السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

ما وراء الطقوس

ما وراء الطقوس
17 يونيو 2015 22:10
هل نعلم ماذا يعني أن تصوم عن الطعام والشراب طيلة النهار: أي طيلة أكثر من عشر ساعات في الصيف؟ عندما تقول ذلك للفرنسيين أو للأجانب بشكل عام لا يكادون يصدقون. إنهم يعتبرونه تعذيباً هائلاً للذات: أي تعذيب يتجاوز الطاقة البشرية ولا يجدون له أي مبرر. فالصوم بالنسبة للمسيحيين، مثلاً، شيء مضحك تقريبا أو يكاد يعتبر مزحة بسيطة قياساً إلى صومنا نحن. فعلى عكس ما نتوهم فان الصيام بالنسبة لهم لا يعني الانقطاع عن الطعام والشراب كليا بشكل قاطع. هذا شيء لا يخطر على بالهم على الإطلاق. الصيام بالنسبة لهم يعني فقط الامتناع عن أكل اللحم الأحمر مثلاً أو عن الحلويات الشهية أو قد يمتنعون عن أكل السمك إبان الصوم الكبير ولكن ليس الصوم الصغير. المهم في الموضوع أن الصيام بالنسبة لهم يعني الامتناع عن الوجبات الثقيلة، الشهية، اللذيذة، وليس عن الطعام ككل. فقط يكتفون بوجبات خفيفة أو مخففة إلى أقصى الحدود. وعموما فإن المتدينين جداً منهم يكتفون بالخبز والملح كما يقال إضافة إلى الماء. أما الصيام الإسلامي فهو قاطع مانع: لا أكل ولا شرب ولا قطرة ماء حتى ولو في عز الصيف! لماذا أقول هذا الكلام؟ ليس حبا في المناكفة والمشاجرة على طريقة خالف تعرف. وليس لأني علماني، ملحد، كافر، كما قد يزعم الأصوليون التقليديون. أقول ذلك على الرغم من أن العلمانية ليست الإلحاد على الإطلاق كما يتوهم العالم العربي. فالدولة العلمانية تؤمّن لك حرية التدين أو عدم التدين في حين أن الدولة الإلحادية الستالينية أغلقت الكنائس ومنعت الناس بالقوة من ممارسة طقوسهم وشعائرهم. ولذلك عادوا إليها بجوع وتعطش بعد انهيار الاتحاد السوفييتي. وهذا شيء مفهوم: فكل ممنوع مرغوب. ولكن هذا الحكم الاستبدادي التوتاليتاري لا يخطر على بال الدولة العلمانية أن تمارسه على الإطلاق. انظروا إلى فرنسا حيث يمارس الجميع طقوسهم وشعائرهم في وضح النهار: من مسيحيين، ومسلمين، ويهود وبوذيين، إلخ. ولا أحد يزعج أحداً ولا أحد يحتقر أحداً لأنه يختلف عنه في الدين أو المذهب.. يضاف إلى ذلك أني لست ملحداً على المستوى الشخصي وإنما مؤمن بالله إيماناً راسخاً لا يتزعزع. كما أني مؤمن بالقيم الأخلاقية والتنزيهية العليا للتراث العربي الإسلامي الكبير، وعليه نشأت وترعرعت، ولا أقول ذلك خوفاً من أحد ولا منافقة لأحد. وإنما هذه هي الحقيقة. وهو إيمان دفعت ثمنه دماً ودموعاً كما يُقال. ولكن هذا الإيمان لا يعني أني مؤمن بضرورة الالتزام بالطقوس والشعائر بحذافيرها. إنه إيمان العلماء والفلاسفة لا إيمان عامة الشعب وبقية رجال الدين. فهم يحصرون الإيمان بأداء الطقوس والشعائر. بل يعتقدون أن كل من لا يؤديها ليس مسلماً ولا مؤمناً على الإطلاق، وهذا خطأ فادح. إيمان طقوسي وإيمان فلسفي نحن أمام نوعين من الإيمان هنا: إيمان ضيق محصور بأداء الشعائر والطقوس، وإيمان فلسفي واسع سعة الكون. الإيمان الأول يكفر كل الأديان والمذاهب الأخرى. والإيمان الثاني لا يكفر أحداً، وإنما يدعو إلى التسامح والمغفرة مع جميع الناس الصادقين الطيبين. للبرهنة على فكرتي هنا أود إقامة نوع من المقارنة الجريئة وربما المتهورة بين أديب عربي كبير عاش في القرن الرابع الهجري/ العاشر الميلادي، ومفكري