الأربعاء 17 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الغواص.. المزمل بالرغبة الجامحة وخشوع الكهنة

الغواص.. المزمل بالرغبة الجامحة وخشوع الكهنة
19 يونيو 2013 20:58
علي أبوالريش كنت وحدك في الظلمات، تبحث عن سراج الحياة، تحرث الأعماق بحدقة الحلم. كنت وحدك في العتمة، تسأل في الأحشاء عن در يعيد التوازن إلى شفتيك، يملأ يديك، يعيدك إلى السطح المبلل باللهفة محملاً بالبهجة.. غاصت معك صورة امرأة وجهها المغسول بالشوق والحنين إلى رائحة البحر، أنفاس المجيء المتلهف إلى أنثى، إلى ذراعيك يطوقان شغفك، ولهفك، وقلقك، ولوعتك الأبدية في سماوات الروح. كنت وحدك، تلون الموجة ببياض الفرح، وتسطر البحر بأصابع الرجفة في المنطقة المجهولة من القلب من الدرب المعشوشب بأنياب المفترسات المتوحشات النابشات في نسيج الماء عن دم ساخن بسخونة الصحراء، عن قدم تقرض أبيات المحار في الليالي المدلهمة. كنت وحدك، عاشق يهيم في بحيرات الفكرة المجللة، بالغموض، تخوض في النشيد، متسائلاً أين الله؟ كنت وحدك ومعك تجوس اليدين المعروفتين، في بطون الوحشة، المرعبة ونوقك عند حافة النهار، يقف الجبار، ينتظر العودة المكللة، ينتظر الحزمة المجللة، والعينين المبللتين، بلمعة عند المحجرين. كنت وحدك، مثل كائن خرافي عارياً إلا من إرادة القوة، وفلسفة الصيرورة القابضة على عنق الزجاجة. لؤلؤة الزمان وهذا الملك المبجل، يشنف الخاطر بحبة تمر، وكلمة بارك الله فيك ثم يشيح باحثاً في بطن الحزمة عن لؤلؤة الزمان عن نجمة تحرك في الكامن، مخالب باتت عطشى في انتظار ما لم يأتِ بعد، وأنت تحدق في عينيه، تقرأ التجاعيد السمراء، بحنق أحياناً وبغض أحياناً أخرى، لأنك كنت تعرف أنه ليس غير حبَّة التمر تكون الجزاء الأوفر، وهناك عند الشاطئ، خلف الماء ما بين التنهيدة والأخرى، تخرج صورة امرأة لعلها لم تزل تذكر من سيعود، وبين خافقيه اشتياقات زمن طالت زفراته واستمات القلب لعلّه يحظى بلقاء يعيد الدماء الساخنة إلى مواطنها في الوريد المتضور. كنت وحدك، ترسم صورة العناق تحت الماء لا تفكر إلا في المرأة التي أودعتك قلبها وبعض رائحة عطرة من ليال فائتات، فلا تعلم أنت هل كنت تسبح في عمق الماء، أم في محيط عينيها، لا تعلم لأن في المحيطات يتشابه لون الماء، وأصل اللوعة، وفي كلا الحالتين كنت تغوص في المرونة، وتتوغل في العمق كأنك تمارس الفطرة الأزلية وبشهوة المدنفين كنت تتحاشى رعبك باحتضان الماء، فلا تدري أنت لماذا، الماء يشبه الأنثى، لماذا الاتحاد مع الماء، كالاتحاد مع امرأة، غارقة في العويل الداخلي مغدقة في العطاء مشتعلة إلى حد الاكتواء، إلى حد الارتواء إلى حد الذروة القصوى في العطاء. كنت وحدك في الأحشاء، جنيناً ينبث من فراغات المراحل المبتلة بلزوجة الماء، المخضوضة بالموجة المتوهجة بالحياة. كنت وحدك المرتاب من العودة بلا جنين في بطن الحزمة، تعرف جيداً أنك ستخذل من يعترف بالخذلان، ولا يعرف الخلان، كنت وحدك تساورك نفسك عن عودة مظفرة، وعن رجوع إلى مخدع الذاكرة، تشملك الأنثى الذارفة حنين الغياب، بقبلة بلمسة تعيد للجسد، دورته الدموية وتعيدك إلى الوجود، جنيناً يلحس إبهامه، بلذة البدايات المذهلة. كنت وحدك تعشق الماء كما تكره الواقف عند سماء المركب الكبير، تطوف في الزوايا الدامسة تسأل الله أن يلهمك بنجمة، أكبر من محارات الغواصين، وتلقيها في حضن الوارف تلهفاً ثم تستلقي على فراش الليل، مبتهلاً أن يرضى الله عنك ويرضى الصاحب الجليل.. تسأل الله أن تعود وقد أحصيت عدد النجمات في حضن النوخذا، وأعددت للأيام ما يكفي لأن يفتح أسارير امرأة، ظامئة إلى حد الإغماءة. كنت وحدك في السفر الطويل جواداً يحطم المقاييس، ويحظى بالتصفيق، ويعلو الموال على لسان النهام نشيداً أممياً يقرع أجراس العودة في صميم الكون ويجعلك أنت الزاهد، الشاهد، الساعد، الناهد، الراعد، السارد، الشارد في أتون الأشعلة المبهمة، وفضاءات يفرقها الموج، بالضجيج، والعجيج، والبحر يصفق بأجنحة البياض كنورس فرح بقوت الأعوام الشظفة. كنت وحدك نخلة في الماء، في غضون البحر، وتشققات الموج. كنت وحدك جمرة في موقد الماء تحرق المحار بيدين مشتعلتين بالعزيمة. كنت