الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

خزّان الحكايات

خزّان الحكايات
17 يونيو 2015 22:15
قال الراوي... يا سادة يا كرام... ويا سامعين الصوت والكلام، صلوا على الرسول الكريم. بهذه العبارات يبدأ الراوي قصته اليومية، معتليا منصته الخشبية في صدر المقهى، وهو يمسك بكتابه القديم، ذي الغلاف الجلدي المهترئ وهو يرتدي زيه التقليدي، السروال الفضفاض مع الطربوش الأحمر، والصدرية المزركشة ويضع بكل وقار على كتفيه شاله الأبيض الحريري، ممسكا بيده عصاه الخشبية الرقيقة، يستهل دخول حكايته الشعبية الشيقة بصوت جهوري جميل، مرتفعا تارة، ومنخفضا مشوقا تارة أخرى، تبعاً لمجريات القصة الحماسية غالبا.. إنه الحكواتي. من هو الحكواتي اختلفت تسميات الحكواتي من بلد إلى آخر، ففي تركيا دُعي (المكلا)، وفي الجزائر والمغرب العربي (القوال) وفي العراق (المحدّث) وعلى سواحل الأطلسي الوسطى (إيميادزين) وفي إيران (النقال) أو (التقليدجي)، وعند شعوب أفريقيا الغربية (هريوت).... وعرف بالراوي في مصر، والحكواتي في سورية. يجمع غالبية الباحثين في التراث الشعبي أن ظاهرة الحكواتي (القصاص الشعبي) ظاهرة اجتماعية شعبية قديمة، تنتمي إلى الأدب الشعبي الشفوي في الأصل، ترافقت مع المناسبات الدينية في بعض العواصم العربية وعرفتها معظم بلدان العالم تقريبا، إلا أنه لم يمارسها أحد أو يحافظ عليها كما فعل أبناء بلاد الشام، فقد بقيت هذه المهنة محافظة على تقاليدها وعراقتها لدى المجتمع الدمشقي حتى عصر قريب، وسمة من سمات شهرها الكريم مع الصوم والمناسبات الدينية والأعياد. والحكواتي مصطلح مستمد من الحكاية، والحكاية قصة قصيرة، أو طويلة يختلط فيها الواقع بالخرافة، وتعتمد المقاطع المسجَّعة والمواقف الغريبة والطريفة التي تمتلئ بروح البطولة والمرح والإثارة، والمستمدة من السرديات العربية والسير الشعبية كالزير سالم، وعنترة بن شداد (أبو الفوارس) والملك الظاهر بيبرس، وأبي زيد الهلالي، والملك سيف بن يزن، والأميرة ذات الهمة، وهي روايات حماسية في أغلبها، تحض على الشجاعة والكرم والحميّة والوفاء والصدق والمروءة والجرأة وحفظ الذمم ورعاية الذمار والجار... إلى آخر ما هنالك من المكارم التي ينسبونها إلى أبطال الرواية. الحكواتي والمقهى ارتبط وجود الحكواتي في المخيلة العامة، مع مقاهي الرصيف في المدن والقرى في أمسيات رمضان خاصة، حيث يلتف الناس حول الحكواتي يروي لهم قصص البطولة والفداء والإيثار مع مآثر الأجداد، فيثير في نفوسهم الحماس ويلعب بعواطفهم كيفما شاء، فيصيحون مشجعين أو ساخطين وقد يدوم سرد القصة الواحدة عدة أيام يتوقف في كل ليلة عن الكلام في مكان يشد السامع لكي يأتي في اليوم التالي لمعرفة ما حدث. ويعود ظهور الحكواتي، حسب بعض الباحثين، إلى عهد الخليفة الراشد عمر بن الخطاب «رضي الله عنه»، حيث كان الناس يعتمدون أسلوب التواتر الشعبي في تداول الأحداث التاريخية، وسرد السيرة النبوية، ونشط الحكواتي في العصر العثماني في بلاد الشام، حيث تشير إحدى اللوحات بمقهى النوفرة الدمشقي المشهور لحكواتي دمشق الأول (عبد الحميد الهواري أبو أحمد المنعش) من مواليد 