الخميس 28 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

سوسيولوجيا الأدب

سوسيولوجيا الأدب
23 نوفمبر 2016 02:58
كتابة: رومولو رونتشيني ترجمة: عزالدين عناية من الطبيعي أن يلقى مبحث سوسيولوجيا الأدب عنتاً في مساره لإيجاد تعريف إبستيمولوجي جامع خاص به، بوصفه مدخلًا نقدياً جديداً. وهو ما خلّف نوعاً من التذبذب في ظلّ الافتقار إلى خطة منهجية جلية، تجلى ذلك في البحث عن محور محدّد لاهتماماته ومجالاته، حتى بدا بمثابة التطفّل على حقول أخرى. سيما وأن مرجعية هذا المدخل تستند إلى مجالين متباعدين هما: علم الاجتماع والأدب، بما يجعل سوسيولوجيا الأدب تنهل من معينيْن: أحدهما عائد إلى أهل الأدب الذين دأبوا على دراسة تنوعات الحدث الأدبي وخشيتهم من توظيف أدوات بحث تعتمد على ملاحظة الخاصيات الجامعة والمتكررة للظواهر الاجتماعية؛ والآخر عائد إلى علماء الاجتماع، الذين دأبوا على استعمال التقنيات الاجتماعية، ويخشون التعاطي مع إنتاجات قليلة التلاؤم مع الاختبار الميداني على غرار الإنتاجات الفنية. وبالفعل برغم حضور جهاز تفسيري معتبر ودارسين لامعين مثل جورج لوكاش وفالتر بنيامين وتيودور أدورنو وأنطونيو غرامشي ولوسيان غولدمان، لا يزال مبحث سوسيولوجيا الأدب في سعي حثيث لرسم معالم هويته الخاصة. إذ يتلخّص المقصد العام في اختبار العلاقة الرابطة بين المبدع وعمله والجمهور المتلقي، وهو ما لم يجر التطرق إليه من قِبل الجماليات التقليدية. بما يعني الإحاطة بالقيمة الفنية والدلالية للأدب بوصفه تعبيراً وإبداعاً لجنس فني ضمن سياق تاريخي وظرف اجتماعي، وهو ما يمثّل جوهر اهتمام سوسيولوجيا الأدب. السياق المنهجي يمكن تحديد أغراض سوسيولوجيا الأدب ضمن علاقة تتخطى النظام الجامع للأفكار المثالية، حيث يصوغ المبدأ الجمالي خصوصيته داخل إطار شامل للمعرفة متأسس على استبطان الواقع. إذ لم يكن متاحاً تشكيل مدخليْ الجمالية ثم النقد الأدبي كتخصّصين مستقلّين سوى في أعقاب ظهور «نقد ملكة الحكم» لكانط، حيث تيسّر تحديد الأسس المنهجية للعمل الأدبي المتسم بطابعيْ الذاتية وبشمول الفعل الإبداعي. فقد جعل الاحتفاءُ بقيمة الحدس والإبداع والفنتازيا، على مستوى العلامات الشكلية، العملَ الفني بمنأى عن أي اختزال فلسفي أو علمي، وهو ما ضمِن للأدب عالَماً مثالياً محصوراً في ذاته، وبالمثل للأدباء حيزاً لغرض تناوله بالنقد. في مقابل هذه المواقف المجرّدة تراكمت مع العصر الحديث مدوّنة تاريخية أدبية، ارتبطت بالتحولات الاجتماعية الناتجة عن تطورات الثورة الصناعية، وانتهت إلى صياغة علاقة وثيقة بين الفن والمجتمع، وهو ما أتاح إمكانية تأويل واقعية. لذلك مع الأدوات النقدية المتبناة من الأنثروبولوجيا الثقافية والبنيوية والتحليل النفسي وعلم الاجتماع، جرى تدشين خطاب يولي البعد الاجتماعي للعمل الفني اهتماماً. فالأدب، بوصفه مؤسّسة جمالية، لا ينتج أجناسا فحسب، بل مضموناً معرفياً أيضاً. وبوصفه فنّاً لغوياً فهو يقف على معيار عام للتواصل، ما يجعل الكاتب أمام مهمة عسيرة لبلورة مادته الخاصة لإبلاغ ذلك النظام المكوَّن، وهو ما يعالج مواد مختلفة موضوعياً عن العلاقة البسيطة والمعتادة، أو عن الخبر المطبوع. فالتوازن الذي