وحدك تمارس التلاوة بصمت وتغوص وتجوس يحيطك الموت من كل الجهات كما غضب النوخذا، يطوقك القلق من جهة القلب تفكر في اللؤلؤة، تفكر في النهاية المظفرة، تفكر فيك وفيها، وفيهم، تفكر في حياة بعد الغوص، تفكر في موت قد يداهمك في أي غمضة، أو لمضة، تفكر في أشيائك الأخرى التي تركتها وحيدة مع الأسئلة، والصمت الرهيب.. تفكر في صندوق الحظ المختبئ في زاوية من خيمة اللقاءات الحميمة، تفكر في امرأة أحببتها، ولكن لم يعد في الوقت متسعاً لأن تكون الحبيبة، اللصيقة، فالأشياء كانت تذهب بسرعة البرق، كما يذهب الماء من بين أصابعك حين تضم الكف على فراغتك اللامتناهية. كنت وحدك تعرف ماذا يعني اللامتناهي، لأنه الشبيه إلى حزنك، إلى تعبك إلى حبك البدائي العتيد. كنت وحدك، تحب بصمت، وتكره بصمت، تخاف من العيون، وتخشى من لطمة ربما تكون القاضية، ربما تكون الموئل الأخير في باطن البحر.. هكذا كان يفعل النوخذا عندما يشعر باليأس، عندما يحتل أناة الغضب، لا يعرف سوى الذود عن خذلانه بالعصا الغليظة. الزحام والهدير كنت وحدك تستجمع عناصر القوة ويقفز في قعر الموت، وتحت رحى الرجفة الباردة، كنت تغامر، أو هكذا كنت تتصرف بلا قلب ساعة الذروة. كنت وحدك في زحام الغواصين، وهدير الموج، تشتم الرائحة ثوب امرأة غادرتها قسراً، عطر امرأة يختبئ في أنف الذاكرة، ويوقد خيالاً أوسع من قماشة الغيم، وأشد فتكاً من سيول السماء الغاضبة. كنت وحدك تعتنق فكرة الانتماء إلى الله كيما ينجيك من الغضب، والسغب، والتعب، والرغب، والنهب، والسلب.. كنت بأدب تحاور الموجة، لعلها لا تشيح بوجوم، لعلها تشبه شيئاً من النجوم وتبرق في عينيك لؤلؤة ترتل آيات الفرح، وتجود الغناء الكوني بلسان صحراوي فصيح لا يزل، ولا يخل، ولا يكل. كنت وحدك الناظر، الماطر، الناهر، الساهر، السادر، الباهر، القادر، القاهر، الكاسر، الجاسر، الحاسر، السافر، النادر، الحافر، الخاطر، المبادر، الهادر في سماوات البحر في قلب المحارات. كنت وحدك العاشق، الباشق، السامق، الباسق، الطارق، البارق، الشاهق، الحارق، السابق، واللاحق. كنت وحدك في المجهول غياهب، ومذاهب، ومواكب، ومراكب، ومناكب، ومواهب، وسواكب، وشوائب، وذوائب. كنت وحدك تتمشى في العمق كفارس تخطى عتبات الوغى، وحط عند قارعة الطمأنينة. كنت وحدك في وجه الموجة، عند شفة الماء، تبسمل وتسأل عن لحظة حاسمة تزيل عن كاهلك غضب الزمان، والمكان، وبيانك هذا الصهيل الأبدي، ينحت روحك، ويباغتك بالفورة الجازمة. كنت وحدك على الرمل المحفور بأنفاسك المتقطعة ترسم خارطة للتعب، وتضاريس الانتماء الحقيقي لمكان ليس له إنسان غيرك. كنت وحدك، مع تقطيبة النوخذا، وتعجرف الماء، تساوم، وتقاوم تتأزر بالتحدي، وعنفوان زمان ما كان فيه غير التحدي، أداة للبقاء. كنت وحدك تخوض المصير بحرير الذاكرة وخرير الماء المتدفق في عروض محبتك. كنت وحدك، رحلة أبدية وسفر مسافاته أطول من أعناق الرجال الأفذاذ طرقاته أكثر تشعباً من تعاريج الوحدة المخيفة. كنت وحدك، جزيرة طيورها صغار في انتظار العودة، ولا بد من العشب، يحمي أعشاشهم لا بد من التعب يسبح سعادتهم لا بد من الغوص ليحمي البحر عرين الظامئين. كنت وحدك، تخصب البحر بالعرق وتشذب أعشابه بأظافر البحث عن در يختبئ في تلافيف المحار. كنت وحدك، تحاصر الماء بالحلم، والرغبة وتتهجى حروف العاديات، برموش تهتف كالأعلام المرفرفة. كنت وحدك، تنام على صدر السفينة، وقلبك تخطفه أجنحة الخيال، والفكرة المبشرة. كنت وحدك تطارد النهار ليأتي الليل، وتهج طيور الظلام وتختفي عيني النوخذا، ويخمد هديره. كنت وحدك الموقر حين لا يحضر الرقيب والحسيب، حين تنام العيون، وتبقى عيونك معلقة في سماء الوحشة. كنت وحدك تبعث الرسائل، مزملة بالرغبة الجامحة، بخشوع الكهنة، وصمت الرهبان، ودموع السواحل المفجوعة. كنت وحدك، كفيلسوف لاحقته محاكم التفتيش، حين تعود بخفى حنين، والوفاض خالياً. كنت وحدك كمشرد خسر حتى ملابسه الداخلية، ونام في عراء البحر، يرتعد حرقة وكمداً. كنت وحدك كنملة سليمان، تهم بالرحيل حين تستشعر بالخطر، ثم تحمدك على النجاة من نار الظلمة المباغتة.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©