الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

ابن ظاهر.. شعر الروح القلقة

ابن ظاهر.. شعر الروح القلقة
2 يوليو 2014 01:56
باستثناء اسمه والمكان الذي دفن فيه، لا شيء في حياة الشاعر الإماراتي، الماجدي بن ظاهر متفق عليه بشكل تام بين الباحثين: تاريخ ولادته، مكانها، المكان الذي قضى فيه حياته، والطريقة التي قال بها قصائده أول مرة، فحول كل هذه المعطيات روايات متعددة، تتقارب وتتباعد، وتتفق وتختلف، ولكل باحث رأي يرجحه وأسباب يبديها لتبرير رأيه في اختيار أي منها. ولولا أن بن ظاهر ذكر اسمه الصريح في إحدى قصائده فلربما اختلف الباحثون حتى على اسمه. والحق أن حياة هذا الشاعر/ العلَم وأمير الشعر النبطي، تمتلك قدراً غير قليل من الغرائبية، ويحفّها غموض كبير، نظراً لكثرة ما يرويه المخيال الشعبي عنها من قصص وحكايات تبدو أحياناً أقرب إلى الخرافة، ومما يزيد في هذا الغموض عدم وجود وثائق مكتوبة عنه، ما جعل الباحثين في سيرته يجدون عنتاً كبيراً في تحديد تاريخ ميلاده، بمن فيهم، الشاعر والباحث التراثي أحمد راشد ثاني، الذي أنجز بحثاً مهماً وشاملاً حول شعره وحياته. شغف الترحال علي بن ظاهر الماجدي هو اسمه، أما تاريخ ولادته فهو محل خلاف ولا يزال موضع شك بين الباحثين، وثمة من يقول إنه ولد قرابة سنة 1532م، ويستدل أصحاب هذا الرأي بذكره بني هلال في إحدى قصائده، وهو يتأسف عليهم كأنه يراهم، وعادة لا يتأسف الإنسان إلا على قرب عهده من عهد الذين فقدهم. كذلك الأمر مع مسقط رأسه؛ فقد اختلف الرواة في نسبة ابن ظاهر إلى مكان معين، فثمة من يذكر الذيد بالشارقة، ومن ذهبوا هذا المذهب استندوا إلى ما جاء في أشعاره عن منطقة الذيد وفي وصف نخيلها. وثمة من يقول إنه ولد في منطقة الساعدي في رأس الخيمة، وهم يستدلون على ذلك بكثرة ترددها في أشعاره وإلمامه بأحداثها وما يجري فيها، وهذا رأي فيه وجاهة ويجد قبولاً لدى كثيرين. وسواء أكان هذا أم ذاك، فإن الثابت أن الرجل كان شغوفاً بالترحال في هذه الأرض، لا يلقي عصاه إلا لماماً، ولهذا وصلت سيرته إلى كل مكان في الإمارات، من الظفرة آخر حدود أبوظبي إلى دهان برأس الخيمة مروراً بـ الجزيرة الحمراء، الزعاب، الخران، الساعدي، أم الخايوس، أم القيوين، العين، هيلي، المدام، الذيد، الجميرة، الظيت، الغريف، الشويب، الظاهرة، مليحة، المزاحمي، العانكة، وعلى حد تعبير الراوي الخامس عند سلطان العميمي الذي وثق لسيرة بن ظاهر: «سكن في كل بقعة.. ما خلّى بقعة». وسواء عرفنا تاريخ ولادته أم بقي مجهولاً وتقريبياً فإن بن ظاهر هو «أول شاعر إماراتي قديم حفظ لنا التاريخ اسمه وحصيلة ثمينة من أشعاره»، ولا يضيره، على حد تعبير فالح حنظل، أن أحداً لا يعرف أيامه «فحسبه شعره الذي تركه لنا بحراً خضماً يزخر بأنواع الحكمة والعاطفة الصادقة». لا حدود للروح لم تكن لروح الشاعر حدود، ولم تكن حكايته غرائبية مع الميلاد فقط، بل كانت كذلك مع الموت أيضاً، فقد اختار المكان الذي سيدفن فيه وحفر بن ظاهر قبره بيديه. وتروى في ذلك حكاية عجيبة تستحق التأمل: كان يحمل معه درية (خيوط مطوية من الصوف) يدفن بعضاً منها في التراب في كل منطقة يحل بها ثم يأتيها بعد أن يحول عليها الحول، فيجدها وقد أكلها التراب، إلا التي دفنها في الخران فقد وجدها باقية على حالها لم تتغير، ويبدو أنه اطمأن إلى الطريقة التي سيتعامل بها التراب مع جسده بعد الموت، فحفر قبره وأوصى بدفنه فيها. وهي المنطقة التي يوجد فيها قبره بالفعل وتقع في الجنوب الغربي من مدينة رأس الخيمة، وعندها تقريباً ينتهي الامتداد الصحراوي لتبدأ سبخة الساحل. ويقال إن ابن ظاهر عاش بقرب قبره خمسة عشر عاماً ينتظر موته، وقيل إنه كان ينظفه بين الحين والآخر. ويحضر الموت بكثافة في شعر ابن ظاهر، وتكاد لا تخلو قصيدة من ذكره، ومن أجمل ما قال في ذلك: أرى الدنيا مَمَرّاً بلا مِقَرّ وأرى الأرواح آخرها الذِّهاب ومثل كل الشعراء لا تخلو سيرة الماجدي من لحظات تمرد، وحكايته مع دهان معروفة، فقد رفض أن يدفع الضريبة التي كان حكام رأس الخيمة يفرضونها على كل سفينة عاملة في البحر، وقرر ترك المنطقة، وقد ورد هذا في إحدى قصائده التي يقول فيها إن لا سفينة كبيرة له ولا نخيل في دهان، وكل ما لديه قارب صغير (الشاشة) يسهل عليه أن يغرقه في البحر ويرحل عنها إن رأى ما يغضبه، وقد فعل، وتركها إلى الجميرا في دبي، لكنه لم يلبث فيها إلا قليلاً ثم سرعان ما تحرك في روحه هوس البدوي إلى الترحال وهوس الشاعر إلى اكتشاف أماكن جديدة، فأقام حيث طاب له الهوى ورحل عندما عنَّ له الرحيل، وقضى العمر جوالاً يقتنص من المعاني أجملها ويمارس نوعاً من التخليق الدلالي بلغة النقد الحديث، ويكشف الستر عن لآلئ دفينة يحلي بها جيد القصيدة التي لا تقول ولعه وعشقه للشعر والابتكار بل للناس والبلاد. كان ابن ظاهر شاعراً معذباً برؤاه، مسكوناً بألم غائر، يظهر تارة في حزنه وتوجعه على حاله وحال من حوله وتارة في «حسافته» وأسفه على الصبا الذي ولّى وتركه نهباً للشيب والمرض ينتظر زائره الأخير الذي سيفكُّ روحه من أسرها ويطلق صوته في الكون، الصوت الذي ما يزال يثير الدهشة لدى قرائه، تماماً كما ينبغي للشعر أن يفعل.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©