السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

رمضان في موكبه الساحر

رمضان في موكبه الساحر
17 يونيو 2015 22:15
* ينبع اهتمام المستشرقين برمضان من كونه يخالف ما اعتادوه في بلدانهم * "رمضان المصري" كان موضع حفاوة المستشرقين والقاهرة كانت قبلتهم المفضلة * في لوحاتهم وكتاباتهم صور الرحالة والفنانين حال الناس الدينية والدنيوية * الفنانون ركزوا على الصلاة والآذان ومواكب الصوفية والحجيج والعمارة الإسلامية ------- د. حورية الظل ----------- استلهم المستشرقون جمال الشرق وسحره وغموضه وروحانيته في كتاباتهم وفي أعمالهم الفنية التي غلفوها بغلالة من الرومانسية الشفافة بلغت درجة التخيل والغرابة والاستيهام في بعض الأحيان، وما جعلهم يبرعون في ذلك، أنهم وجدوا في هذا الشرق بديلا فاتنا عن عالم غربي صناعي وعن كلاسيكية متحجرة، فاحتفوا ب (الحريم الشرقي) وبالطبيعة وبالعادات وبالتقاليد وبالعمارة الإسلامية وبالطقوس الدينية. ------- يشكل شهر رمضان المبارك ثيمة كبرى بين الثيمات الفنية للأعمال الاستشراقية، إذ بلغ من اهتمام الفنانين المستشرقين بهذا الشهر حدّ أنهم رسموا معظم مظاهره وما يتعلق به من المظاهر الدينية، فضلاً عن عاداته وطقوسه الزاخرة بالروحانية والقدسية، فحضر في كتاباتهم وفي لوحاتهم مفصحين من خلال ذلك عن انبهارهم به. رمضان مكتوباً شكل شهر رمضان موضوعا أثيرا لدى الرحالة المستشرقين الذين زاروا المشرق العربي في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، لما يمثله من عمق روحي وقدسية، وأيضا لطقوسه وعاداته التي تمثل غيرية كاملة عما اعتادوه في بلدانهم الأصلية. والملاحظ أن هؤلاء المستشرقين شهدوا الشهر الكريم بالقاهرة التي كانت قبلتهم المفضلة، فرصدوا ما عاشوه وما شاهدوه ولم يغفلوا أي تفصيل من الطقوس والعادات الرمضانية ابتداء من رؤية الهلال وانتهاء بعيد الفطر. يكتب المستشرق البريطاني "إدوارد لين" سنة 1835 عن طقوس رؤية الهلال: "الليلة التي يتوقع أن يبدأ في صبيحتها الصيام، تسمى ليلة الرؤية، فيتم إرسال مجموعة من الأشخاص الثقاة إلى مسافة عدة أميال في الصحراء، حيث يصفو الجو، لكي يروا هلال رمضان، بينما ينطلق من القلعة موكب الرؤية الذي يضم المحتسب وشيوخ التجار وأرباب الحرف... تحيط بهم فرق الإنشاد ودراويش الصوفية، وتتقدم الموكب فرقة من الجنود. ويمضي إلى ساحة بيت القاضي حيث يمكثون في انتظار من ذهبوا لرؤية الهلال.. وعندما يصل نبأ ثبوت رؤيته، يتوجه المحتسب وجماعته إلى القلعة، بينما يتفرق الجنود إلى مجموعات يحيط بهم (المشاعلية) والدراويش، يطوفون بأحياء المدينة، وهم يصيحون: (يا أمة خير الأنام.. صيام.. صيام)، أما إذا لم تثبت الرؤية في تلك الليلة، فيكون النداء: (غداً متمم شهر شعبان... إفطار... إفطار)، وما لاحظه المستشرقون أن البهجة تعم الأرجاء لمقدم شهر رمضان. مكانة سامية أما المستشرق الإيرلندي "ريتشارد بريتون" الذي زار مصر سنة 1853م فقد أثارته المكانة السامية التي للصيام في نفوس المسلمين:"إن مختلف الطبقات تراعي شعائر هذا الشهر بإخلاص شديد فلم أجد مريضاً واحداً اضطر ليأكل حتى لمجرد الحفاظ على حياته، والأثر الواضح لهذا الشهر على المؤمنين هو الوقار الذي يغلف طباعهم". ووصف جوزيف