيا: «لم أتلقّ مكالمة شكر واحدة على ما بذلته فترة طويلة تجاوزت العقود الثلاثة». تطرح شكوى المستعرب الكبير أسئلة عديدة لعل أهمّها: لو كان المترجم الألماني قد نقل أعمالاً عن لغات أخرى غير عربية، عن الإنجليزية مثلاً أو عن الفرنسية، هل كان سينتظر كلمات شكر؟ وفي حال الجواب نفياً عن هذا السؤال، لماذا تطرح هنا بالضبط مسألة الاعتراف بـ«الجميل»، وضرورة تقديم الشكر؟ وما سرّ إحساس المترجم الألماني بأنه، عندما ينقل النّصوص العربية، يقدم للناطقين بلغة الضاد معروفا ينبغي أن يكافأ عليه؟ ربما لن تتيسّر لنا الإجابة عن هذه الأسئلة ما لم نخرج عن هذا الإطار الضيّق ونلجأ إلى مقارنة هذا الموقف، ليس بموقف مترجم خارج الثقافة الألمانية، وإنما موقف منظّر ألماني لمسألة الترجمة لعله يلقي لنا بعض الأضواء على التحوّلات الكبرى التي عرفتها علائق القوة بين «الشرق» و«الغرب». لا شكّ أن القارئ قد خمّن أنني أعني هنا صاحب «الديوان الشرقي للمؤلف الغربي». مما ينقل عن المفكر الألماني الكبير أنه في سنة 1808، وفي خضم الاحتلال النابوليوني، وعندما عزم بعض المثقفين وضع منتخب لأحسن الأشعار الألمانية كي تكون في متناول عامّة القراء، طلبوا مشورته ليرشدهم إلى القصائد الدالة في هذا المضمار، فكانت نصيحته الوحيدة التي أسداها إليهم هي أن يضمّوا إلى الدّيوان أيضا ترجمات ألمانية لقصائد أجنبية، بحجة أن تلك الترجمات تشكّل، في نظر صاحب «الديوان الشرقي»، إبداعات لا تنفصل البتّة عن الأدب الألماني، وبحجة «أن الشعر الألماني مدين بأهم أشكاله للأجنبي، وهذا منذ ميلاده». لا يعتبر غوته إذاً أن الترجمة «إنقاذ» للنصوص المنقولة واعتراف بها، وإنما يرى فيها بالأولى «تطعيما» للثقافة المترجِمة، يقول:«عندما تذبل الآداب القومية فإنها تنتعش وترى الحياة من جديد عن طريق الآخر». فما يهمّه في الترجمة هو كونها أداة «إنعاش» للأدب واللغة. بفضل الترجمة تنفصل اللغة عن نفسها لتستنبت في غير موطنها. على هذا النحو، عندما تنقل اللغة الألمانية الأدب العربي على سبيل المثال، فإننا لا ينبغي أن نرى في ذلك ارتفاعا بهذا الأدب نحو الكونية، وإنما مساهمة في إرساء أسس الكونية ذاتها، أو، بتعبير غوته، فتحاً لعصر «الأدب العالمي» Weltliteratur أي «العصر الذي لا تكتفي فيه الآداب بالتفاعل فيما بينها، بل تدرك وجودها هي في إطار تفاعل ما يفتأ يتزايد». وهكذا فإن الترجمة ستتيح للغة الألمانية لأن تحيا في ذلك الأدب وتنتعش في أحضانه. ها هنا لا يعني تفتّح اللغة على خارجها ابتلاعاً للآداب الأجنبية وتدجيناً لها. إنه، على العكس من ذلك، انفتاح على الآخر، وخروج للهوية عن ذاتها بحيث يصبح إدراكها لذاتها إدراكاً متحوّلا مشروطا بتفاعل متزايد مع آخر، وما يهمّنا هنا هو أن غوته يرى أن الترجمة هي أداة ذلك الخروج. على العكس من هذا الموقف تماماً ينبني موقف المستعرب المعاصر. فهو يعتبر أن نقل النصّ العربي هو مدّ يد المساعدة بهدف جرّ الآخر نحو الذات، والإرتقاء باللغة المترجَمة إلى مستوى الكونية. لا عجب إذاً أن يتوقّع المترجم- المنقذ جزاء واعترافا. لكن ممن ينتظر ذلك؟ يجيبنا هو مباشرة عن هذا السؤال في الحوار ذاته فيقول: «كنت أتمنى لو حدث ذاك من أيّ سفير عربي في سويسرا التي أقمت فيها ونشَرَتْ إحدى دورها العديد من الأعمال العربية». لا يطرح مترجمنا قضية الترجمة على مستوى علائق القوة بين النصوص وبين اللغات، وهو لاينتظر الاعتراف بالجميل من النقاد العرب أو الألمان، وإنما يطرح القضية توّا طرحا استراتيجيا، ويضعها على مستوى علائق القوة التي تربط بلدا أوروبيا كألمانيا بباقي الدول الناطقة بالضاد، تلك الدول التي يمكن أن ينوب عنها، على حدّ تعبيره «أي سفير عربي». إنه يطلب اعترافا «رسمياً» بعيداً عن الثقافة والمثقفين، والكتاب والمترجمين. فكأن مسألة الترجمة عنده ليست أساسا قضية «انتعاش» و«مثاقفة»، ولا هي مساهمة في «بناء الكونية»، بل إنها بالأولى قضية ديبلوماسية، ومسألة سيادة لغوية.. أو لنقل إنها مسألة سيادة وكفى.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©