الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الصوم.. قطيعة مع المحرّمات

الصوم.. قطيعة مع المحرّمات
17 يونيو 2015 22:10
يحق لكل مسلم أن يتساءل، وهو يرى حال المسلمين التي لا تسرّ أحداً: أين هو رمضان؟ أين قيمه الحقيقية؟ أين دعوته للسلام وإنهاء الخصومات والإقبال على التسامح، ألا يجرح هذا القتل الفاشي في عالمنا العربي صومنا؟ هذا النزيف المستمر، النزيف الدموي والنزيف الأخلاقي، ألا يجرح إنسانيتنا أولاً، ثم إسلامنا ثانياً، ثم عروبتنا ثالثا؟ ألا تجرح صومنا هذه الأمراض التي تنخر في الجسد المريض فتزيده مرضاً: طائفية، مذهبية، تعصب، رفض للآخر، قتل على الهوية أو الدين أو المذهب، ناهيك عن التخلف، والفقر، والجهل، والأمية.. كلها أدواء فكرية تتفشى بيننا، نحن مصابون بقصور شامل ولا نفعل سوى الاستهلاك والعيش في بركات التقدم الغربي فيما نحن لا نسهم فيه بشيء. إن الصوم المطلوب في وضع كهذا، يشمل أيضاً الصوم عن سفك الدماء... فهل يكون رمضان فرصة لمراجعة الذات؟ هل يمكن لرمضان أن يكون استراحة المحارب، وأن يضع المتقاتلون أسلحتهم ويكفوا عن قتل بعضهم بعضاً؟ هل يمكن لمراجعة الذات هذه أن تشمل الفرد والمجموعات والمجتمع ككل؟ كيف يمكن لنا أن نستعيد جوهر الدين في هذا الشهر الفضيل؟ تغليب المصلحة العامة يقول هشام الحاجي، باحث في علم الاجتماع، إن استعادة الجوهر الروحي للدين الإسلامي خلال شهر رمضان المبارك، يكون من خلال القطع نهائيا مع عقلية الاستهلاك التي أصبحت طاغية على المجتمعات والأسرة العربية خلال الشهر المبارك، وأصبحت، تقريبا، لها الأولوية في الاستعدادات العائلية والاجتماعية وحتى الوطنية لهذا الشهر، والتركيز، أيضاً، على القيم التي يحيل عليها هذا الشهر في مغالبة النفس، وفي الإيثار، وفي التعاطف والتحابب والتعاون، وفي التصدي للعدوانية ولنعرات التباغض والعداوة. ويمكن لهذه الاستعادة أن تتحقق بتغليب المصلحة العامة، خاصة في السياق الذي تمر به المنطقة العربية حاليا، وما تشهده من نزاعات وحروب، تصاعدت حتى في الأشهر الحُرُم، ومحاولة التوفيق بين الأشقاء وإيقاف نزف الدم الحرام الذي يعصف بأمتنا، ولكي يتحقق رمضان ومقاصده، لا بد أن نستحضر روحانيات رمضان التي تحض على الوحدة والألفة والوحدة والتقارب، من خلال دعم التسامح ونبذ كل ما من شأنه أن يحيل إلى مزيد من التشنج والعداوة والاقتتال. روحانية غائبة تجيب الدكتورة ناديا بوهناد، استشارية نفسية في سيكولوجيا للاستشارات والتدريب، فتقول: «أرى هناك مشكلة في تذكر أو ربط الجوهر الروحي للدين بفترة أو شهر معين، ما يعني أننا نُمارس طقوساً من سلوكيات تعودنا عليها فنطبقها، وتأتي الأجيال تباعاً تؤمن وتُطبق الطقوس ذاتها. مشكلة العالم الإسلامي يربط جوهر وروح الدين بالمناسبات الدينية، خصوصا شهر رمضان، وكأن عبادة الله مرتبطة بشهر رمضان فقط، فنرى الطقوس الدينية تكثر في رمضان من صلاة وقراءة القرآن والمحاضرات والجلسات الدينية...