الخميس 18 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الرواية العراقية.. سجال المرجعيات والأجيال

الرواية العراقية.. سجال المرجعيات والأجيال
15 سبتمبر 2010 20:43
إن الحديث عن رسم أو تحديد مسارات للقصة والرواية العراقية الحديثة يحتاج الى الكثير من التأني والحرص في المقاربة النقدية، حتى لا نركن الى التقسيمات و المصطلحات الجاهزة والمجانية. فلقد ظهرت العديد من الأسماء والتجارب الابداعية في حقل الكتابة السردية في العقدين الأخيرين من القرن الماضي، واستمرت بعض الاسماء السابقة تأريخياً في العطاء والكتابة. ليس من السهل على الناقد أن يتناول بالدراسة التحليلية النقدية جميع تلك الاسماء. فهو مضطر الى أن يكون انتقائيا في اختياراته بما يتلاءم وتوجهات المنهج النقدي الذي يتبناه. المرجع الخارجي إن تحولات السرد في القصة والرواية العراقية ارتبطت ارتباطا وثيقا بعاملين مهمين شكلا مرجعية ذات فاعلية في تشكيل أنماطه الأسلوبية والتركيبية والدلالية، وهما المرجع الخارجي الواقعي المعاش والتيارات الروائية الأجنبية والتي كان القاص والروائي العراقي يتعرف عليها من خلال الترجمة الى العربية. إن دراسة تأريخ الأدب أو ملاحظة التغيرات الشكلية الجذرية في بنية النص الأدبي تشير دائما الى وجود علاقة جوهرية على درجة من التعقيد والترابط بين التحولات التأريخية والاجتماعية والسياسية لشعب من الشعوب والتغيرات التي تطرأ على بنية الخطاب الأدبي والإبداعي. ولعل الامثلة على ذلك كثيرة ومتعددة. فقد وجد الناقد لوسيان غولدمان علاقة عميقة ومعقدة بين تحولات الرأسمالية بعد الحرب العالمية الثانية وتنامي ما يعرف باقتصادات السوق وتزايد انتاج السلع والبضائع وانتقالها الحر بين البلدان المصدرة والمستوردة، وبين ظاهرة الاختفاء التدريجي للشخصية الروائية ومن ثم تلاشيها تماما في الرواية الفرنسية الحديثة، وإحلال عالم الأشياء المشيأ والمستقل مكانها. كما أشار الروائي والناقد المصري أدوارد الخراط في كتابه “الحساسية الجديدة” الى أن التطورات والتغيرات التي حصلت في بنية الخطاب السردي المصري في الستينات والسبعينات من القرن الماضي والقطيعة مع الاشكال السردية التقليدية للرواية المصرية لم تتم بمعزل عن الواقع المصري العربي، وانما كانت في كثير من الأحيان استجابة جمالية واعية لتعقدات هذا الواقع من نكسة عام 1968 وانتشار القيم الاستهلاكية وانحسار الأيديولوجيات السياسية. ولا يمكن مع ذلك إغفال تأثير الآداب الأجنبية وتياراتها المتجددة والأعمال الروائية العالمية المعاصرة وما تنتجه من أشكال سردية متنوعة وتجارب مهمة. لقد ازدادت الفاعلية التأثيرية للآداب العالمية المعاصرة مع التطورات الهائلة الحاصلة في وسائل الاتصال وتقنية المعلومات وازدهار حركة الترجمة سواء تلك التي تتم بجهود فردية أو مؤسساتية. إن الترجمة من اللغات الأجنبية شكلت الرافد الأساس من روافد تجدد وتحول الأساليب السردية في الرواية والقصة العراقية. ولقد كان لانتشار تيارات ايديولوجية محددة في الخمسينيات وبداية الستينيات أثر حاسم في وقوع السرد العراقي تحت تأثير كبار الروائيين الروس، أمثال غوركي وتولتسوي ودويستوفسكي. فكانت الأعمال السردية العراقية التي اتجهت نحو الواقعية النقدية والاشتراكية واضحة في موقفها ذي الأبعاد الأيديولوجية من قضية تمثيل الواقع داخل العمل الفني مثل روايات الروائي العراقي الكبير غائب طعمه فرمان والاعمال المبكرة لمهدي عيسى الصقر. وبالتوازي مع ذلك الخط الفني كان تأثير رواية تيار الوعي الأنجليزية يمارس حضوره داخل النشاط السردي في العراق على يد فؤاد التكرلي وعبد الملك نوري. فظهر تأثير كتابات فيرجينيا وولف ولورنس وجيمس جويس على أعمالهم القصصية. وشكل اقتباس تقنية (تيار الوعي) وتبلور فاعلية الشخصية داخل بنية القص انعطافة مهمة نحو ظهور القصة القصيرة الفنية في الأدب العراقي، كما رصد ذلك الناقد العراقي الراحل عبد الإله أحمد سابقا. أما في النصف الثاني من الستينيات فقد تحول الاهتمام عن