الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

أسير «أغمات» الحر

أسير «أغمات» الحر
19 يونيو 2013 21:00
على الرغم من كل محاولاتي لاختصار سيرة وشعر المعتمد بن عباد، إلا أنني وجدت أن هذا الشاعر الملك يستحق أن نعود إليه مرة أخرى، لنقدم جوانب أخرى من حياته، ونختار قصيدة أخرى لتكون الصورة عند القارئ أكثر وضوحاً. ولعلّ لكل قصيدة من قصائد المعتمد بن عباد حكاية تستحق السرد، لأنه كان لا يقول الشعر ليظهر قدرته اللغوية، بل كان ينظمه ليجسد مشاعره، ويسجل تجربة جديدة من تجارب الحياة التي مرّ بها ومرّت به. فمنذ كان المعتمد شاباً يافعاً، سار على نهج أبيه الملك الشاعر الفقيه، وهو أبو عمرو عباد الملقب بالمعتضد، فورث عنه الشعر والفروسية والشجاعة والبأس. كان أبوه المعتضد محباً للأدب يحتفي بالشعراء، ويعقد لهم مجلساً في قصره كل يوم اثنين، لا يدخله إلا من كان شاعراً فيصغي إليهم ويكرمهم ويكافئهم على إبداعهم. وكان المعتضد قد أرسل ابنه المعتمد وأخاه جابر على رأس جيش للاستيلاء على ملقة، ولم يمض إلا قليل على فتحها حتى عاد باديس الصنهاجي فانتزعها، واضطر المعتمد وأخوه جابر إلى الفرار إلى رندة. وغضب المعتضد على ولده المعتمد بن عباد، وحمله مسؤولية ضياع ملقة، مما جعل المعتمد قلقاً حائراً لا يعرف ماذا يفعل، ولا كيف يتخلص من غضب أبيه. ولما كان الشعر سلامه الفعّال في مثل هذه المواقف نظم قصيدة استرضاء لوالده جاء فيها: سَكِّن فؤادك لا تذهب بك الفِكَرُ ماذا يعيد عليك الهمُّ والسهرُ وازجر جفونك لا ترض البكاء لها واصبر فقد كنت عند الخطب تصطبرُ فوّض إلى الله فيما أنت خائفُهُ وثق بمعتضدٍ بالله يغتفِرُ له يدٌ، كلّ جبارٍ يقبّلها لولا نداها لقلنا إنها حجرُ لم يأتِ عبدك ذنباً يستحقُّ به عتباً، وها هو قد ناداك يعتذرُ رضاك راحة نفسي، لا فجعت به فهو العتاد الذي للدهر أدّخرُ ولقد نجح المعتمد في استرضاء أبيه بتلك القصيدة وغيرها، وعاد الوئام بينهما إلى سابق عهده. وعندما أوقع بعض الوشاة بينه وبين يوسف بن تاشفين ملك المغرب في عصر المرابطين، والذي هب لنجدة العرب والمسلمين في الأندلس، وحقق النصر على الإسبان بقيادة ملك قشتالة الفونسو في معركة الزلاقة، قامت بين المرابطين والمعتمد بن عباد حرب شرسة بعد وقت قصير من معركة الزلاقة، حيث عاد يوسف بن تاشفين إلى الأندلس للمرة الثالثة عام 484 هجرية، وفي نيته القضاء على جميع ملوك الطوائف، بمن فيهم المعتمد بن عباد. سار أولاً إلى غرناطة، وقضى عليها، ثم وزع جيوشه، وفرّق كتائبه، ووجه جيشاً إلى قرطبة، وكان عليها المأمون بن المعتمد بن عباد. دافع المأمون ببسالة عن قرطبة، وظلّ يقاتل حتى قتل في صفر سنة 484. كذلك وجه بن تاشفين جيشاً آخر إلى رندة وعليها الراضي بن المعتمد بن عباد الذي لقي المصير نفسه. واستعد المعتمد بن عباد للدفاع عن مملكته في اشبيلية، ولكن المرابطين كانوا أكثر عدداً. وفي يوم