الخ. والعجيب في الأمر أن هذا الشهر مرتبط لدى الغالبية العظمي بالطعام، وكأن هناك سباقاً لتعويض الحرمان الذي مر به الشخص خلال اليوم في رمضان»، وتضيف: «ما يُحزن أن الغالبية العظمى من الناس وبسبب الإرث العقائدي المغلوط لمفهوم شهر رمضان أغفلت جانباً كبيراً في تكوينهم الذي يعتبر الطريق الوحيد والأمثل إلى الله، وهو الجانب الروحي أو الروحاني. وهذا الجانب لا يقتصر على الصلاة، كفرض وطقس من الطقوس الروتينية خلال اليوم، ولا الصيام عن الأكل، إنما هو الشعور بالله فينا كبشر، فإذا كان الله أقرب إلينا من حبل الوريد، فلماذا لا نكون نحن كذلك في علاقتنا معه. الجوهر الروحي للدين يمكن أن نستعيده عندما يتم التعامل مع الدين بروحانية، بمعنى أن نصلى ونصوم نقوم بالفروض، لأننا نُحب الله حباً خالصاً، وليس لأننا نخاف الله أو ننظر منه الثواب، وهذا السمو الروحاني ليس بسهل على الناس، فهل كانوا سيصلون ويصومون إذا لم تكن هناك حسنات وثواب وعقاب؟ جواب لا يعرف الإجابة عليه إلا من تقرب من الله روحانياً. وهذا التقرب لا يكون في شهر معين، إنما هو جزء من تكوين الإنسان يرتقي وينمو به، ويمكن أن نستعيد الجوهر الروحاني أيضاً عندما ننظر إلى أنفسنا، ونسأل ما هو معنى الحياة بالنسبة لنا وما هي علاقتنا بالله الحقيقية بعيداً عما ورثناه من آبائنا وأجدادنا». العوالم الجوّانية بدوره يقول الشاعر العماني عبد الله العريمي: «إن استدعاء الإنسان لعوالمه الجوّانية يحقق له الفهم الكامل لموقفه الفكري المبني على أُسس عقلية منفتحة على الآخر، بعيدا عن مفاهيم الرشد والضلال التي أصبحت قوالب جاهزة أو رصاصاً يُطلق في كل اتجاه، إن هذه الفهم يرسي بدوره قواعد التفاهم بين بني الإنسان، وبطبيعة الحال، فإن جميع المجتمعات تقوم على هذا الوعي الكلي التي تتنوع وتتباين فيها المستويات والأبعاد بشكل تكاملي»، مضيفاً: «لقد استطاعت الأيديولوجيات الأحادية أن تشطر العقل بأحاديتها وإسقاطها للقيمة الحقيقية التي تسكن الدين والإنسان فتكسَّر بذلك جوهر الحياة وجوهر الدين إلى أن حاصرَ الإنسانَ عالمٌ سماؤه تمطر دما وأرضه تُنبتُ جثثا، وتناسى أن الاعتراف بالتنوع متأصل في جوهر الدين وبأنه وسيلة الإنسان في التطور والسمو. من هذا المنظور، وفي هذه المساحة فقط يوجد الإنسان الواحد رغم اختلاف الحضارات والثقافات والأديان، هذا الإنسان المحب الباحث عن الإنسانية الصافية التي تذوب فيها جميع الخطوط الفاصلة بين الإنسان والإنسان». كذلك يبين بالقول: «إن هذا الشهر الفضيل هو المساحة الأكثر نقاء لاستدعاء تلك العوالم الداخلية التي تؤسس رؤية إنسانية وحوارية ذاتية تخلق تساؤلات مستمرة للإنسان من شأنها أن ترفعهُ فوق الحسي والقشور، أو بمعنى آخر تمنحه فرصة أن يرى المعنى في الأشياء وليس ظاهرها، فالدين الحق كما هو الجمالي المطلق شيء، وأما ما يمارسه البعض