غاسبار (أحد العلماء الذين رافقوا بونابرت في حملته على مصر) انتظار الآذان بقوله:" تتجمع النساء في المشربيات يرقبن الشمس وهي تتوارى وراء الأفق، إلى أن تأتي الساعة التي طال انتظارها، حيث تتصاعد أصوات المؤذنين من فوق منارات المساجد، يدعون الناس إلى الصلاة". مائدة عامرة وشكلت مائدة الإفطار العامرة بالأطايب مثار اهتمام المستشرقين فأسهب إدوارد لين في وصفها ومما قاله: "توضع مائدة الإفطار - طوال شهر رمضان - في غرفة الاستقبال، حيث يستقبل رب الدار ضيوفه، وتعد صينية فضية كبيرة تزدان بأطباق المكسرات والزبيب والحلوى وأواني الأشربة والماء، وفي الحسبان دائماً الضيوف الذين قد يأتون على حين غفلة، وبعد آذان المغرب، يتناول رب الأسرة مع أهله وضيوفه أكواباً من شراب الورد أو البرتقال، ثم يؤدون صلاة المغرب وبعدها يتناولون شيئاً من المكسرات". وما لاحظه الطبيب الفرنسي"أنطوان بارتيميلي"اختلاف طرق تناول طعام الإفطار بين الفقراء والأغنياء:"إن الفقراء يتناولون إفطارهم بنهم وشهية، أما الأثرياء فيكتفون بوجبة خفيفة، قليل من الخبز أو الحلوى أو الفاكهة إلى أن يصلوا العشاء، ثم يتناولون وجبة الإفطار الدسمة". كرم زائد وقد أجمع المستشرقون على كرم المسلمين الزائد خلال شهر رمضان سواء كانوا فقراء أو أغنياء، حيث لاحظوا حرص الأغنياء على تقديم مآدب الإفطار لكل زائر ولكل عابر سبيل، والعامة يتناولون إفطارهم أمام بيوتهم ويحرصون على دعوة كل من يمر ليشاركهم طعامهم. أما بالنسبة للعبادات فإن المسلمين كانوا يحرصون في يوم الصيام، حسب ما جاء في كتابات المستشرقين، على حضور الدروس الدينية بالمساجد، كما يؤدون صلاة التراويح، وتنظم أيضا حلقات الذكر الصوفية، لكن رمضان ليس شهر عبادة فقط وإنما هو شهر استمتاع أيضا سواء بتناول أطايب الطعام، أو من خلال ارتياد المقاهي التي تظل مفتوحة إلى أذان الفجر، ويلخص "أنطوان بارتيميلي" ذلك بقوله: "هناك من يذهب إلى المساجد لأداء صلاة التراويح، بينما يمضي البعض إلى المقاهي يستمعون إلى حكايات شعراء الربابة والمنشدين، وتتنوع أمسيات رمضان في شوارع القاهرة، ما بين مشاهدة ألعاب الحواة، أو الانضمام إلى حلقات الذكر حول ضريح أحد الأولياء، بينما يتجمع البعض في ممرات حديقة الأزبكية في ضوء القمر، ليستمعوا إلى فرق الموسيقى ومشاهد خيال الظل، و"الأراجوز"، وتناول الكعك والقهوة وعصائر الفاكهة". المسحراتي وبما أن المسحراتي من المؤثثات الأساسية لشهر رمضان فإن عين المستشرقين لم تغفله، فتحدث عنه إدوارد لين ووصف كيف يدور على البيوت كل ليلة لتنبيه أصحابها إلى وقت السحور فيضرب طبلا مع ترديده لأمداح يخص بها أصحاب المنازل الذين يناديهم بأسمائهم، كما تحدث عن العشر الأواخر من رمضان وما تتميز به من قدسية حيث يزداد الإقبال على المساجد والاعتكاف فيها للتقرب من الله والعبادة وأشار إلى ليلة القدر بقوله:"إحدى هذه الليالي وهي الليلة السابعة والعشرون تعرف بليلة القدر، وهي الليلة التي نزل فيها القرآن على الرسول الأكرم، وهي خير من ألف شهر، ويعتقد المسلمون بأن أبواب السماء تكون مفتوحة في هذه الليلة، فيستجاب فيها الدعاء". ثم ينتهي شهر الصيام وتطلق المدافع كإعلان عن قدوم العيد الذي يدوم ثلاثة أيام، حسب المستشرق "ألبرت