الخميس 18 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

السيلفي.. وحيداً وسط الجموع

السيلفي.. وحيداً وسط الجموع
24 نوفمبر 2016 13:28
سعيد بنگراد تحدث التحليل النفسي طويلا عن فضاء داخلي يستوعب انفعالات الذات ضمن دوائر محددة في «أنا» و«أنا أعلى» و«هو»، وهي «أنَوات» تتداخل فيما بينها ضمن إيقاع سلوكي عام يتحدد مضمونه استنادا إلى ما تقتضيه إكراهات الأخلاق في الفضاء العمومي، واستنادا إلى ما تحقق من الرغبات وما تسرب منها إلى دهاليز مظلمة ستتحكم لاحقا في جزء كبير من السلوك الإنساني. يتعلق الأمر ببنية نفسية عامة لا تستطيع «الأنا»، الوسيط الإرادي، أن تتوقع دائما بشكل واع كل ممكناتها في الممارسة اليومية. فالعلاقات بين مقتضيات كل دائرة لا تتحقق دائما بشكل يقود إلى بناء فرد يوازي، بشكل سليم، بين الطاقات النفسية الهوجاء داخله وبين ما يوده الرقيب الخارجي ويفرضه. وتلك واجهة من واجهات حضورنا في العالم، إنها واحدة عند جميع الناس، ولكنها تتفاوت وتختلف حسب طبيعة السقف الثقافي الذي يحتضنها. لعب برّاني وضمن هذا الإيقاع السلوكي العام نتحدث اليوم عن انشطار جديد لحق هذه البنية هو ما يجسده «السيلفي»، حيث أصبح «التصوير الذاتي» جزءا من ذاكرة جَسَد يموت ببطء بالمباشر في كل لقطة. فلا غاية من هذا «اللعب» سوى الاحتفاء بالجسد في غطائه الظاهر من خلال استنساخ لا يتوقف أبدا. فمن خلال هذه الممارسة يمكن الحديث اليوم عن «أنا رقمية»، لا معادل لها في الواقع، بل هي نتاج سيلفيات تكتفي بوضع الفرد في مواجهة مع نفسه في ما يشبه «عشق الذات لنفسها»، أو ما تسميه إلزا غودرا «اللذة السيلفية» (1) التي تعبر عن متعة «عفوية» تتم في اللحظة خارج إكراهات النظرة، وخارج كل الدلالات التي تضعها العين في اللقطة. فالثابت في الوجود هو «الأنا» حين تُصور ذاتها لا حين تعيش هذه اللحظة. بل يمكن القول إننا شهود في «هذا العصر البصري»، بتعبير ريجيس دوبريه، على ظهور زاوية جديدة للنظرة لا تستمد جماليتها (دلالاتها) من موقفها من الموضوع الممثَّل، وإنما من قدرتها على الانزياح عن أعراف التمثيل ذاته. فليس هناك عين تأتي إلى الجسد من خارجه، بل هو من يتأمل ذاته في ما يشبه «الاستمناء الذاتي». ذلك أن الصورة في السيلفي تكتفي باستثارة الحضور التلقائي للجسد المصوَّر خارج أي تأطير، أي خارج أي وَسْم دلالي عدا «فرجة» اللعب ذاته. ووفق هذا «التأطير» لن تكون الصورة موجهة إلى أي شيء آخر غير «متعة» التصوير وحدها، فهي لا تمتلك جمالية الفوتوغرافيا أو رمزية الرسم، ولا تَدَّعي القدرة على إسقاط رداء بصري على انفعال أو حالات وجدانية مخصوصة. بعبارة أخرى، يقود هذا الانشطار إلى مداعبة برّانية للذات تتم من خلال تمثيل بصري لا يَعْرِض المصوَّر على الخارج، وإنما يوجهه إلى تلبية ما توده «أنا» لا تستكشف العالم إلا من خلال ممكنات وجودها داخله. فالعين لا «ترى»، إنها تتأمل ذاتها داخل «فرجة» ذاتية لا تَنْبَني على نظرة تُعيد بناء ما تراه، بل تركض باستمرار وراء تمثيل مباشر «لانفعالات» بصرية لا ترتبط بلحظة تؤبد «الجوهر»، بل تتشبث بالعابر في الزمن وفي الجسد المصور على حد سواء. ففيما هو أهم من الجسد وأشد وقعا منه، هناك الصورة، أي الحسي في العين، كما