شيء آخر لا يمت إلى الدين بأي صلة، قد يشير البعض إلى أن الدين قيد على الفكر والعقل، وهذه رؤية لا تتجاوز سوى أن تكون نافذة يبتكرها البعض كي يبيح لنفسه الحدود، إن الدين وهنا أشير إلى الدين الإسلامي ليس من ناحية عدم قبول الأديان الأخرى، ولكن من باب معرفتي التي تتحدث من خلال الإسلام والدائرة التي أعيشها، أقول بأن الدين ليس حبل مشنقة يلتف على عنق الفكر، بل هو مادة توقظ الفكر الخلاق المختلف إذا ما تم فهم جوهر الدين، وإني أؤمن جدا أن الأديان السماوية كلها في جوهرها كذلك، لأن الإله الواحد العدل جل جلاله جعلنا في إطار معرفي وروحي ونفسي واع. هكذا أرى الدين والإنسان كيفما كان وأينما كان، متنوعاً متبايناً في ظاهره متآلفا متكاملا في جوهره، وأحسب أن هذا فقط ما يحقق للإنسان القوة والاتزان، وبهذا فقط يستعيد الإنسان الجوهر الروحي للدين، فيبلغ بذلك نتيجة واحدة جامعة للإنسان والحق والمحبة والسلام». الصمت التأملي ويرد يوسف الصديق، مفكّر وباحث مختص في القرآن، على السؤال بسؤال: لماذا ربط الله عزّ وجلّ في تنزيله العزيز بين الصوم والقرآن، حيث يقول جلّ من قائل: ((شهر رمضان الذي أُنزل فيه القرآن))؟ ويجيب: الربط واضح هنا، لا بين الصيام، بمعنى الانقطاع عن المأكل والمشرب، بل بين الصوم ونزول القرآن، لان الصوم هنا غير الصيام، فالصوم في رمضان هو ذلك الصمت التأمّلي الذي يلج الى عالم التجلّي، وعالم استكشاف الحقيقة، وعالم التمعّن العميق في كلام الله وفي معاني القرآن الحقيقية. وسأعطيك هنا أمثلة عن الفرق بين الصيام والصوم، حيث تقول مريم العذراء، لما سُئلت عن الغلام عيسى عليه السلام، فقالت ((إني نذرت للرحمان صوماً فلن أكلّم اليوم إنسيّا..)) ونبي الله زكريا، حين قال« ربّ أنى يكون لي غلام وكانت امرأتي عاقرا، وقد بلغت من الكبر عتيّاً»، فقال سبحانه وتعالى في سورة آل عمران ((لا تكلم الناس إلا رمزا...))، فهذا الشهر وجد للصيام عن المأكل والمشرب، لكنه شهر صوم بالأساس، أي ذاك الذي أنزل فيه القرآن للناس لعلّهم يفقهون، أي أن الشهر بالاساس هو للصيام والصوم، والصوم هنا هو الرديف لمعنى الصمت والتأملّ في القرآن وفي خلق الكون وفي الطبيعة وفي حياة الإنسان، وفي الأسرار الكامنة في جوهر الخلق. فالشهر الكريم الذي خصّه المولى سبحانه وتعالى بأعظم حدث، وهو نزول القرآن، الذي قال عنه جلّ من قائل في سورة الحشر: ((لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعاً متصدّعاً من خشية الله)) هو شهر للتأمل. وتأملّ القرآن في رمضان، بقراءته وليس بتلاوته فقط، يحقق التوازن في الروحية الإسلامية الحقيقية، التي تنشد السلام وتنشد الحقيقة وتنشد ذات الخالق في أجمل تجلياتها. قطيعة مع التصور الحالي يرى المهدي مبروك، باحث اجتماعي ووزير ثقافة سابق، أن استعادة الجوهر الروحي للاسلام في شهر رمضان تقتضي عدة استعدادات لا بد من الإيفاء بها، حتى يكتمل