الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

برلين: حضارة لم يسلبها الدهر إرثها العمراني

برلين: حضارة لم يسلبها الدهر إرثها العمراني
14 سبتمبر 2010 21:16
لا يمكن للسائح أن يزور برلين ويعبر طرقاتها الواسعة متأملاً في عظمتها العمرانية الشاهقة حتى حدود السماء، من دون أن تنطبع في ذاكرته جسورها المعمرة التي تكشف من بعيد أعجوبة الطبيعة، خلطة مذهلة من الجمال الخالص تمتزج فيها كثافة الخضرة بالأنهر الغزيرة والقلاع التاريخية والحصون. حتى أن الناظر إليها يخالها صفحة من كتاب تروي فيه الأساطير صنعة بنائين نحتوا من الصخر حضارة لا تزال الشعوب تستقي من فنونها حتى اليوم. سحر المشهد الثقافي في الولايات الألمانية عموماً، ليس في إبداعها العمراني وحسب، وإنما كذلك في علوم الترميم والنهوض بحطام الصروح التي دمرتها الحرب العالمية الثانية. قصور ومتاحف وأبراج بثت فيها الحياة من جديد، وبإعجاز لافت عادت المئات منها، بحجارتها وتصاميمها نسخة طبق الأصل عما كانت عليه. وبهذه الخلفية كانت لهفة الوصول إلى العاصمة التي حافظت على النسبة الكبرى من هذا الإرث. اتجهنا إلى برلين عبر القطار السريع الذي أقلنا من فرانكفرت على مدى 4 ساعات.. الرحلة الطويلة مرت سريعاً مع غزارة المناظر الممتدة من أول الدرب حتى نهايته، وخلال فترة الغداء دعتنا المضيفة إلى مقصورة المطعم الذي يوفر قائمة وجبات وضيافة بتصنيف خمس نجوم، وقبل أن نصل إلى المائدة الفاخرة، مررنا بعدد من الحجرات الاستثنائية، قيل لنا إنها خاصة بالأطفال يلعبون فيها ويتمددون على مقاعدها المتحركة وكأنهم داخل غرفة فندقية لا مجال فيها للتعب أو الملل. مازلنا في القطار نتأمل المناطق المتشابهة والطرقات المتشابكة، من هنا سفوح الجبال ومن هناك قممها. نلتقط الصور التذكارية، ولا نكاد ننتهي من مشهد بديع للأنهر حتى ندخل في لوحة غابات وننتقل على عجالة إلى جزر من معجزة العمران تحكي قصورها قصص الرومانسية والتاريخ. دراجة الـ”ريكشو” الانطباع الأول عن “برلين” كان عند نزولنا إلى محطة القطار الأشبه بمركز تجاري تعبر من خلاله القطارات بخفة غير معهودة. المحطة التي افتتحت قبل 4 سنوات، هي الأحدث في أوروبا والتجول فيها سياحة من نوع خاص. نخرج إلى الهواء الطلق، ونرفض أن تطول فترة استراحتنا قبل أن نبدأ باكتشاف عاصمة المجد ونتلمس عن قرب جدارها وبوابتها وحجرها وشجرها، وعند زيارتك برلين وتطأ قدماك أرصفتها العريضة، تجد نفسك في قلب مدينة محاطة بالتاريخ والحداثة، وأكثر ما يبهرك هناك، كثرة المباني الشامخة بسحر التراث العمراني وبما تحمله من أحداث صنعتها الحقب الزمنية الصعبة التي عاشتها المدينة. أول صرح ضخم دخلنا إليه كان “هوتيل دو روم” التابع لمجموعة “روكو فورتيه” والمتربع قبالة أحد أهم المكاتب الوطنية التي أحرقت فيها الكتب أيام هتلر. المبنى شيد في بداية القرن التاسع عشر كمصرف، وبعدما هدمت أجزاء كثيرة منه تم تحويله إلى فندق عصري بمواصفات كلاسيكية، وبتصميم ذكي تم تحويل غرفة الخزنة في المصرف قديما لتكون اليوم مسبحاً داخلياً. ويتميز الفندق بموقعه المثالي في حي “ميته” الشهير ويتمتع بقربه من أشهر المعالم السياحية في برلين مثل جادة “أُنتر دين لندن” وبوابة “براندنبورج” الشهيرة التي بدأ بناؤها من عام 1788 حتى عام 1791. الطقس في هذه المدينة رطب على الدوام، ومع أن المطر يهطل فيها من دون سابق إنذار، غير أن خيوط الشمس لا تبخل على سكانها بإطلالات منعشة من وقت لآخر. انتهزنا فرصة أحد أيام الصحو في شهر يوليو، وانطلقنا