الثلاثاء، منتصف رجب سنة 484 هجرية، هاجم جيش ابن تاشفين اشبيلية، حيث قصر المعتمد بن عباد. خرج المعتمد من قصره عليه غلالة ترف على بدنه وسيفه يتلظى في يده، فلقي على أبواب مدينته فارساً مشهوراً، فرماه الفارس برمحٍ أخطأه، وبادر المعتمد بضرب الفارس بسيفه فشقَّ أضلاعه، وخرّ صريعاً. وحينما نصحوه بالاستسلام نظراً لأن المعركة غير متكافئة، ولا أمل له فيها بأي نصر، رد المعتمد بقصيدة رائعة جاء فيها: لمّا تماسكتِ الدّموعُ وتنبَّهَ القلبُ الصَّدِيعُ قالوا: الخضوعُ سياسةٌ فليبدُ منك لهم خضوعُ وألذ من طعم الخضوع على فمي السمُّ النقيعُ إن يسلب القومُ العد ملكي وتسلمني الجموعُ فالقلبُ بين ضلوعه لم تسلم القلبَ الضلوعُ لم أُسْتَلَبْ شرف الطباع، أيسلب الشرف الرفيعُ قد رمت يوم نزالهم ألا تحصنني الدروعُ وبذلت نفسي كي تسيل إذا يسيل بها النجيعُ أجلي تأخَّرَ، لم يكن بهواي ذلي والخضوعُ ما سرت قط أي القتال وكان من أملي الرجوعُ يؤكد المؤرخون أن المعتمد بن عباد، لم يستسلم ولم يخضع، وظل يقاتل حتى أسر، وكان يود أن يموت لا أن يقع في الأسر، ولكن شاءت الأقدار، ولم يرحم يوسف بن تاشفين المعتمد، وعلى ما يبدو كان يضيق بعنفوانه وكبريائه، خاصة عندما أحجم المعتمد عن الاستعطاف، وطلب الرحمة والعفو من الملك المغربي الذي قام هو نفسه بالاستنجاد به للحفاظ على الأندلس من الجيوش الإسبانية. تغيرت حال المعتمد في الأسر، حيث نقله يوسف بن تاشفين إلى أغمات وأثقله بالقيود والأصفاد، ولم يرحم أسرته التي استشهد أبناؤها واحداً بعد الآخر، ولم يبق معه في أغمات إلا زوجه اعتماد وبناته اللواتي لم يكنّ لهن من معيل، فقمن بالعمل البسيط ليتمكن من العيش، وعدم الموت جوعاً. عاش المعتمد في الأندلس حياة الملوك، وجسّد بشعره حياته الرغيدة المرفهة، حيث نظم متغزلاً، فأبدع في غزله، ونظم أيضاً الشعر ليرد على قصائد الشعراء الذين كانوا يشاكونه، وأخيراً نظمه في الأسر، وكان ذلك الشعر أشبه بالبكاء على المجد المفقود والملك الضائع. قال عنه الفتح بن خانقان في كتابه “قلائد العقبات”: “كانت حضرته مطمحاً للهمم، ومسرحاً لآمال الأمم، فأصبح عصره أجمل عصر، وغدا مصره أجمل مصر، تسفح فيه ديم الكرم، ويفصح فيه لسانا سيف وقلم”. وقال عنه المراكشي في كتابه المعجب: “وكان المعتمد هذا يُشَبَّه بهارون الواثق بالله من ملوك بني العباس، ذكاء نفس، وغزارة أدب. وكان شعره كأنه الحلل المنشَّرة، واجتمع له من الشعراء وأهل الأدب ما لم يجتمع لملك قبله من ملوك الأندلس، وكان فيه من الفضائل الذاتية ما لا يحصى: كالشجاعة والسخاء والحياء والنزاهة”. ما قيل في المعتمد بن عباد كثير، ويحتاج إلى مجلدات لجمعه، ولكننا هنا نتناول شعره المجسد لتجربته والمؤرخ لعصره لنصغ إليه، وهو يبرر بشعره ثلاثة أسباب منعن الحبيبة من زيارته، يقول المعتمد: ثلاثة منعتها عن زيارتنا خوف الرقيب وخوف الحاسد الحنق ضوء الجبين، ووسواس الحليِّ، وما