الفلسفة المثالية الألمانية الذين ظهروا في القرن الثامن عشر: أي بعده بثمانية قرون. هذا الأديب هو أبوحيان التوحيدي الذي ألف كتابا لم يصلنا بعنوان: «الحج العقلي إذا ضاق الفضاء عن الحج الشرعي». قد نتحسر إلى نهاية الزمن لأن هذا الكتاب ضاع على الطريق ولم تصلنا عنه أي مخطوطة. والأرجح أن الفقهاء الذين كفروا صاحبه عملوا المستحيل لكي لا يصل. ومعلوم أن ابن الجوزي قال عبارته الشهيرة: «زنادقة الإسلام ثلاثة: ابن الراوندي وأبوحيان التوحيدي وأبو العلاء المعري. وأشدهم على الإسلام أبوحيان لأنهما صرحا وهو مجمجم لم يصرح». كذلك فقد رماه الذهبي بسوء الاعتقاد ووصفه بالضال الملحد. وقال ابن حجر: كان صاحب زندقة وانحلال. إلخ.. ولكن هذا (الزنديق المنحل) أتحفنا بكنوز تراثية قل نظيرها. لقد أتحفنا أبوحيان التوحيدي بالإمتاع والمؤانسة، والبصائر والذخائر، والصداقة والصديق، والإشارات الإلهية، وغيرها من عيون التراث. ثم أتحفنا بهذا الكتاب الذي لم يصلنا عن الحج العقلي وتمييزه عن الحج الشرعي. وهي فكرة مدهشة جداً، وتكاد تدوخ العقول. إنها سابقة لزمنها بكثير، لا بل سابقة لزمننا نحن أيضاً. وهي تشبه ما كتبه فلاسفة الألمان وعباقرتهم من كانط إلى هيجل إلى فيخته وشيلنج إلى الشاعر الكبير هولدرلين. انظروا المانيفست الكبير للفلسفة المثالية الألمانية، أعظم فلسفة في العصور الحديثة. هم أيضا ميزوا بين الإيمان المرئي الظاهري السطحي/ والإيمان اللا مرئي المستبطن في الداخل. وهو وحده الجوهري الحقيقي. فمن يتباهى بإيمانه أمام الناس لا معنى له. المؤمن الحقيقي يعيش إيمانه في السر بينه وبين ربه ولا يمنّ على أحد بذلك. هم يتحدثون حرفياً عن الكنيسة الظاهرية/والكنيسة اللا ظاهرية. والأولى مثقلة بالطقوس والشعائر التي لم تعد تعني لهم شيئاً في عصر العلم والحداثة والعمل والإنتاج. ولذا أعتقد أنه ليس من قبيل التهور أن نقارن بين مصطلح التوحيدي ومصطلحهم هم. فهو يعتقد أن الإنسان يمكن أن يحج إلى مكة المكرمة وهو جالس في بيته عن طريق الاستبطان الروحاني لفكرة الحج ورمزانيّته المقدسة. كما يمكن أن يصلي دون أن يصلي ويصوم دون أن يصوم. وهذا يعني أن الطقوس ليست مهمة بحد ذاتها، أو ليست مقصودة لذاتها، وإنما لشيء آخر يتجاوزها. فقد أصلي وأنا أقبل زهرة أو أتأمل في منظر طبيعي خلاب يشهد على بديع صنع الخالق. وأحياناً أتأثر لمنظر امرأة فقيرة وعلى ذراعها طفل جائع. فأحاول مواساتها بما تيسر في الجيب، بقدر ما أستطيع. وقد أصوم دون أن أصوم على الإطلاق. أصوم فقط عن الشر والخبث وإيذاء الناس. زمن معكوس يبدو لي أحياناً أن هناك علاقة مباشرة بين الدين/ والإرهاب. ليس كل دين أو تديّن بطبيعة الحال. فتدين القرون الوسطى غير تدين العصور الحديثة، تدين ما قبل الأنوار غير تدين ما بعد الأنوار. نقطة على السطر. تدين كانط أو فولتير غير تدين زعماء الأصولية المسيحية من أمثال بوسويه، الذي كان يرعب حتى لويس الرابع عشر. ماذا يعني كل ذلك؟ إنه يعني أن التوحيدي والمعري والمتنبي وابن سينا وسواهم من عباقرة العرب والإسلام كانوا ينتمون إلى المرحلة التنويرية، التي انطفأت لاحقاً بدليل ما وصلنا إليه اليوم. إنه دليل على أن التنوير العربي سبق التنوير الأوروبي بسبعة أو ثمانية قرون على الأقل. وبالتالي فالزمن التاريخي معكوس بين عالم العرب/ وعالم الغرب. عندما كنا مستيقظين كانوا نائمين، وعندما استيقظوا نمنا بدليل أن الظلام يعم الآن عالم الإسلام. أحياناً يخيل لي أني ولدت في بيئة وهابية، داعشية، طالبانية، على الرغم من الأمر ليس كذلك على الإطلاق. ولكن التزمت هو التزمت، والتحجر هو التحجر، في كل المذاهب والطوائف. ولا شك في أن التربية الدينية الصارمة التي تلقيتها في طفولتي الأولى على يد والدي الشيخ المهيب الرهيب كانت السبب في انقلابي ليس على الدين في المطلق وإنما على تدين القرون الوسطى بالذات. كنا لا نستطيع أن نفتح الراديو في حضرته إلا على القرآن الكريم. كنا ننتظر غيابه عن البيت لكي نتجرأ على سماع الموسيقى أو أغاني صباح وفريد الأطرش، إلخ.. كان يشيع في البيت جواً لاهوتياً كهنوتياً يخنق الأنفاس والعقول. وذلك على عكس عمي (الشيخ محمد) الذي كان ليبرالياً، فيلسوفاً، رائعاً، بل أول فيلسوف في حياتي قبل جامعة دمشق والسوربون! ليس غريباً إذن أني كرست كل عمري لترجمة أركون ونقل فكر الأنوار الأوروبية إلى اللغة العربية. على عكس ما يظن الناس فلم يكن ذلك على سبيل الاستعراض الفارغ أو لنيل الشهادات الأكاديمية، وإنما لكي أحرر حالي من حالي بكل بساطة. كل ما ترجمته وكتبته حتى الآن كان عبارة عن محاولة يائسة، استبسالية، شبه بطولية، للتخلص من التراكمات، من القرون الوسطى المظلمات. هنا لا يوجد شتم أو لعن أو تكفير لغير المسيحيين. هنا لا تسمع كلمة واحدة يشتم منها رائحة العنف أو الكره أو التحريض على الآخرين. ولكن هذه مسيحية ما بعد الأنوار لا ما قبلها. فمسيحية القرون الوسطى كانت مثلنا من حيث التعصب والتزمت والإكراه في الدين. هنا مر ديكارت وفولتير وديدرو وجان جاك روسو ورينان والحداثة وما بعد الحداثة.. هنا لا أحد يجبرك على أداء الطقوس ولا أحد يمنعك من أدائها. لا أحد يجبرك على الصوم ولا أحد يجبرك على الصلاة. هنا فعلاً تطبق الآية الكريمة: (لا إكراه في الدين). هنا لا تتدين نفاقاً أو دجلاً أو خوفاً من المجتمع. ولا تصلي إلا عندما تشعر بحاجة داخلية ملحة إلى ذلك. وقد لا تصلي طيلة حياتك كلها ولا تضع قدمك في الكنيسة مرة واحدة دون أن تفقد صفتك كمواطن له نفس الحقوق وعليه نفس الواجبات. فالتدين شيء/ والحياة الاجتماعية والسياسية شيء آخر. التدين مسألة خاصة أو خصوصية وليست للتباهي على الآخرين أو تهديدهم بإيمانك الاستعراضي الزائد عن اللزوم.. لهذا «الدين يسر لا عسر» كما جاء في الحديث النبوي الشريف. والصيام لم يفرضه الله لتعذيب الناس وإرهاقهم وإنما لتهذيب أرواحهم وحثهم على الإحساس بجوع الفقراء والمحتاجين. نقطة على السطر. هذه هي فلسفة الصيام في الإسلام كما في المسيحية. وهذا هو معناه الأول والأخير. الإسلام دين الفطرة والمغفرة والاعتدال لا دين التطرف وجلد الذات وتعذيبها مجاناً. وأعتقد شخصياً أن أفضل عمل يقوم به المسلم الغني في هذا الشهر المبارك الفضيل هو أن يدفع من ماله مبلغاً معيناً لإغاثة فقراء العرب والمسلمين. فهناك بحر من الفقراء والمحتاجين. عندئذ ينال مرضاة الله. المهم ليس الشكليات. المهم جوهر الدين وحقيقته. وجوهر هذا الدين هو الإشفاق على الفقراء والمساكين وابن السبيل. جوهره هو التكافل الاجتماعي والتضامن مع فقراء العرب والمسلمين. كل ما عدا ذلك تفاصيل. وفي هذا الشهر الفضيل اسمحوا لي أن أترحم على أحد القادة العرب التنويريين الكبار: الحبيب بو