دعم على مدى قرون البنية الأدبية كحاملة لرسالة كونية للجمال بعيداً عن الصواب، تمحور حول معادلة رمزية تتوزع بين الفكرة والتعبير، حيث التقليد مدفوع إلى تمثّل الواقع من خلال استخلاص التجربة الجمالية من المعيش المستهلك ومن المبتذل اليومي. ولا ينحصر بحث علم الاجتماع في الوقائع الاجتماعية، بوصفه مقاربة علمية، بتصنيف تفرعاتها؛ بل يحشر الوقائع ضمن جدل يهدف إلى الإحاطة ببواطن المجتمع، على سبيل أن الثقافة شكل من أشكال التعبير عن العلاقات البشرية. فقد بدا اللقاء بين علم الاجتماع والأدب ممكناً، منذ أن تخطى مفهومه الجامد البنى المجتمعية واعتمد منهجية وظيفية تتوجه لفهم الديناميكيات الاجتماعية، فاستطاع احتضان معنى العلاقات الرابطة بين العالم الداخلي والعالم الخارجي، أي ذلك الجدل الماثل بين البنية الاجتماعية الاقتصادية والبنى الفوقية الثقافية. ومع ماكس شيلر وجورج سيمل، وبالخصوص مع ماكس فيبر، تدشّن مسار سوسيولوجي جديد يعتمد تحليل الفعل الاجتماعي المتجلي في التشكيلات الإيديولوجية. وضمن هذا الإطار تشكّل علم اجتماع المعرفة بوصفه منهج بحث في الشروط الاجتماعية لسائر أشكال الفكر، الفلسفي والعلمي والفني، ويبرز لوكاش وأرنست غرونوالد من بين أهم دعاة هذا التوجه. فقد كشفت دراسة أوضاع المثقفين، التي دشّنها فيبر، التعالي النسبي للمثقف عن الأيديولوجيات المهيمنة والسعي لتشكيل تجمعات منفصلة عن الجسد الاجتماعي. حقل البحث بالانطلاق من الصياغة البنيوية الكلاسيكية لرومان جاكبوسن (الباث- الرسالة -المتلقي) والتي تعتمد التحليل المتحور حول النص، تمّ إنشاء صياغة منهجية مبسطة، منفتحة على جملة من العناصر التي تميز الظاهرة الأدبية: المؤلِّف والعمل والجمهور. هكذا يجري الاهتمام بالكاتب ضمن إطاره الاجتماعي، وظرفه الزمني، وواقعه الأُسري، وفي مجال عمله وضمن جيله ومدرسته الأدبية، ناهيك عن أوضاعه المعيشية وما يُعرف بحقوق المؤلف؛ ويجري الاهتمام بالعمل بوصفه عالَما تخيّليا وأسلوبا وجنسا وإنتاجا أدبيا؛ وفي مستوى آخر بالجمهور بوصفه فضاء لاستهلاك المنتوج المعرفي، سواء ضمن الفئات الاجتماعية المتنفذة أو ضمن الجموع الشعبية، وبالذوق وبأفق انتظارات القراء، أو كذلك بالفضاء الثقافي والتوجهات ضمن فترة تاريخية محددة. بشكل ما تقتضي العلاقة الجدلية بين المؤلِّف والعمل والجمهور ديناميكية المنتوج الأدبي المتولّد عن مبادرة فردية ضمن وضع اجتماعي محدد، يتوجه فيها العمل من خلال الإعلام ومن خلال مأسسة القيم الجماعية إلى المجتمع المتأتي منه، ليصبح الذاتي جماعيا. ومن مهام سوسيولوجيا الأدب تحليل دورة الإنتاج والتوزيع والاستهلاك للأدب. الإشكالية يتلاءم عمقها مع رحابة حقل البحث. وفي نطاق الالتزام بالبحث المنهجي، سنحاول الاهتمام بعنصرين أساسيين: عملية اختبار الأوضاع الثقافية، من خلال النص الأدبي، وما يجري فيه من احتضان للقيم الجمالية وتبيّن مستوى استهلاكها في أوساط الطبقات المهيمنة والطبقات الخاضعة. الاعتراف المادي وتوجهات العالم الأدبي عبر اختبار سياقات التكوين والتواصل بين الأيديولوجيات. وتندرج ضمن المعطى الأول دراسة تطور الأجناس الأدبية والأشكال والأساليب خلال مرحلة تاريخية محددة؛ وضمن المعطى