الخميس 18 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

طملية.. الساخر العائد

طملية.. الساخر العائد
16 يونيو 2012
احتفلنا في الأردن بصدور كتاب ساخر جديد للأديب الأردني العربي الساخر محمد طملية، تأتي أهمية هذا الكتاب في أنه صدر بعد وفاة مؤلفه من سنوات، ويرصد الكتابات الساخرة التي نشرها المؤلف خلال فترة صراعه الطويل مع مرض السرطان. وجاء احتفالنا بصدور هذا الكتاب، تماما على طريقة جورج أمادوا في قصته الطويلة «كانكان العوام الذي مات مرتين»، التي تحدث فيها حول شلة احتفلوا مع صديقهم بعد وفاته، حيث أجلسوه معهم وهو متوفى، أطعموه وأسقوه وحدثوه، ومازحوه، ثم دفنوه. وها نحن نشهد حفل إشهار كتاب جديد للراحل محمد طملية، ولكأنني أشهد ابتسامته الساخرة، وهو يرانا نعيد إحياء كانكان العوام، للمرة الثالثة. لن أتحدث حول هذا الكتاب- على سرير الشفاه- الذي ولد يتيما، فهو كتاب مفرط في الإيلام، يكاد أن يضع القارئ على حافة اليأس، رغم ما فيه من أمل وتحد وإبداع وتجديد وابتكار، لأن صاحبه سقط مضرجا بروحه المتعبة، في معركة الحياة. بل أتحدث حول محمد طملية.. وليس غيره!! طملية ابتكر أسلوبا عبقريا في التلاعب بالكلمات والجمل، وابتكار التعابير العذراء وخلق علاقات بين الكلمات لم تكن قد ولدت بعد. لذلك لم يستطع أي منا – نحن الساخرين المحدثين- تقليده أو الاقتراب منه فنيا، وهذا ما «أجبرنا» على ابتكار قاموس خاص بكل واحد منا، ربما لأننا عجزنا عن نسخ لغة طملية. لكن هذا كان فأل خير علينا جميعا، إذ رغم بعض التداخلات والتشابكات القليلة، إلا أن كل كاتب أردني ساخر صار يحمل بصمته الخاصة، ويعود الفضل في هذا التمايز، إلى لغة طملية التي يصعب تقليدها. كان حلم طملية الدائم وهاجسه المقلق، أن يكتب رواية تضعه في مصاف كتاب الرواية في العالم. وكان يقول، كما تعلمون، أن السرطان هو مجرد سكرتير شخصي قام بتعيينه ليذكره كل صباح بواجبه إزاء مشروعه الأدبي. بالمناسبة طملية كان مذهولا بالروايات، خصوصا الروسية والسوفييتية منها، وكان يحفظ مقاطعا كاملة، ويقلد شخصياتها ويتأثر بهم ويتقمص حيواتهم أحيانا، ويتصرف كثيرا كما يتوقع أن يتصرف أحد أبطال الأخوة كرامازوف او الدون الهادئ أو غيرها. لم يكتب طملية روايته، ربما اقترف الكثير من الفقرات والأسطر التي كان ينوي أن يضعها في متن النص، لكنه لم يرض عن أي حرف منها، كان يريد شيئا أكثر وأعمق دهشة. وكان ينبغي أن يموت طملية لندرك، أن روايته الحقة كانت سيرة محمد طملية نفسه، وأن حياته ومماته، وما بينهما من دهشة وقلق وسأم وتراجيوكوميديا، وما فيها من بؤس وثراء وشجاعة وجبن وخجل ووقاحة وانهزام وتحد، وعشق وخيانة..... هي رواية طملية التي لم يكتبها، لأنه كان يبحث عن روايته في الخارج بينما كانت تقبع في الداخل –داخله- على أهبة السطوع والتحول من لحم ودم وعرق..... إلى ورق . قد يكتب أحد ما في المستقبل سيرة حياة طملية، لكنها لن تكون على الإطلاق رواية طملية التي كان يحلم بها، لأنها ستكون مكتوبة بغير لغته، ومنطوقة بغير حنجرته، ومضرجة بغير دمه. ربما كان يدرك جوهر روايته، لكنه لم يكتبها لأنه كان قصير النفس. محمد طملية... إنها خسارة أن لا توجعك لغته وتنخزك في الخاصرة كل صباح لتشعر أنك ما تزال على قيد الحياة. بعد طملية.. كيف سنتأكد بأننا أحياء؟؟؟؟ يوسف غيشان ghishan@gmail.com
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©