هو الحسي في الحقائق: لا يفتخر الناس باحتفاظهم بأسرار من يحبون أو يكرهون، بل يسارعون إلى الكشف عنها، إنه زمن العراء والعري والفضيحة. يتخلى الناس بسهولة عن حميميتهم كما يتخلصون من غطائهم الخارجي، استنادا إلى ذلك، «لن تكون الحرية الفردية، في زمن السيلفي، هي ألا يقول المرء أي شيء عن نفسه، بل إن يقول كل شيء عن الآخرين: فقليل من الأسرار يمكن أن يصمد في وجه دكتاتورية الشفافية هاته» (2)، إن «الحياة الخاصة شذوذ»(3) داخل النت. تصوير اللحظَوي إن الفرد ليس هو ذاته من خلال حضوره المادي في الوجود، بل هو كذلك من خلال مجموع صوره المودعة في الفضاء الافتراضي. لا يلتقط صاحب السيلفي «الدائم» في الزمان، بل يسعى جاهدا إلى تصوير اللحظة من خلال إسقاط صورة عنه لن تكون داخلها أناه هي ذاتها في اللحظة الموالية. وتلك هي طبيعة الزمن، فمضمونه الثابت هو ما يمكن أن يلحق الكائنات والأشياء: إننا لا نلتفت إلى ما تراكم فيه من مفاهيم دالة على حالات وجدانية: الحنين والندم والأمل، بل نكتفي بتمثيل المظاهر الحسية داخله. لذلك لا قيمة للحظة إلا إذا تسربت إلى التمثيل البصري واستوطنت عينا استبطنت كل الوضعيات والوِضعات خارج معايير الفن. فنحن لا نحيا في تفاصيل اليومي، وإنما نعيش ضمن واجهات تزينها الصور وحدها. وهو ما يعني أن الآخرين لا يبحثون عن الحقيقة فينا، بل «يتمتعون» بنا كما نحن في الصورة. إننا لا ننتزع احتراما من المقيم في الشبكة، بل نستجدي جيماته (اللايكات)، ونتلذذ بإعجاب لا تبعات له خارج لحظات «التواصل» الافتراضي. لذلك لا قيمة لما يتحقق فعليا أمام العين، الأهم من ذلك أن نتأمله في الصورة. فاللحظة لكي تكون لا يجب أن «تُعاش»، بل يجب أن تُمثل بصريا، ذلك أن الحاضر أمام العين وحده قابل للتداول، أما تمثلاتنا عنه في الذاكرة البعيدة والقريبة فلا قيمة لها. فنحن لا نُعجب بأصدقائنا في «العالم الآخر»، بل نحتفي بصورهم، إن «الجيم» (اللايك) لا تعود إلى الفرد الحقيقي، بل إلى صورته. فأبعد الناس عني هو أقربهم مني. وهي صيغة أخرى للقول، إننا لا نكترث كثيرا لما يحيط بنا، بل ننظر إليه كما يمكن أن يتلقاه الآخرون خارج بنيته الأصلية «فعندما يصبح الطيف واقعيا، يتحول الواقع إلى طيف»(4). ومع ذلك، فإن الافتراضي ليس فضاء مضافا، بل هو اقتطاع لزمنية موطنها الفضاء الواقعي. فكلما اتسعت دائرة الزمنية الافتراضية، ضاقت دائرة الأنا الواقعية. والحاصل أن الانفتاح على العالم لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال عزلة قاتلة: سيكون المرء في الشبكة وحيدا وسط الجموع. وتلك هي إحدى وظائف السيلفي، «إن القيام بسيلفيات معناه طريقة للإمساك بذاتية، أي الاحتفاظ بذاتنا، بأنانا» (5)، كما لو أن هناك شيئا ما يهرب منا كل يوم، ولا نستطيع الإمساك به في حقيقة الجسد الذي تغطي البداهة والاستعمال اليومي على وجوده في الزمن الحقيقي. لذلك كلما «ازداد شك المرء في أناه، ازدادت رغبته في التقاط الصور» (6). إن الصورة وحدها يمكن أن تؤبد ما لا يمكن أن يظل أبديا فيه. أنا موجود في السيلفي، لا في ما أعرضه على الناس في الشارع والعمل في حالات السعادة والحزن والفرح والاندفاع والانكماش. إن الحقيقة لا توجد في الواقعي، إن مصدرها هو النظرة