فارمان"، ويتلخص في تبادل الزيارات والهدايا وارتداء الأطفال للملابس الجديدة وتقديم الصدقة للفقراء. ما يمكن ملاحظته من خلال ما خلفه لنا المستشرقون من كتابات توثق لطقوس رمضان وعاداته، أنه كان هناك احتفاء بالغ بالشهر الكريم من قبل المسلمين الأمر الذي منحه عمقه الروحي البليغ. رمضان مرسوماً إن الفنانين الاستشراقيين الذين تمثلوا الجوانب الدينية في الشرق ركزوا على الصلاة والآذان وعلى طقوس الصوفية ومواكب الحجيج والعمارة الإسلامية، ومنهم: ليون جيروم، أندريان دوزات، ديلاكروا، ألفونس ليوبولد وغيرهم، واشتهر من بينهم الفنان الفرنسي"إتيان دينيه"(1861- 1929) الذي تمثيل بعض الطقوس والعادات الرمضانية في أعماله، حيث عاش جزءا من حياته في الجزائر ودخل الإسلام وصار يدعى ب"نصر الدين دينيه"وحج بيت الله الحرام، واحتفى في أعماله سواء المكتوبة أو المرسومة بالمرأة وبالثقافة الإسلامية وبالعادات والتقاليد، وخص طقوس شهر رمضان وعاداته بالعديد من اللوحات ومنها: لوحة مراقبة هلال العيد، وهي تمثل ثلاثة رجال وطفل يراقبون السماء ويرفعون أيديهم بالدعاء. وتبدو ألوان اللوحة مضيئة ونورانية وشفافة. أما لوحته"غداة رمضان"فتظهر فيها مجموعة من الرجال تنطبع على وجوههم تعابير مختلفة، وهذه اللوحة، بحسب الكثير من الدارسين، تعبر عن دقة في نقل أحوال أصحابها النفسية والمشاعر الدالة على الخشوع وعلى عمق الإيمان، وألوان اللوحة يطبعها الهدوء والدفء والانسجام بين الألوان والأحاسيس. وتزخر لوحته "صلاة الفجر" التي تصور الأب والابن والجد يؤدون الصلاة، بمشاعر الإيمان والخشوع مع دقة في التفاصيل وتلاعب بالظل والضوء.. ما أضفى على اللوحة مسحة من الرومانسية والسحر. وهناك لوحته "لباس العيد" وتمثل طفلة تحيط بها عدة نساء يلبسنها الملابس الجديدة ويبدو الفرح والسعادة على محيّا الجميع، فيما تأتي الألوان زاهية ضاجة بالحياة.. ومما يلفت النظر في هذا العمل قدرة الفنان على اقتناص لحظة الفرح التي تبدو على ملامح الشخصيات، علاوة على احتفائه بالتفاصيل. وما يمكن تأكيده أن "إتيان دينيه" لم يخرج كثيرا عن النمط الاستشراقي في هذه الأعمال التي مثل فيها بعضا من الطقوس الرمضانية، لكن ما حقق خصوصيته، أنه أوجد من خلال تصويره لبعض الشخصيات التي تمارس هذه الطقوس، ذلك التناسق الروحي الغريب بين التعابير والحركات والألوان الأمر الذي خلق قصة تتسم بالكثير من المصداقية والواقعية. ومما يميز لوحته أنها لم تجنح بعيدا في عوالم التخيل والحلم كما هو الأمر في أعمال الكثير من المستشرقين، وليزيد من جماليتها المنتقاة غلفها بغلالة من الألوان المشرقة والشفافة والسابحة في فضاء اللوحة الأمر الذي أضفى عليها نوعا من العمق والرومانسية. إن توثيق المستشرقين لطقوس وعادات شهر رمضان، سواء كان ذلك كتابة أو من خلال اللوحة الفنية، سيظل شاهدا على ماض عربي عريق بجماله وغناه الروحي والثقافي، لكن ما يمكن تأكيده إذا قارنا الماضي بالحاضر أن الاهتمام بالطقوس والعادات الرمضانية قد خفت حرارتها في الوقت الراهن؟ فهل يعود ذلك لضغوطات العصر والعولمة التي تلقي بظلالها على كل شيء؟ أم هو مجرد إهمال لما يعد جزءا من هويتنا الدينية والحضارية؟.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©