رقيبة. كلكم تتذكرون تلك اللقطة الشهيرة عندما رفع كأس العصير بيده في عز شهر رمضان المبارك وشربه على شاشة التليفزيون أمام الملايين. كانت جرأة ما بعدها جرأة. البعض اعتبرها وقاحة. وتُقطع عليها الرقاب حاليا. كان ذلك في فترة ما قبل العصر الأصولي المزمجر الحالي. كان بورقيبة، مثل أتاتورك، تلميذاً للجمهورية الثالثة في فرنسا: أي الجمهورية العلمانية التنويرية المضادة للإكليروس المسيحي والأصولية الكاثوليكية. ولكنه على عكس أتاتورك أراد إصلاح الإسلام من داخله لا من خارجه ولا ضده. بورقيبة لم يكن ملحداً ولا كارهاً للإسلام، وإنما كان مسلما حقيقيا كبقية التوانسة. كان يجمع بين الأصالة والمعاصرة كما يقال. ولكنه كان يدرك جيدا أن ما ينقصنا ليس الأصالة ولا القدامة (فعندنا منها الكثير المتراكم) وإنما الحداثة والمعاصرة والفكر العقلاني المستنير. ولهذا السبب ركز على قطاعات ثلاث: هي التعليم، والصحة العامة، وتحرير المرأة. لقد أراد تعليمها وتثقيفها لكي تدخل معترك الحياة وتساهم في تطوير المجتمع وتقدمه. فمجتمع نصفه مشلول لا خير فيه. ولهذا السبب منع تعدد الزوجات والطلاق التعسفي وأعطى المرأة التونسية حقوقا تحسدها عليها كل نساء العالم العربي. وتحضرني بهذا الصدد النادرة التالية: يقال أنه بعد نيل الاستقلال بوقت قصير فان المستشرق الكبير جاك بيرك ذهب إلى تونس لمقابلة الرئيس الحبيب بو رقيبة. وابتدأ يجامل الرئيس عن طريق التغني بالأمجاد العربية الإسلامية والخصوصية التونسية. ولكن، ويا لدهشته الكبرى، فإن الرئيس سرعان ما قاطعه قائلاً : إني أحب هذه الأمجاد وأتعلق بها مثلك وربما أكثر. ولكن ما يهمني الآن بعد نيل الاستقلال الغالي هو ادخال شعبي المتخلف في الحداثة. وينبغي أن تساعدوننا على ذلك يا سيادة البروفيسور لا أن تغطسونا في الماضي. أنت يا جاك بيرك لك الفضل في دراسة العصور الماضية والتعمق فيها. ولكن أنا بورقيبة من واجبي إخراج شعبي من الكسل التراثي والظلامية الدينية. كيف نفهم هذا الكلام؟ في الواقع أن جاك بيرك المتخصص في التراث العربي الإسلامي ومجتمعات المغرب والمشرق كان يريد التركيز على الاختلافات الثقافية بين العرب والأوروبيين. وكان يرى أن هذه الاختلافات والخصوصيات نعمة لا نقمة. إنها تشكل غنى وثروة للحضارة للبشرية. وهي وجهة نظر محترمة ولها مبرراتها خصوصا الآن في عصر العولمة النمطية التي تكاد تحول العالم كله إلى لون واحد. ولكن في ذلك الوقت،أي أواخر الخمسينات أو بداية الستينات، فان بورقيبة كان مهموما بشيء واحد فقط: هو تنمية المجتمع التونسي وإخراجه من جحيم الفقر والتخلف، والأمية والجهل. وبالتالي فهو محق أيضاً من وجهة نظره. بل ووجهة نظره أكثر إلحاحاً. وبالتالي فالإسلام والعروبة في نظر بورقيبة لا ينبغي أن يشكلا حجر عثرة أمام تقدم الشعوب العربية ودخولها عصر الحداثة. هكذا نرى أننا عدنا إلى ذات الإشكالية التي لا تزال تشغلنا منذ أكثر من قرنين: أي منذ عهد محمد علي الكبير ورفاعة رافع الطهطاوي والنهضة الأولى. أخيراً قد يتوهم القارئ من كل ما سبق أني أكره رمضان أو أخشاه! في الواقع أني أحب الأجواء الرمضانية وأشعر بأن القداسة منبثة في الجو بشكل خفي أو خفيف طيلة الشهر الفضيل، وأعيشها بكل محبة ومودة منتظراً انتهاء الشهر ومجيء العيد.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©