الأعمال الروائية الأنجليزية والأميركية الشمالية، ممثلة بأعمال هنري جيمس، الى الرواية الفرنسية الحديثة. فبدأ الروائي والقاص العراقي ينتبه الى روايات ألبير كامو وسارتر الوجودية، ثم ظهرت ترجمات لأعمال رواد الرواية الفرنسية الجديدة مثل غرييه وساروت. ومع تزايد تأثير الرواية الفرنسية خطت القصة العراقية خطوات جادة نحو درجات عالية من النضج الفني. ولا يخفى على أي متابع للنشاط السردي في العراق حقيقة الانجازات المهمة في تأريخ القص العراقي التي تحققت على يد مجموعة من كتاب جيل نهاية الستينات مثل محمد خضير وعبد الرحمن مجيد الربيعي ومحمود جنداري وعبد الستار ناصر. كما استمر تأثير الرواية الفرنسية على كل من أحمد خلف ولطفية الدليمي خلال فترة السبعينات وبداية الثمانينات. وتحت تأثير كتابات بورخس المتميزة اتجه الروائي البارز عبد الخالق الركابي الى استلهام أبرز التقنيات السردية للعمل السردي الضخم “ألف ليلة وليلة” ونمط الرواية المخطوطة. فعملية الرجوع الى التراث السردي العربي لم تتم وفق آليات ذاتية داخلية، ولكنها جاءت بتأثير مباشر من الأعمال الروائية الكبيرة لبورخس على وجه الخصوص. موجة الرواية وليس بالضرورة أن تكون كل التجارب العالمية قابلة للاقتباس أو التكرار ضمن خصوصية السياق الثقافي العربي والعراقي. فلابد من أن تتقارب الظروف الموضوعية العامة بين الثقافتين المؤثرة والمتأثرة. وعليه فإن انحسار موجة الرواية والقصة الوجودية والرواية الفرنسية الجديدة في النشاط الروائي والقصصي العراقي منذ منتصف الثمانينات وانتشار نمط (الواقعية السحرية) بدلا منها، لم يكن مجرد انبهار شكلي أو تقليد للجديد والمعاصر. فالسياق الثقافي والاجتماعي لدول اميركا اللاتينية وما عانته شعوبها من قهر وتسلط الحكومات الدكتاتورية وكثرة الانقلابات العسكرية وهيمنة ثقافة العنف، يقترب الى حد كبير مما عاناه المجتمع العراقي منذ عام 1979 وحتى عام 2003، من ويلات الحروب والاضطهاد السياسي والاجتماعي. ولهذا جاءت (الواقعية السحرية) كحل فني لإشكالية الروائي العراقي بصورة عامة، مما مكنه من مقاربة واقعه الاجتماعي والسياسي المتردي، ونقده جمالياً وايديولوجياً دون الوقوع في مواجهة مباشرة مع أدوات السلطة القمعية أو الخطابية الإنشائية. وحدث تغير في توظيف المكان كفضاء روائي في روايات وقصص تلك الفترة، حيث تم الانتقال من فضاء المدينة وتفاصيلها الى فضاء الريف والقرية وأجوائها وعلاقاتها الاجتماعية. ويلاحظ الدارس أن معظم الأدب الروائي الذي انتجه روائيو أميركا اللاتينية يتخذ من الريف والمدن الصغيرة فضاءً مكانياً واجتماعياً. مثل “مائة عام من العزلة” و”خريف البطريريك” لماركيز و”بيدرو بارامو” رائعة الروائي المكسيكي الكبير ورائد تيار (الواقعية السحرية) خوان رولفو. وبشكل عام يمكن للدارس ملاحظة هيمنة الغرائبي والعجائبي، حسب توصيف تودوروف، على بنية القصة والرواية منذ نهاية الثمانينات من القرن الماضي. وتم توظيف تلك الظاهرة ضمن محاولات تبني التقنيات السردية المميزة (للواقعية السحرية) في السرد العراقي. وبدلاً من اسماء أعلام الرواية الفرنسية، بدأت تظهر اسماء كتاب اميركا اللاتينية أمثال اليزابيث الليندي وبورخيس وماركيز وميغل أنخل أستورياس وماريو فارغاس يوسا. وبعدما كان اهتمام الروائي العراقي منصباً على بناء الشخصية السردية وعوالمها الداخلية، أو على لغة القص التي أثقلت بالأنزياحات الشعرية، خلال الستينات والسبعينات من القرن الماضي، بدأ الاهتمام ينصب على البناء السردي العام. فأصبحت بنية القصة والرواية أكثر تعقيداً من الناحية البنائية وأكثر تلاحماً مع المضمون المكاني. ومن المظاهر المثيرة للانتباه في النتاج السردي لهذه المرحلة، هيمنة الرؤية الكابوسية على مجمل بنية القصة والرواية، بعدما كانت مقتصرة على الشخصية فقط. الجوائز العالمية ولقد لعبت الجوائز العالمية ووسائل الأعلام دوراً كبيراً في توجيه الذائقة المحلية نحو روائي أو تيار روائي معين. وفي كثير من الأحيان يكون الأمر أشبه