في جولة استكشاف للمدينة بدءاً من جزئها الغربي. كانت وسيلة نقلنا دراجة الـ”ريكشو”، وهي بألوانها الزاهية مزودة بعربة ذات ثلاث عجلات تتسع لشخصين وتتيح لركابها أكثر من تجربة. فرصة التنقل بسهولة بين أهم معالم المدينة، والاستمتاع بالهزات التلقائية التي يحدثها السائق الذي يعمل في الغالب كدليل يتحدث الإنجليزية باللكنة الألمانية، وأكثر من ذلك فإن كل ما تسمعه وتراه في هذا المشهد المكتظ بالروايات، يشعرك بمتعة أن تكون سائحاً في طرقات برلين. اجتزنا شارعاً عريضاً تترامى فيه الأشجار والجزر الخضراء، وعبرنا من تحت بوابة “براندنبورج” التاريخية التي أعيد افتتاحها بعد انهيار جدار برلين في نوفمبر عام 1989. الساحة المحيطة بها لا تفرغ أبداً من محبي التقاط الصور التذكارية عند هذا الموقع الذي يعتبر رمزاً من رموز عهد التقسيم الذي شهدته برلين في أربعينيات القرن الماضي، وعلى مسافة قريبة اطلعنا على مجمع “باند دي بوندز” Band des Bunds الذي يمثل الثقل السياسي للبلاد، ويوجد فيه مبنى البرلمان الألماني، الذي قام بتصميم زجاجه الفنان العالمي نورمان فوستير، وقد دلنا سائق الـ”الريكشو” على مبنى الوزارة الفيدرالية، وأشار إلى موقع مكتب المستشارة أنجيلا ميركل الذي يجتمع عنده بالعادة محبوها من المواطنين لرمي التحية. لوحة أثرية ما زال اليوم في أوله، وكان لدينا متسع من الوقت للتعرف أكثر على المراحل التاريخية التي مرت بها المدينة المثيرة ماضياً وحاضراً، والزيارة الآن هي لنقطة التفتيش “تشارلي”، التي مثلت في السابق جزءاً من جدار برلين وكانت الشاهد الحي على تقسيم ألمانيا عام 1961 إلى دولتين ألمانيا الشرقية وألمانيا الغربية. وبقيت العاصمة على هذه الحال حتى توحيد شطري البلاد عام 1990. توغلنا أكثر في تلك الذاكرة التي تحاول إزاحة غبار الحصار عنها، ووصلنا إلى المحطة الشرقية الموازية لشارع “بيرناور شتراسه”. المشهد كان لا بد من معاينته عن قرب، حيث تمتد وعلى مسافة شارع بأكمله بقايا جدار برلين الشهير الذي حولته السنين إلى لوحة أثرية فيها كل ملامح التقسيم ورائحة الحرب الباردة، وإطلاق وصف لوحة على الجدار الذي يرتفع بعلو 3 أمتار دقيق، لأن أيادي الفنانين ممن عانوا الأمرين أبدعت في تجسيد تلك المرحلة برسومات ملونة وأخرى قاتمة، بعضها يناجي طيور الحرية وبعضها الآخر يدون معاناة أريد للأجيال أن تخبر عنها. على الجهة المقابلة ينتصب صرح القيصر فيلهلم التذكاري في شارع “كورفورستندام”، الذي يزوره السياح كتذكار للسلام ورمز معماري فيه الكثير من التحدي. يعكس المبنى المرمم تصميم العاصمة الألمانية على إعادة إعمار نفسها بعد الدمار الذي خلفته الحرب العالمية الثانية، ومثله الكثير من المباني التاريخية الجذابة التي تمتد إلى العصور الوسطى والتي مرت بمراحل طويلة تطلبت إعادة بنائها من الخارج كما من الداخل. هذه المعالم والمئات سواها لا تزال رغم الزمن تحافظ على طابعها الأثري، ومما علق في أذهاننا لسحره وعراقته، ساحة “جندارمن ماركت”، وتحديداً العمارة الألمانية والصرح الفرنسي وبيت الحفلات “كونتسرت هاوس”. برلين مدينة الـ 150 مسرحاً ومدرجاً فنياً، تنتشر فيها المراكز والأروقة الثقافية بشكل متواز مع أهميتها المعمارية، وللفن نصيب وفير فيها يشع من داري الأوبرا ومن استضافتها للفعاليات الفريدة، كمهرجان “برليناله” الذي يعد من أشهر المهرجانات السينمائية، ومن العروض الحديثة التي تشكل بصمة فنية إضافية للمدينة، العرض البهلواني “صنع في برلن” Made in Berlin الذي يعرض حالياً