الثاني دراسة أوضاع المثقف والصحافة وفضاءات الاستهلاك الأيديولوجية والأدبية، فضلا عن الدراسة ذات المنحى السوسيولوجي للثقافة، والتي تستهدف دائرة الإنتاج والتوزيع والاستهلاك للأفكار والصور، التي تلبي انتظارات محددة في ذوق الجمهور وهو ما يدخُل ضمن دائرة اهتمام سوسيولوجيا الأدب. التاريخية نجد توجهين أساسيين: ذلك الذي يرى في صياغة المفاهيم المتعلقة بالفن والمجتمع عناصر التشكل المتطورة لسوسيولوجيا الأدب كتخصص علمي. بعيداً عن التعاطي المجرد مع الأفكار، ذاك الذي يركز على التطور الفعلي للأفكار والوقائع، وبالتالي على ضرورة الاهتمام بالحالة التاريخية وحسن الإمساك بالمفاتيح السوسيولوجية للمضامين والأشكال الأدبية. كان ألبير مِمّي في مؤلفه «مشاكل سوسيولوجيا الأدب» (1960) قد تطرّق إلى «غياب التقليد» السابق في سوسيولوجيا الأدب. مع أن الفرضيات والأبحاث كانت متواجدة إبان فترة ما بين الحربين، أي العشرينيات والثلاثينيات، حين طُرحت مسألة أزمة النظام الرأسمالي القديم وانفتحت مسارات بديلة مع المخطط الخماسي السوفييتي الأول في روسيا، ومع «النيو ديل» (المشروع الجديد) في الولايات المتحدة، ومع الدول الشمولية في إيطاليا وألمانيا. فقد تبيّن للمثقفين الأوروبيين والأميركان، إبان موجة الصراع المسلّح بين الديمقراطية والفاشية في إسبانيا، أن الفن ليس مجرد تجربة ذاتية للجميل بل هو خيار سياسي، وأداة مقاومة. فمن جانب، نَحتْ الثقافة للدفاع عن التقليد مع جوليان بيندا وخوسيه أورتيغا إيل غاسيت وتوماس إليوت، ومن جانب آخر، لإرساء تطور اجتماعي مع جورج أورويل ولويس أراغون وإغناسيو سيلون. إذن يمكن الحديث في تلك الفترة عن بوادر تأسيس سوسيولوجيا الأدب مع لوكاش، الذي تجاوز، ضمن خلاصة اجتماعية بين عالم الشكل وعالم المضمون، المنهجَ النقديَّ السوسيولوجي لبليخانوف صائغ نظرية الفن كانعكاس للواقع، وتاركاً لدارسي الجماليات تحديد معنى القيمة الأدبية. وفي فترة لاحقة حاول لوكاش حلّ عقدة سوسيولوجيا الأدب المتعلقة بالتواصل بين البنية الاجتماعية الاقتصادية والبنية الفوقية الأدبية. حيث الفهم اللوكاشي للواقعية كإلهام يوظفه الفن في تجربته في العالم، تتحول فيه من تجربة ذاتية في حد ذاتها إلى تجربة جماعية، وبالتالي يعي الفن تطور البشرية. في أعقاب ثلاثينيات القرن الماضي، حين غدا موضوع الفن-المجتمع يتخبط في وحل السياسة، أو بالأحرى إلى حدود السنوات الصاخبة التي أعقبت الحرب، والتواجه العنيد بين المعسكرين الشرقي والغربي، مثّلت الحقبة بالنسبة إلى الغرب ذروة الآلة التكنولوجية والاستهلاك. كما كانت الحقبة الأكثر تأثيراً وصخباً لحضارة المكْننة على بنى المجتمع التي ما فتئت مرتبطة بتقليد القيم الذاتية. ففي الولايات المتحدة حيث تبدو فورة الاستهلاك قوية، توقّف لتسجيل الظاهرة المتسارعة جملة من الكتّاب؛ ومنهم من حاول محاكمة الظاهرة بأدوات جمالية: بمنزع انتصاري مثل إدوارد شيلز، أو بالتطرق إلى الأمر بنظرة تشاؤمية مثل أرنست فان دين هاغ. جرى تناول المسألة مع هوركهايمر وأدورنو ومن قِبل مدرسة فراكفورت في «ديالكتيك الأوفكلارونغ»، وهو ما تظهر فيه الثقافة العامة بمثابة التطور المنطقي لسياق توسع الرأسمالية الاحتكارية، التي