الخميس 28 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

أعباء التاريخ..

19 يونيو 2013 21:01
وأنا أقرأ الرواية البكر للروائي العراقي طلال كمال الدين الموسومة “وميض البرق”، تبادرت إلى ذهني فكرة هذه العودة إلى التاريخ، سواء أكانت لتاريخنا القريب الذي شهدناه وعشنا أحداثه عبر حياتنا القصيرة الخاطفة أو ذلك التاريخ البعيد ومنذ جلجامش الملك الخامس بعد الطوفان مرورا بأزمان وأحداث وشخصيات لا حصر لها، ترى ما جدوى مثل هذه العودة؟ ألم نرث من التاريخ عقدا ومتاعب ما نزال نعاني منها في مجتمعنا العربي؟ ألا يبدو التاريخ أحيانا عبئا مضافا إلى أعبائنا في هذا العصر؟ بيد أن التاريخ من زاوية أخرى سجل حافل بما يفتخر به على صعيد المسيرة الإنسانية والعربية على حد سواء، أليس هو جذرنا وأصولنا التي تكمن فيه خصوصيتنا عن بقية أمم العالم؟ فهو إذن مما لا يرفض كله وهو أيضا مما لا يقبل على عواهنه، إنه مثل أشياء كثيرة في هذه الحياة تنطوي على قطبين اثنين، أحدهما إيجابي والآخر سلبي، والروائي الفنان غير مطالب بأن يكتب رواية ذات رسالة تاريخية مباشرة وإلا سقطت الرواية في مزلق التقريرية، ونأت عن دائرة الفن الذي يوحي بالدلالة ويرمز للمعنى عبر أدواته ونسيجه الفني. إذن لا مناص من العودة إلى المبدأ الأول الذي يستند إليه الفن وأعني به تحديدا الانتقاء من التاريخ وبما ينعكس إيجابا على حياتنا المعاصرة، ويضيء ما كان يبدو معتما فيها من دون تدخل مباشر من الروائي الفنان. وهذا ما فعله تماما الروائي العراقي طلال كمال الدين حين اختار أحداثه من تاريخنا القريب، بدءا بالعهد الملكي ومرورا بثورة الرابع عشر من تموز عام 1958 وما تلاها من أحداث كان يشير إليها إشارات غير مباشرة، وكأن الروائي طلال كمال الدين يريد أن يقول إن روايته ليست رواية تاريخية، وإنه غير معني بالتاريخ المدعوم بالأرقام والأسماء والأحداث الحقيقية. ومن ذلك ما ورد عبر مونولوج بطل روايته بدران الساعي بعد أن دهس بسيارته رجلا كهلا، واستغرق هذا الحدث صفحات طويلة من الرواية: “استبعد فكرة أن يكون الكهل قد فعل ما فعله بدافع الانتحار... مثل تلك الحوادث النادرة تصبح أحداثا تاريخية، تنتقل حكاياتها من جيل إلى جيل، إذ لم يكن ذلك العمل مألوفا بين أبناء وطنه، لأن قتل النفس شرير ومحرم مثل قتل الآخرين وربما أكثر سوءا، على الرغم من ذلك دخل أحد السياسيين التاريخ بسبب انتحاره، وحصل على ساحة وتمثال في مركز العاصمة يخلدان اسمه. استرجع بدران صورة الرجل البرونزي النحيف الذي يتجه ببصره نحو الباب الشرقي لمدينة بغداد العريقة. وعلى مقربة من ذلك التمثال... تقع قاعة التشريفات التي كان يفترض أن تجري فيها وقائع حفل تكريمه عن روايته (قبل الرحيل) باعتبارها أهم عمل أدبي للعام الماضي، تلك الرواية التي استقبلها النقاد بحماس شديد واستقبلها القراء بفتور أشد.” وهنا يوائم طلال كمال الدين بين الحدث التاريخي المعروف وأعني به انتحار رئيس الوزراء العراقي الأسبق زمن الحكم الملكي، وبين الحدث السردي لبطله بدران، وهو يلمح ظاهرة الانفصام الحاد بين جمهور القراء الذي يعزف عن القراءة الجادة وبين الطبقة المثقفة، وهي في واقع الأمر ليست طبقة بقدر ماهي مجموعة صغيرة ينظر إليها الساسة بارتياب وعدم ثقة. يرد عبر وعي ناصر الشهابي الذي يمثل وجهة نظر السلطة: “هؤلاء المهرجون الذين يسمونهم المثقفين يمتلكون قدرات خرافية على المشاكسة واللعب بالكلمات من أجل تحريض الآخرين”. وردت معظم أحداث الرواية من خلال مونولوج طويل لبدران مع ذاته وعبر ذكرياته، وقد انتقى الروائي هذه الشخصية من تلك