في العين. إن «أشد الأهواء عنفا هي تلك التي تتسرب إلى النفس عن طريق العين» (فيليبيان). وهي صيغة أخرى للقول، إننا نعيش في زمن الافتراض بأناتين: أنا واقعية «نفعية» تدبر شؤون اليومي، وأخرى افتراضية «وهمية» تعيش في فضاء تحكمه زمنية لا تعتمد معايير الواقع، ذلك أن الحاضر فيها ليس سوى «ذكرى، داخل الشبكة لا خارجه» (7). إنه «لا يُعاش إلا في شكل وهم للذة دائمة لا يمكن بتاتا أن تشبع»(8)، دون أن يعني ذلك أن هناك تقابلا بين الواقعي والافتراضي، بين الفعلي والوهمي، بل العكس هو الحاصل، إن الواقع ليس سوى بوابة ضيقة، مجرد نفق يجب أن يقود إلى الافتراضي. لذلك، كلما أوغلنا في عوالم الافتراض زاد ابتعادنا عن أنفسنا وعن المقيمين معنا في الواقع. هل معنى هذا أن ممارسة السيلفي «نرجسية مريضة»، أم هي خوف من المجهول أم عبث صبياني وثيق الصلة بحالات الاستهلاك المعمم؟ الثابت في كل هذه الحالات أن صاحب السيلفي موجه إلى أمام لا يتوقف أبدا، إنه يسير نحو حتفه من خلال استنساخ الظاهر فيه، إنه يتشبث يائسا بما لا يمكن أن يستمر. قد يكون ذاك هو «القلق» ذاته، كما نعيشه في اللحظة التي نعي فيها وقْع الزمن علينا، فنحن نسير نحو موت لا راد لميعاده، وقد تكون الصورة وسيلتنا الوحيدة للانتصار عليه. فنحن نعيش ضمن الوهم في الواقع، ونعيش الحقيقة في الشبكة، لذلك قد «تحيل موضة السيلفي بطريقة مذهلة على الظلال المنعكسة على جدران كهف إفلاطون»(9). فنحن لا نرى سوى أخيلة لا تتبين العين حقيقتها إلا في ظلام الشبكة. ................................................ 1-Elsa Godart: je selfie، donc je suis، les métamorphoses du moi à l&rsquoère du virtuel، éd Albin Michel، 2016، p.114 2- نفسه ص87 3-Marc Dugain، Christophe Labbé: L&rsquohomme nu، la dictature invisible du numérique، éd R Laffont Plon، 2016، p.195 4- نفسه ص 35 5- نفسه ص 146 6- نفسه ص 70 7- نفسه ص 35 8- نفسه ص 36 9- L&rsquohomme nu، p.35 ديكتاتورية لا يفتخر الناس باحتفاظهم بأسرار من يحبون أو يكرهون، بل يسارعون إلى الكشف عنها، إنه زمن العراء والعري والفضيحة. يتخلى الناس بسهولة عن حميميتهم كما يتخلصون من غطائهم الخارجي، استنادا إلى ذلك، «لن تكون الحرية الفردية، في زمن السيلفي، هي ألا يقول المرء أي شيء عن نفسه، بل أن يقول كل شيء عن الآخرين: فقليل من الأسرار يمكن أن يصمد في وجه دكتاتورية الشفافية . زاوية جديدة للنظرة نحن شهود في «هذا العصر البصري»، بتعبير ريجيس دوبريه، على ظهور زاوية جديدة للنظرة لا تستمد جماليتها (دلالاتها) من موقفها من الموضوع الممثَّل، وإنما من قدرتها على الانزياح عن أعراف التمثيل ذاته. فليس هناك عين تأتي إلى الجسد من خارجه، بل هو من يتأمل ذاته. ذلك أن الصورة في السيلفي تكتفي باستثارة الحضور التلقائي للجسد المصوَّر خارج أي تأطير، أي خارج أي وَسْم دلالي عدا «فرجة» اللعب ذاته. ووفق هذا «التأطير» لن تكون الصورة موجهة إلى أي شيء آخر غير «متعة» التصوير وحدها، فهي لا تمتلك جمالية الفوتوغرافيا أو رمزية الرسم، ولا تَدَّعي القدرة على إسقاط رداء بصري على انفعال أو حالات وجدانية مخصوصة.  
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©