الثلاثاء 23 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

قناديل تضيء اليم..

قناديل تضيء اليم..
15 سبتمبر 2010 20:46
حين يشرع البحر وفي ناظريه ألق المراسي والمرافئ وفنارات الأحلام البعيدة، حيث الضوء ينشر رذاذات الألق، ترتسم ومضات الأصداف والموج رؤى في بواكير ولاداتها الأولى، ومحارات الشاطئ ونجمات البحر انبجاساً لعرائس شعر جميلات يغتسلن بالماء.. ولأن البحر لا يكذب، وحين يبوح يفرد الكلام مفردات الشاطئ، فتكتب حروف الموج لغتها على حبات الرمل الندية، نرى الشاعرة نجاة الظاهري ترش ألق الماء، وتبعث عرائس الشعر والبحر من مرقدها في مجموعتها الشعرية الأخيرة، المعنونة بـ”الحلم.. البحر”، الصادرة عن مشروع “قلم” التابع لهيئة أبوظبي للثقافة والتراث، فتفتح نوافذ رؤاها لرائحة المراكب والشاطئ، ودفق الموج، والتلويحات الرحبة للشراعات والصواري: فوق الشاطئ حين التفت عيناه إليها آواها وظلال مراكب قد رحلت واراها الغربُ وأعماها ولها أشرعة هادئة الغرب كذلك أخفاها وتبقى شراعات المراكب تلوح لا يدوخها اليم، لكن جهات الأمكنة يعذبها الرحيل والترنح؛ لأن الجهات في السياق الشعري ليست هي في السياق الاعتيادي، فالحرف الشعري يكفر بالجغرافيا في تهويماته الأزلية، وبوصلته لا تؤمن بالثابت، فتعمد نجاة في همسها راسمة على الموج، تؤرخ للمكان وللزمن المتحرك، تناجي أمسها في تأملات، لا يمنحها إلا الانصهار الكلي مع ذلك الصمت الهادر للموج.. هو البحر البعيد وليس فيه طريق آمن إن لم تعني أهيجه أعانق راحتيه أهدئ موجه أدني فيدني فأغمس فيه روحي يحتويها ويغمس في روحاً، يرتشفني وتستمر الشاعرة تغمس الحرف باللغة المتولهة نفسها والمشبعة بمفردات البحر وإيحاءاته، كما في قصيدة “اللوحة 3”: في الشاطئ أصداف وعلى أطراف البحر بقاياها وتطلق صرختها للأبد الشعري، حيث خلود اللحظة الشعرية، ونزق الشاعر المسكون بذلك السرمد في عليائه، فلا تستريح من بكاء البحر والمدى، فتتغنى بذكرى أوجه شاركتها رغيف الحياة الساخن، فاستفاضت عبراتها مداداً على أثر رحيلهم، كبكائها على الطيف الزائر، الجميل لصديقتها. لا تغني يا عصافير الصباح بل أفيضي بالبكاء أصبحتَ.. لكن غير محمود السرى لم لا.. وقد أخذ المساء صديقتي وبالحس المرهف نفسه يترجل محمود درويش على صهوة الحضور في قصيدتها “أحقاً رحلت” ليُـسمع همس الغائبين الحاضرين تراتيلاً في وجل الكلام. وغير بعيد عن صمت السرمد ورهبة الرحيل، لا تغيب الروحانيات عن المجموعة الشعرية، إذ تتغنى نجاة بشهر الرحمة الحاضر بين يدينا، المودعُ، ووراءه بكاء النادبين والتائبين، حيث تقول في قصيدة “رمضان.. تمهل”: تمهل أيا رمضان تمهل فمازال قلبي من الطهر ينهل لماذا تريد الرحيل سريعاً ومثلك ليس يمل إذا حل.. وبشكل عام، قد يقال عن المجموعة إنها تجربة جميلة ومنوعة، لكن في كل الأحوال لها خصوصيتها، فالكتاب ذو الحجم المتوسط، والممتد على 116 صفحة ضمت 43 قصيدة، متباين الملامح في موضوعات القصائد وسياقتها، عزز ذلك اختلاف الأغراض والبنيات والمضامين والأشكال، وهو ملمح ذو وجهين، لكليهما ميزاته ومآخذه، الأول منهما أن التجربة تشي بتنوعات المشرب الشعري، حيث توزعت قصائدها ـ بما لا مراء فيه ـ بين عمودية رصينة وقطع تفعلة أقل مراساً لها صدق وطول نفس شجي. والثاني، والذي قد يُستدرك، هو الفهم المتأصل من ذلك التنوع في اللغة، والتناغم مع قراءات أخرى، إذ قد يكون ضرباً من التناص مع مدارس شعرية أخرى مختلفة، فيحد ذلك الصدى المتولد، والصوت الثاني المجلجل داخل الصوت الأول، من المفردة الموحدة أو الهوية المستقلة للتجربة في شخصيتها. ورغم كل ذلك، للشاعرة نجاة الظاهري صوتها الشعري المتفرد، الذي يطغى في كثير من قصائد المجموعة واضحاً تلمس فيه روحها، خاصة تلك القصائد التي تشي بوهج الأمكنة وعبق الذكرى، وتلك الأخرى التي تناجي فيها ذاتها، كما في قصيدة “الشاعر”: أنا شاعر اخترت أشرعة الزمان لرحلتي وركبت في سفن المدى.. أختار منها ما يروق لمهجتي وتفردي.. فتسهر لحاجة الليل الطويل وسهد الكتابة لحروفها، فتحرق الشموس قناديلاً، وتطلق في السماء فرسها، فتجتاز بالهم الشعري المُعذب والعَـذب نفسه، آفاق الحياة بلا سفر فترى المنام بصحوتها كي تصنع الإبداع، وتستحضر بزوغ النبوءة فيسير بها التابوت يحمله اليم، محفوفاً بأضواء القمر كي تزرع الأرض شعراً ونخيلاً، والسماء غيمات ومطراً، والبحر حلماً ورؤى فتقول في القصيدة السابقة نفسها: ويسير بي التابوت.. يحمله يمٌ وأضواء القمر.. من رحم الهناك..هنا أرضا نخيلا..غيمة تهمي كما يهمي المطر .... مازلت أقطع عمري الباقي على كف الرياح ولي في كل شبر مستقر في البحر حلمي.. والتمدد دأبه لا الصيد مهنة خطوتي.. والغوص ليس بمهنتي..
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©