جرى تسميتها بكل وضوح بـ»الصناعة الثقافية». علاوة، يشير هوركهايمر وأدورنو في «جدل التنوير»، كيف أن الفن في مختلف أشكاله ليس بوسعه أن يكون معزولاً، بل ينبغي أن يشمل بتحريكه كافة المجتمع. في فرنسا، ما فتئ مرتبطاً بالضوابط الخلقية للوجودية في «ما معنى الأدب؟» بما يطرح الكاتب كحالة عامة للحضور في العالم، وبما يقتضي أن يحسّ بدوره الملتزم (engagé) تجاه الآخرين، أي تجاه جمهوره، الذي ينبغي أن يطلب ذلك الوفاق الحر منه، وهو وحده ما يمنح معنى لعمله. لوسيان غولدمان تلميذ لوكاش، الحذر من التوجهات البنيوية، من المدرسة الروسية إلى المدرسة الفرنسية، أرسى نظاماً جديداً في الأبحاث السوسيولوجية تمحور حول النواة الأساسية للنص الأدبي في علاقة مع فضاء القراءة. وهذا على خط الدراسات الإبستيمولوجية لجان بياجيه في «البنيوية الجينية»، فمن منظوره توجد قياسات جلية للبنية والتطور بين العالم الشكلي للعمل الفني والعالم العقلي لتجمعات اجتماعية محددة. وضمن اتجاه نقيض، وأكثر انشغالا بالتوزيع والاستفادة من المنتوج الأدبي منه بمسألة الإبداع، وسَمَ روبار إسكاربي في «سوسيولوجيا الأدب» مرحلةً مهمة ضمن سياق النشر والاستهلاك للعمل الأدبي. وفي العام نفسه أسّس إسكاربي في جامعة بوردو «معهدَ الأدب والتقنيات الفنية» عماده مناهج سوسيولوجية وإحصائية للبحث في الظواهر المتعلقة بتوسع استهلاك الأدب. ويرسم رايموند ويليامز في مؤلفّيْه «الثقافة والمجتمع» و»الثقافة والثورة الصناعية في إنجلترا» بتناسق كبير وبملاحظات نقدية نبيهة وجها لتطور فكرة الثقافة من العصر الرومنطيقي إلى الحرب العالمية الثانية. حيث يتابع في إيطاليا التقليد الإنساني، عبر كروتشي وجنتيلي أثناء الحقبة الفاشية، إذ فقط بعد التحرير حصل تفجر في الاهتمام بعلاقة الفن بالمجتمع. ليتمحور الحدث البارز حول بحث اجتماعي دقيق، تلخّص في اكتشاف «دفاتر السجن» لأنطونيو غرامشي، المدونة فترة الثلاثينيات. وتتجلى أهمية هذا الناقد الأدبي الملتزم، والمعالج النبيه للثقافة في مختلف تفرعاتها، في فهم نمط الهيمنة المؤسساتية للثقافة الإيطالية المرتبطة بأوضاع البرجوازية والغريبة كليا عن حياة الطبقات الخاضعة وهواجسها. تأتي مساهمة نقدية أخرى جوهرية في تعريف الطابع العقلي والاجتماعي للفن والأدب من «نقد الذائقة» لِغالفانو ديلا فولبي. وحول هاذين الدارسيْن، من خلال موالاة طروحاتهما أو معارضتها، فضلا عن التأثيرات المتأتية من لوكاش وفرويد وغولدمان وويليامز وإسكاربي، انطلقت في إيطاليا أولى خطوات البحث، سواء عبر التحليل المباشر للنصوص أو النظر في النتائج، لتحاول أن تعطي سوسيولوجيا الأدب مسارا نقديا وهوية متناسقة كمبحث جديد. ذروة الآلة في أعقاب ثلاثينيات القرن الماضي، حين غدا موضوع الفن - المجتمع يتخبط في وحل السياسة، أو بالأحرى إلى حدود السنوات الصاخبة التي أعقبت الحرب، والتواجه العنيد بين المعسكرين الشرقي والغربي، مثّلت الحقبة بالنسبة إلى الغرب ذروة الآلة التكنولوجية والاستهلاك. كما كانت الحقبة الأكثر تأثيراً وصخباً لحضارة المكْننة على بنى المجتمع التي ما فتئت مرتبطة بتقليد القيم الذاتية.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©