المجموعة المثقفة التي ينتمي إليها الروائي ذاته، فضلا عن أن بدران شخصية واقعية حاول الروائي أن يمنحها ملامح خاصة، فهو روائي معروف ومثقف لا تقتصر همومه على ذاته لا سيما أنه فقد زوج أخته (فتحي) الذي كان يضيء له طريق الثقافة إذ اختفى فتحي “خرج ذات مساء من المنزل ولم يرجع بعد ذلك، بحثوا عنه في كل مكان دون جدوى”. كما فقد بدران والده جواد الساعي في ظروف غامضة غير معروفة، وهو حدث مهم يتكرر ذكره في مواضع من الرواية وعبر وعي بدران وبقية الشخصيات. وتختتم الرواية بهذا الحدث “اختفى جواد الساعي ذات يوم، وبعد أن انقضت تلك الأيام الرهيبة، أخذ الناس يبحثون عن الأحبة المفقودين في الأبنية والسراديب السرية أو بين الأعداد الهائلة من الجثث التي تعرضت إلى تشويهات متنوعة، غير أن أقرباء جواد وأصحابه لم يعثروا على أي أثر له”. ولا يغلق الروائي الباب أمام احتمال عودة جواد الساعي في إطار السياق الروائي الذي وضعه فيه، إذ يرد في السطور الأخيرة من الرواية وتحت عنوان “الأمل”: “حتى بعد بلوغهم قمة اليأس ومللهم من البحث العبثي، ظل الأمل يراود أقارب جواد وأصحابه بأنه ربما كان حيا يرزق مع أن السلطات المختصة أصدرت شهادة وفاته الرسمية منذ زمن بعيد استنادا إلى فترة غيابه الطويلة”. إن اختفاء شخصية تضج بالحياة كشخصية جواد الساعي واحتمال عودتها مما يعزز الرمز في الرواية وأنها متفائلة بمستقبل العراق وقدرته على أن يستعيد عافيته، وإن مالت الرواية إلى تسليط الضوء على أجواء الفقد والموت على وجه العموم حرصا على نقل الواقع آنذاك. وقد ظهرت شخصية ناصر الشهابي وكأنها القطب المضاد لشخصية بدران الساعي على الرغم من أن أبويهما كانا صديقين حميمين (صقر الشهابي وجواد الساعي) إذ اختار ناصر الشهابي خيار العنف بلا حدود. يرد من خلال مونولوجه: “كيف يمكن أن تسير الحياة بدون عنف طالما يوجد هناك دائما أعداء يتربصون”. بيد أن شخصيات طلال كمال الدين تخضع لرؤية واقعية واعية، فالشخصية الخيرة ليست كقطعة الثلج البيضاء وعلى غرار شخصيات الحكاية الخرافية. وينطبق هذا على الشخصية الشريرة، فهي ليست سوداء تماما، فكل منهما يستند إلى مهاد واقعي وعبر تفاصيل تؤصل هذه الشخصيات وتهبها نبضا وحميمية، وإلا ما الذي حمل ناصر الشهابي على أن يفكر على النحو التالي: “مع زخم الأسئلة والعواطف، كانت تتدفق مشاعر ندم وأسى وكراهية النفس. ألم يكن من الأفضل لو اختار مهنة أخرى للعيش مثل بقية البشر؟ لكن من يستطيع أن يقاوم إغراء السلطة والمال والنقود؟” ولعل الروائي يعاقب ناصر الشهابي على قسوته واختصاصه الكريه في تعذيب الناس المشتبه بهم واستحصال اعترافاتهم: “لجأ إلى الإفراط في الشرب قبل النوم، ولما أصبحت تلك الوسيلة أقل نفعا وأكثر إيلاما، أخذ يجرب أنواعا من العقاقير عسى أن تساعده في كسب سويعات قليلة من النوم، حتى ولو كان نوما مضطربا يضج بالكوابيس والرؤى والأحلام المرعبة”. ولكي لا تكون شخصياته نسخا مكررة فقد منحها لمسات تجعلها منوعة كما الحياة، فهذا صقر الشهابي سليل الصحراء تنمو شخصيته باتجاه آخر انسجاما مع مبدأ تنوع الشخصيات واختلاف مهادها الاجتماعي والثقافي “فعلى الرغم من مظاهر الترف التي عمت القرية والمناصب الخطيرة التي حصل عليها شبابها، فقد حزن الشيخ صقر الشهابي والد ناصر حزنا غريبا لم يفهم أحد أسبابه. احتفظ ذلك الكهل بعافيته ونشاطه لزمن طويل لكن بضعة أشهر أعقبت التغيرات الجديدة، كانت كافية لانهيار صحته وذبول بدنه. خرب توارد الأفكار والهواجس أسلوبه الرصين في التفكير، راح ذلك الشيخ الجليل بقامته المديدة ووجهه المهيب يدور كالمجنون بين بيوت القرية ويتحدث أحاديث غريبة عن نهاية الدنيا وعن ظهور الأعور الدجال الذي ورد ذكره في كتب الملاحم والفتن”. وتتسم شخصية منير النعمان بسمات أخرى، ورد بعضها من خلال مونولوج منير النعمان ذاته: “رغم التاريخ النفسي السيئ لمنير النعمان وإدراكه لسخف شطحاته وتصرفاته الحمقاء جراء تهوره وغضبه السريع، فهو يستغرب الآن حجم الفجوة الهائلة بينه وبين الآخرين. لماذا يبتعدون عنه هكذا، أليسوا هم أيضا مذنبين؟”