المعنى والمقصد الإيماني لهذا الشهر الكريم: - لا بد من قطيعة تامة مع تصوراتنا التقليدية التي تراكمت خلال عقود، كالإفراط في الاستهلاك واشباع الشهوات، واقتناء صنوف الملذات. - تقتضي أيضا استعادة المعاني، كالزهد وتجربة الجوع المقدّس والإيمان بالقيم الإنسانية، والتعاطف العام. - رمضان يعطينا هذا البُعد الإنساني ذا الجوهر العميق من مقاسمة الناس لمعاناتهم وجوعهم وألامهم، حتى يقوى ذلك الشعور الترابطي الكوني العام. - استعادة العلاقات الاجتماعية بالتزاور، وبناء جسور صلة الرحم التي قد تكون ذبلت أو تباعدت، وضخّ دماء جديدة في النسيج الاجتماعي حتى يقوى ويزداد صلابة. - لا بد أيضا من تلك القراءة الروحية العميقة للقرآن وتدبّر معانيه الجوهرية الأصيلة، وتشذيب الروح مما علق بها من أدران الحياة اليومية. - تغيير النسق الحياتي اليومي من خلال كسر حلقة الروتين وايجاد نوع من الحياة الجديدة ذات المناشط المختلفة عن السائد خلال باقي السنة. جواهر الداخل الشيخ فريد الباجي، عالم دين ومؤسس جمعية الزيتونة للقرآن الكريم، يقول: الجوهر الروحي للدين الإسلامي الحنيف هو تلك القناعة الإيمانية المطلقة، وذاك الصفاء الذي يغمر المؤمن وهو صائم، إذ يجد الفرصة ملائمة للتأمّل في خلق الله، وللولوج الى خفايا الروح وإلى تلك الجواهر المكنونة في عمق الانسان المسلم، الذي يجد في شهر الصيام فرصة لاستيعاب ما وراء الظاهر من الكائنات، واستبطان دلائلها ومعانيها، وفهم رموزها والمقاصد من خلقها. ولا شك أن تغيير النمط اليومي لحياة الفرد المسلم، وتكسير ذاك الروتين الذي يرهق الروح والجسم، والتفرّغ بالمقابل للعبادة، والصوم عن المعاصي، والجري لتحصيل الأجر والثواب، وهنا يبرز دور مؤسسات العبادة والتثقيف الديني التي على عاتقها يُلقى الجزء الكبير من مسؤولية غرس القيم الروحية السمحاء في الفرد خلال شهر الصيام، وإبعاده قدر المستطاع عن مظاهر الدنيا الزائلة. رضاب نهار ـ ساسي جبيل تعتقد الغالبية العظمى من المسلمين أن رمضان شهر للامتناع عن الأكل والشرب فقط، أما الأكثر وعياً فيضيفون إليهما الامتناع عن الغيبة والنميمة، والمبادرة إلى إنهاء الخصومات وغيرها مما يجرح الصوم وربما يفسده، لكن الصوم في العمق هو أكثر من ذلك بكثير، بحيث يصعب على المرء تبيان ما ينطوي عليه من قيم إنسانية وروحية عالية، ولو طبق المسلمون المعنى، أو القصد الحقيقي من رمضان لما رأينا في بلادنا سبباً للعنف، أو جرأة على القتل واستباحة الدم في هذا الشهر المعظم.. رمضان في جوهره صوم عن كل ما يغضب الله، وإقبال على كل ما يرضيه.. صوم عن كل ما يؤذي الآخرين أيضاً، وعن كل فعل يخدش إنسانية الإنسان. الصوم يعني تعفف الصائم عن كل شر والإقبال على كل خير.. إنه الارتقاء الروحي والسمو الأخلاقي حين يتجليان في الممارسة اليومية.. لكن شتان بين الواقع والطموح!
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©