1885 والمتوفى عام 1951. مقهى النوفرة الدمشقي لن يكتشف الزائر معنى الحكواتي في الشام - أيام رمضان - إلا إذا مر بحاراتها القديمة، وتنسم رائحة ذلك العبق المنبثق عن مقاهي الرصيف، التي تزين دمشق القديمة، وقد تجاوز عمرها مئات السنين، والمزدانة بكراسي القش المريحة، يتوسطها الحكواتي، الذي يجلس على سدة عالية في صدر المجلس، ودونه يجتمع الساهرون مساءً، وقد انقسموا (غالباً) فريقين، وراحوا يحتسون الشاي أو القهوة على نار دافئة وهم يستمعون إلى قصة تاريخية شعبية، أو قصة فارس من فرسان التاريخ العربي في مساءات رمضان بعد صلاة التراويح التي تعتبر مواسم كبرى لحكايات الحكواتي التي ورثها المجتمع منذ القديم. ولعل مقهى النوفرة الدمشقي، هو أشهر مقهى في دمشق وأقدمها، ارتبط وجوده مع وجود الحكواتي منذ انشائه قبل أكثر من 500عام، تماثل شهرته ومكانته، مقهى الفيشاوي في القاهرة، حافظ على تراثه القديم في العمارة التراثية المزخرفة بنقوش، وفسيفساء قديمة، مع نافورته وبحرته القديمة وألوانه القرميدية التي تلتف بالمكان فتسحره كأنه من عوالم ألف ليلة وليلة، هنالك لن ينسى زائره ذلك الحكواتي بنظارته السميكة الدائرية، وطربوشه القرميدي وتجاعيد وجهه وهو يتصدر سدة عالية من الخشب، يجلس على كرسيه المطعم بالصدف والمجلل بالسجاد قربه الطاولة التي تحمل مخطوطه القديم المكتوب بخط اليد وقد توارثه الاباء والاجداد عبر مئات السنين وهو يستهل حديثه بالقول: قال الراوي يا سادة يا كرام، ويا سامعين الصوت والكلام.. ويحلى الكلام بذكر النبي عليه الصلاة والسلام. كان الحكواتي الذي يرتدي الزي الشعبي يستهل بداية أي سيرة يختارها بالصلاة على النبي العدنان وينهيها بالصلاة على النبي الأميّ، وإذا سرد سيرة عنترة بن شداد حمل سيفاً وجنح غالباً إلى اللغة الفصحى، وأنشد عدداً من أشعاره، وشدّد على تهويل بعض المواقف مثل قوته، ووقوعه في أسر النعمان... في الوقت الذي كان يحرص فيه على إبراز مشاهد العفّة والمروءة وحماية الجار والقيم النبيلة والصدق والبطولة والجرأة التي اتصف بها عنترة ذاتياً وأسرياً واجتماعياً مع قبيلته والدفاع عنها في حالات الشدّة، في حين يصف مناوئيه بالجبن والكذب والغدر والنفاق والخيانة والبخل... ومن أطرف ما يقع في هذه الأمسيات أن عشاق عنترة كانوا يزينون الحارة إذا بلغوا في القصة لحظة زواج عنترة، ويقيمون الأفراح ويقرعون الطبول.. وكانوا يحزنون إذا سجن أو أُسر. أما إذا سرد سيرة الظاهر بيبرس فإنه يغلّب اللهجة المحكية على الفصحى، وكأنه يراعي ما كان عليه البطل فضلاً عن الموقف وتطور الزمان... وكان يبالغ في إظهار أثر الحروب التي شنها على الأعداء، ويتوقف الحكواتي عند إحدى المعارك التي انتصر فيها بيبرس انتصاراً ملموساً مثل (عين جالوت) باعتبارها معركة فاصلة... ويبرز البطل وهو يثير الحماسة والنخوة... ثم يشدد الحكواتي على قيم البطولة والشجاعة والإباء والشهامة، والصدق والوفاء، والتضحية في سبيل الأمة والإسلام وحماية الأرض والعرض، وترغيب الناس في الجهاد والاستشهاد... وفي ضوء هاتين السيرتين يمكن للمرء أن يرى في حكايات الحكواتي المستمدة من السير الشعبية خزاناً ثقافياً واجتماعياً وخلقياً يميز المجتمع العربي من بقية المجتمعات، ويجمع فيما بين أبنائه بقيم وعادات لا نجدها في أدب شفاهي آخر للأمم التي حافظت على موروثاتها الشعبية مثل أوروبا. تأثر الجمهور ما الذي يحدث داخل المقهى؟ غالبا ما يتوقف الحكواتي عند موقف حرج من الرواية، التي تقسم على أقسام كل يوم قسم، مما يربط المستمع ويشدّه في اليوم التالي لمتابعة ما حدث للبطل، ملتزمين الصمت طالما الحكاية يُروى، ولا يعلّقون أبداً بل ويُسكتون بعضهم، لكنّهم يتحمسون في المواقف البطولية، وأحياناً كانوا يُصححون للراوي بعض الأحداث التي قد يكون اختلقها من خياله أصلاً. وحدث أن الحكواتي توقف ذات مرة أثناء قراءة قصة عنترة عند أسره، وزجّه في السجن بعد تكبيله بالحديد والأغلال، وصعب الامر على أحد الحاضرين الذين يهيمون بعنترة أن يتركه سجيناً، ولما ذهب إلى منزله لم يستطع النوم، فرجع إلى منزل الحكواتي وأيقظه مهدداً إياه بالقتل إذا لم يخرج عنترة من السجن ويفك قيوده في الحال... فاضطر الحكواتي لمتابعة القصة حتى أطلق سراح أمير الفوارس. لماذا عنترة دون سواه: على بساطة التفكير في السابق، وتمسكهم بقيم الشجاعة والبطولة، فإن أكثر ما كان يُطلب من الحكواتي في حكاياته هي السير الشعبية، التي تتحدث عن عنترة بن شداد وبطولاته التي يكون معظمها خيالياً بحتاً بل وفيه الكثير من الشطحات المستحيلة، فهو كان يُجسد لدى الجمهور، الرجل العربي الأصيل، حامي القيَم العربية، الحرّ الذي لا يقبل الذلّ، وكونه كان مظلوماً بسبب لونه الاسود فإن ذلك جعلهم يتعاطفون معه ومع رجولته، وإبائه، إضافة إلى محبته الطاهرة لابنة عمه عبلة، وما قاساه من عمّه، واعتزازه بنفسه ومحافظته على القيم وأخلاقه العالية، ما جعل الجمهور يرون في عنترة ذلك البطل الذي قلّ وجوده في زمانهم ويطمحون ليكون فيهم أحد جوانب شخصيته البطولية. فكانت سيرة عنترة تحتل المرتبة الأولى موزعة في 88 جزءاً، يقرأ الحكواتي منها جزءاً على ليلتين، وتأتي بعدها سيرة الظاهر بيبرس، لكن السيرة الهلالية كانت مشهورة في فلسطين أكثر خاصة وأنها مترافقة مع عزفٍ على الربابة كمؤثرات صوتية مرافقة لايقاع الحكاية وأحداثها الحماسية. ونقتبس مقطعاً من سيرة عنترة كما يرويها الراوي: يبدأ بالسرد فيقول: « قال الراوي يا سادة يا كرام، ويا سامعين الصوت والكلام، ويحلى الكلام بذكر النبي عليه الصلاة والسلام...(ويتابع أحد قصص عنترة) فلما سمعَ به الملك زهير، أمرَ بإحضار الغلام، فلما جاؤوا به رآه مِن أعجبِ الغلمان، وكان عمره لا يزيد على أربعه أعوام، فخاف الملك أن يسطو عليه، وأرعبته نظرة عينيه، فرمى له قطعة من اللحم فسبقه إليها كلب خطفها، وإذا بالغلام يلحق به ويمسك بعرقوبه، ويحاول استخلاص اللحم من فمه، فلما استعصى عليه، أمسك الكلب ومزّق شدقيه، إلى نصف لوحيه، وأخذ قطعة اللحم منه... قال الملك: والله ما هذا إلا أشجع الشجعان، وينبغي أن يُسمّى هذا الغلام (عنترة الفرسان) « وهنا تعلو أصوات الجمهور ابتهاجاً بالحدث الجلل؟؟؟؟ الحكواتي اليوم رغم اندثار مهنة الحكواتي في عصرنا الحالي بعد أن دخلت التكنولوجيا على المجتمع، ابتداءً بالتلفاز والراديو وانتهاء بالإنترنت والسينما والأفلام، فلم يبقَ مكان للحكواتي بين هذه الوسائل الترفيهية، إضافة إلى أن المشتغلين بهذه الحرفة قلّ عددهم ولم يبقَ منهم من يمارس هذه المهنة في المقاهي الشعبية كلّ خميس ما بين المغرب والعشاء، مع سهرات رمضان التي تطول أكثر من غيرها في الايام العادية، إلا أن الفيلسوف وعالم الاجتماع الألماني والتر بنيامين كتب في الثلاثينيات يقول: «عاما بعد عام يتناقص عدد الناس الذين يروون الحكايات، هل ولى عصر القصة المحكية؟». ما الذي حدث منذ ذلك الحين؟ لا شيء على الإطلاق ينقض هذا القول، لأن النبع الذي يستمد منه الرواة قصصهم، وحكاياتهم هي تجارب الحياة التي تنتقل من فم إلى فم، ومن جيل إلى آخر. ولكن ما هي التجارب التي نعيشها اليوم ونستخلص منها الخبرات والعبر التي لا تفقد قيمتها على الفور ولا يضيع تأثيرها في خضم السرعة والاستهلاك الآني؟! وإذا ما أصبح نادراً وجود الشخص الذي يستطيع سرد حكاية من حياته، ويصغي إليه الجميع لأنهم يحرصون على ألا تفلت منهم كلمة واحدة، كي يستفيدوا من العبر الواردة فيها في حياتهم الشخصية، إذا كان الأمر كذلك فإن أشخاصاً كرفيق شامي هم فنانون يزاولون فنا في طريقه إلى الزوال. أم أنه فن قديم يزدهر الآن من جديد؟ ليس هناك كثير من الدلائل التي تؤيد ذلك، ولكن من يعلم فنحن نعيش في عالم يتغير والتغيرات تجري بسرعة لا يتوقعها أحد، من استمع مرة واحدة إلى هذا الحكواتي السوري يتملكه العجب أن راوي هذه الحكايات يعيش في القرن الواحد والعشرين وأن فن الحكواتي ما زال رائجا.. في ألمانيا أيضا. حكايات الحكواتي المستمدة من السير الشعبية خزان ثقافي واجتماعي وخلقي يميز المجتمع العربي من بقية المجتمعات الشامي يحمي مهنة الحكواتي يعتبر الأديب السوري رفيق الشامي الذي يعيش في ألمانيا من أبرز المعرفيين بأدب الحكواتيين للدول الناطقة باللغة الألمانية، والمحترفين لها. حصل على كثير من الجوائز الأدبية ليس في ألمانيا فقط بل في سويسرا والنمسا وهولندا والولايات المتحدة الأميركية، كما حصل على جائزة «أدلبيرت فون شاميسو» التي يمنحها معهد اللغات الألمانية، التابع لجامعة ميونيخ للأدباء الذين يكتبون باللغة الألمانية، وينحدرون من أصول أجنبية، ينتقل من مدرسة إلى مدرسة، ومن مسرح إلى مسرح، يحكي الحكايات، ويروي القصص التي صاغها بنفسه بأسلوب جديد، رابطاً عناصر الأسطورة الغربية ممزوجة بحوادث واقعية من الماضي والحاضر، بلغة توصف بالعادية، الخالية من التزيينات البديعية، ولكنها مميزة بوضوحها وكثافتها وشاعريتها ونعومتها، قادراً بأسلوبه الشائق في سرد الحكاية على توليد الصور والأجواء الشرقية، المملوءة برائحة تلك الأمكنة التي هجرها أصحابها طوعاً لظروف الحياة وتطوراتها الحديثة. للشامي مؤلفات عدة: أساطير أخرى، الحمل في فروة الذئب، حفنة من النجوم، حكايات من معلولا، صندوق العجائب، الشجرة الطائرة، والكذاب الصادق. ترجمت مؤلفاته إلى 15 لغة، بينها الإنجليزية، الإسبانية، الفرنسية، اليابانية، الهولندية، النرويجية، اليونانية، السويدية، والدنماركية.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©