. وحين ألقي بدران في السجن، وهو حدث رئيسي في الرواية بسبب حادث الدهس المشار إليه داخل النص، يلتقي بدران (بطل الرواية) بشخصيات مختلفة منها شخصية الشرطي (برتبة مفوض) إذ يرد من خلال مونولوج بدران الطويل في الرواية: “هل قدر لي اليوم أن لا أفارق القسمات الحجرية لوجه هذا المفوض؟ أي حظ تعس، إنه لا يكلف نفسه مشقة الإصغاء”. وثمة نسق مختلف من الشخصيات التي وردت عبر تجربة بدران في السجن، ومنها شخصية المشعوذ في الرواية، وهو سليل الساحر حيث يتساءل بدران: “ما معنى هاتين العينين الجبارتين (للمشعوذ)، لا تناسب بينهما وبين الرأس الضئيل والبدن الهزيل. الدشداشة الرمادية الفضفاضة القصيرة كشفت عن ساقين نحيلتين... بدا الجسد بمجمله ضائعا في القماش الرمادي والرأس أشبه بعضو زائد قد نبت على الجسد بمحض المصادفة”. وتؤكد شخصية الملا شامي وكتبه عن السحر ذلك الهاجس الذي تحسه وأنت تقرأ رواية وميض البرق، وأعني به هاجس أن لا تكون الشخصيات داخل النص نمطية، بل هي شخصيات نامية تستجيب للسياق السردي الذي وضعها طلال كمال الدين فيه من جانب ومن الجانب الآخر خصوصيتها الموصولة ببيئتها المحلية: “لم يعثر جواد الساعي على الكنوز التي تحدث عنها الناس وبالغوا في وصفها، حتى قيل إن الملا شامي عرف أسرار السيمياء وحجر الفلاسفة الذي بفعله يتحول المعدن الخسيس إلى ذهب نفيس”. وقد كانت الأدوات الفنية الأخرى تؤكد فرادة الشخصيات وأنها نماذج لشخصيات مختلفة، وقد عزز الحوار بعض سمات هذه الشخصيات. ومن ذلك ما ورد في حوار بدران مع أحد شرطة تلك الناحية، وقد وصفته الرواية بأنه شرطي قصير، وكأنه يروم تصفية حساب قديم مع نفسه أو مع تاريخ لم يكن منصفا معه: “أنت إذن بدران الساعي ابن جواد ال..... تلك هي الدنيا، يهلك ملوكا ويستخلف آخرين... أولاد ال... لم تكتفوا بما فعلنموه في ذلك الزمن الأغبر، تقود سيارتك كالمجنون، ألا تبالي بأرواح الناس؟... كان الشرطي يتحدث بضغينة، وحين تلكأ في العثور على كلمات يتم بها حديثه، التفت إلى جهة المشعوذ وكأنه يراه للتو: وأنت وجه النحس، أي مصيبة جعلتك تشرفنا بالزيارة؟ لا بارك الله فيك ولا في خلقتك خلقة الشؤم”. وأما أحداث الرواية فقد تميز بعضها بالعنف، رغبة من الروائي في أن يكشف عن طبيعة تلك المرحلة من تاريخ العراق الحديث، وذلك النزيف الدائم للفقدان والموت والقهر على كل صعيد. ولعل الحدث التاريخي الأساسي هو حدث ثورة الرابع عشر من تموز، وما تلاها من انقلابات سياسية متتالية. ولم يشأ طلال كمال الدين أن يفصل وأن يشرح تلك الأحداث بل لمحها لمحا، وركز على تأثيرها البالغ وما خلفته من خراب وتدمير، ولا سيما داخل البنية النفسية لتلك الشخصيات. وقد منحت البيئة العراقية المحلية وتراثها الشعبي بوصفهما المهاد المكاني نكهة خاصة لرواية “وميض البرق”. وبعد فإن رواية وميض البرق تبشر بنتاج سردي متميز للروائي العراقي طلال كمال الدين، لا سيما وقد اتسمت هذه الرواية بتلقائية لافتة في اختيار الشخصيات وفي لغة الحوار وانتقاء الأحداث وفي صياغة الجملة السردية البسيطة المعبرة.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©