في قاعة Wintergarten Variete. وهذه القاعة من أضخم منصات العرض في أوروبا، وقد تعرضت للدمار إبان الحرب العالمية الثانية وتحديداً في 21 يونيو 1940، وأعيد افتتاحها عام 1992. أسواق في اليوم التالي أردنا معاينة الوجه الآخر لبرلين التي تترك حصة الأسد دائماً للتسوق، وكانت وجهتنا شارع “فريدريش شتراسه” حيث جلنا في أحيائه ودخلنا إلى مراكزه التجارية الراقية التي تضم أحدث خطوط الموضة، ولم تفتنا زيارة شارع “كورفورستندام” التاريخي الذي يسمى اختصاراً بشارع “كودام”، فهو من أكبر وأشهر مراكز التسوق في العاصمة الألمانية ويمتد على طول 3 كيلومترات. أمضينا فيه وقتاً مسلياً، فهو يضم على جانبيه عمارات مر عليها الدهر ولم يسلبها رونقها ولا أناقتها، وبين جولة تسوق وأخرى، استفدنا من الجلسات الودية لمقاهي “الكوفي شوب” والمطاعم المنتشرة في المنطقة وبينها مطاعم عربية وأخرى تركية، ويمثل سوق “هاكيشه” والساحات المجاورة خياراً جيداً لمحبي “الشوبينج” في أجواء هادئة، أما حي “شويننفيرتل” على طول شارع “شونهاوزر”، فهو يناسب محبي البحث عن التفاصيل. وكانت لنا فرصة التسوق في الهواء الطلق داخل “سوق البراغيث”، الذي يقع في شارع “17 يونيو”. ومن بين الروايات التي سمعناها هناك، أن أحد الشوارع واسمه “كريليستراسى” قد أغلق كلياً قبل فترة بسبب الازدحام المروري الذي يتسبب به، وتحول إلى ساحة للمشاة ومكان للاسترخاء واحتساء القهوة، حيث يمكن للأطفال اللعب بالكرة وسط الساحة الفسيحة بجانب النافورة. كنا مستغرقين بالتسوق في شارع “كودام”، فقيل لنا إنه على مسافة غير بعيدة تقع حديقة الحيوانات “تسولوجيشه جارتن”، الأقدم في ألمانيا والتي تستقطب سنوياً ملايين الزوار، ومما لا شك فيه أننا أردنا أن نكون من بينهم، فدخلناها. وبين متاهاتها شاهدنا كائنات لا تعد ولا تحصى ولمسنا من قريب السر الذي يجعلها الأكثر تنوعاً في العالم. وفي المحيط أخذنا نتأمل تفاصيل برلين المدينة الأكبر في ألمانيا والأكثر خضرة والتي تقع عند نهري “شبريه” و”هافل” ويسكنها 4 ملايين نسمة، مشينا في أكبر متنزهاتها “تيرغارتن” الذي يتحول في أشهر الصيف إلى مقصد لإقامة حفلات الشواء العائلية. ودفعنا الفضول للتعرف على “الحديقة الشرقية” التي تتميز بتصاميمها المستوحاة من الطراز العربي الإسلامي التقليدي. غابات برلين الوفيرة وحدائقها الغناء بأشجار الزيزفون تمنح المتنزه فيها شاعرية تشبه الهدوء الساكن في بحيراتها. متاحف عشاق المتاحف لن يجدوا في برلين مدينة الـ170 متحفاً، الوقت الكافي لزيارة سواها. فهي تضم أحد أهم تجمعات المتاحف في العالم والذي يطلق عليه اسم “جزيرة المتاحف”. هذه الجزيرة التي تم إدراجها عام 1999 على قائمة التراث العالمي للـ”يونيسكو”، تحتوي على تراث أجيال وعصور متعاقبة لما يزيد عمره على 6000 سنة، وتضم متاحفها التي تتميز بهندسة معمارية استثنائية، مقتنيات نادرة. “المتحف القديم” يمثل تحفة في فن العمارة الكلاسيكية، لا تقل أهمية عما في داخله من تحف ثمينة ولوحات فنية. ويحتل المتحف المصري الطابق العلوي منه، وفيه معرض يتمحور حول التمثال النصفي لـ “نفرتيتي” قبل أن ينقل إلى “المتحف الجديد” الذي يبرز بمقتنياته الفن المعماري الحديث. وتعرض في “المتحف الوطني القديم” رسومات أوروبية وألمانية من القرن التاسع عشر ومنحوتات مبهرة. أما متحف “برجامون” فيحظى بأعلى نسبة إقبال، وهو من الأماكن المذهلة بما يحتويه من قطع أثرية غارقة في القدم.
المصدر: برلين
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©