بموجة أدبية تستمر لفترة من الزمن ثم تتلاشى تدريجياً دون أن تترك أثراً يذكر. ومع العقد الأخير من القرن المنصرم وبداية العقد الأول من القرن الحالي شكلت أسماء روائية عالمية، أمثال ميلان كونديرا وأمبرتو ايكو، مرجعية ذات فاعلية كبيرة في السرد العراقي. بينما لم يظهر تأثير صاحبي نوبل الألماني غونتر غراس والتركي أورهان باموك واضحاً على نتاج الروائيين العراقيين. ونستطيع القول إن من أكثر الأجيال الروائية التي تعرضت للتهميش والتغييب هم الجيل الذي بدأ في الظهور خلال النصف الثاني من التسعينات والسنوات الأولى من القرن الحادي والعشرين. ومن أولئك الروائيين ناظم العبيدي وأحمد السعداوي والراحل محمد الحمراني ونصيف فلك. كما استمرت أسماء بارزة في تقديم أعمال على درجة عالية من النضج الفني في مجال القصة القصيرة، مثل نزار عبد الستار ولؤي حمزة عباس وحسن كريم عاتي ووارد بدر السالم. ولا توجد هنالك دراسات نقدية جادة للأعمال السردية لتلك الأسماء المذكورة، ولطالما اشتكى أصحابها من الإهمال والقصور النقدي. ومما زاد في ذلك ظهور أسماء لروائيين عراقيين برزت على الصعيد الثقافي العربي، وحتى العالمي، مثل الروائي المتميز علي بدر والروائية البارزة عالية طالب وبتول الخضيري وأنعام الكجه جي. وقد طغت تلك الأسماء على المشهد السردي للرواية العراقية. ولعل من أبرز الأسباب في ذلك هو تبني دور نشر بارزة أعمالهم الروائية والقيام بالترويج لها وتسويقها عبر معارض الكتب والمكتبات الضخمة في عواصم الوطن العربي. ولا يعني ذلك أن روايات بدر وطالب والخضيري والكجه جي تفتقر الى المقومات الفنية التي تبرر نجاحها عربياً وعالمياً، ولكنه قد يوضح سبب تغييب الأعمال الروائية والقصصية للأدباء العراقيين في الداخل. وشكلت بعض الأعمال السردية لكتاب وروائيين عراقيين مقيمين في المهجر إضافة مهمة الى التأريخ الإبداعي للرواية العراقية. لكن أعمالهم أيضاً عانت من الإهمال والتهميش رغم تميزها وتعرضها لقضايا ذات خصوصية مرتبطة بمعاناة الفرد العراقي في رحلته من الوطن الى المهجر، مروراً بأقسى الظروف وأكبر الأخطار والتي قد تصل الى حد الموت غرقا أو تجمداً من البرد. بالإضافة الى كشفها عن ملابسات وتفاصيل الحياة التي تواجهها العائلة العراقية المهاجرة في مجتمع أوروبي مختلف جذرياً من حيث الأخلاق والدين والتقاليد عن المجتمع العراقي. ومن تلك الأسماء الروائي الذي غادر العراق مبكراً برهان الخطيب وسليم مطر وذياب الطائي ودنى عالي، على سبيل المثال لا الحصر. ورغم تنوع المؤثرات وتباين المرجعيات الجمالية والمعرفية للأسماء التي تشكل الراهن السردي العراقي في الخارج والداخل، فإن هنالك مجموعة من الخصائص السردية المهيمنة تتمثل في الابتعاد عن اللغة الشعرية المكثفة واستخدام لغة مباشرة محايدة والتصوير الواقعي الذي يقترب من التسجيلية والاهتمام بالوصف والاعتماد على الحكاية وتوالي الأحداث كبديل عن سكونية الرواية العراقية قبل تلك المرحلة والروح الساخرة المتهكمة وغياب القضايا ذات الأبعاد الأيديولوجية والشمولية. ولعل تلك الخصائص أصبحت تميز مجمل النتاج الروائي العربي منذ بداية القرن الحالي. لقد خطت القصة والرواية العراقية خطوات كبيرة مهمة في السنوات الأخيرة بعيداً عن اجترار وتكرار الأساليب الكتابية والمعالجات الشكلية والمضامين السردية التي أنتجها جيل الستينات الروائي والتي هيمنت على النتاج القصصي والروائي في العراق على مدى ثلاثين عاماً. الذي انطلق نحو آفاق جديدة من الإبداع والتجريب. وفي حين يبقى تأثير التيارات الروائية العالمية حاضراً وبقوة في النتاج السردي العراقي المعاصر، الا أن تأثير مرجعية الواقع الخارجي أصبحت تتباين تبايناً كبيراً حسب المحيط المكاني والاجتماعي للروائي والقاص، وهذا التباين والاختلاف لابد وأنه يعمل على إثراء التجربة السردية العراقية من حيث الأشكال والمضامين. * ورقة ألقاها الباحث في اتحاد كتاب وأدباء الإمارات في أبوظبي
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©