تحوى معاطفها من عنبر عبق هب الجبين بفضل الكم تستره والحلي تنزعه، ما حيلة العرق ولنسمعه وهو يعاتب الشاعر ابن زيدون الذي وعد بالحضور وأخلف الموعد: وعدت وأخلفتني الموعدا وخالفت بالمنتهى المبتدا وأطمعتني ثم أيأستني ويمنعني الودُّ أن أحقدا وعاد ضياء ارتقابي ظلاماً وأصبح مصباحُهُ أرمدا على ذاك أمذيك من ماجدٍ نشبَّت بالظرف فيه الهوى لك العلم مهما أرد بحرَهُ لأروى به، أحمدُ الموردا وقد رد عليه ابن زيدون بقصيدة مطلعها: أفاض سماحُك بحر الندى وأقبس هديُكَ نورَ الهوى ولكن القصيدة التي هزتني للمعتمد بن عباد هي تلك التي سنتناول حكايتها. لم يكن المعتمد بن عباد مقيماً لدى عائلته في أغمات، بل كان يقيم في السجن مع جميع المغضوب عليهم من أمير المسلمين في المغرب يوسف بن تاشفين. وكانت زيارة عائلته له مقتصرة على الأعياد وبعض المناسبات. كانت قد مضت على سجنه سنة أو سنتان حينما حل أحد الأعياد، وسمح لبناته بزيارته في سجنه. صدم المعتمد وهو يرى بناته بثيابهن البالية ووجوههن الصفراء يدخلن عليه السجن، كما صدمت البنات برؤية أبيهن الملك العظيم يرسف في الأغلال والأصفاد. * ما الذي أرى... أليس لديكن غير هذه الثياب الرثة؟ ـ يا أبتاه... هذا لا يهم... المهم أنت. * أنا كما ترين... لا حول لي ولا قوة.. ـ صبراً يا أبتاه... لا بدّ لهذا الليل أن ينجلي * لا أرى لليلي نهاية... ولكن ماذا تعملن. ـ نحن نغزل للناس ويعطوننا الأجرة... الناس طيبون هنا في أغمات. * أجرة؟ الله الله.. أبعد ذلك العز في أشبيلية تعملن بالأجرة وتغزلن للناس؟ والله إنه لمنتهى الذل. ـ لا يا أبي... نحن مثلك.. نموت ولا نذل، فامسح دموعك واصبر.. لا بدّ للملك يوسف بن تاشفين أن يرق ويعفو. * لا أطلب إلا عفو الله... فأنا وهو سائران إليه عاجلاً أو آجلاً.. كان ذلك اللقاء أشد على نفس المعتمد بن عباد من مأساة أسرته ونهاية ملكه.. فما كادت بناته يخرجن من الزيارة حتى فاضت قريحته ونظم تلك القصيدة الخالدة: فيما مضى كنت بالأعياد مسرورا فساءك العيدٍ في أغمات مأسورا ترى بناتك في الأطمار جائعةً يغزلن للناس لا يملكن قطميرا برزن نحوك للتسليم خاشعةً أبصارُهنَّ حيراتٍ مكاسيرا يطأن في الطين، والأقدامُ حافيةٌ كأنها لم تطأ مسكاً وكافورا لا خدّ إلا ويشكو الجدبَ ظاهرُهُ وقبل كان بماء الورد ممطورا أفطرت في العيد لا عادت إساءتُهُ فكان فطرُكَ للأكباد تفطيرا قد كان دهرك إن تأمرْهُ ممتثل فردّك الدهرُ منهياً ومأمورا من بات بعدك في ملكٍ يُسرُّ بِهِ فإنما بات بالأحلام مغرورا المراجع 1 - ديوان المعتمد بن عباد/ جمع وتحقيق أحمد بدوي وحامد عبد المجيد. 2 - المعجب/ المراكشي. 3 - وفيات الأعيان/ ابن خلكان. 4 - أعمال الأعلام/ لسان الدين بن الخطيب. 5 - ديوان ابن زيدون. 6 - ديوان ابن حمديس. 7 - قلائد العقبان/ الفتح بن خاقان. 8 - الكامل/ ابن الأثير.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©