الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

المسافة بين الصحفي والسياسي

19 يونيو 2012
يكاد يمضي عام على التحقيق العميق الشامل الذي بدأته "لجنة ليفيسون" على اسم القاضي الذي يرأسها، في قضايا التنصت التي تورطت بها جريدة "نيو أوف ذي وورد" اللندنية. عشرات من السياسيين ونجوم الفن والصحفيين ورجال الشرطة والأشخاص العاديين مثلوا أمام اللجنة، بعض منهم ضحايا وبعض آخر لاعبون متهمون، وبعض ثالث شهود. بضع عشرات من الصحفيين والأمنيين اعتقلوا. مبالغ كبيرة دفعت وستدفع على سبيل التعويض. كثيرون فقدوا أعمالهم وتلوثت سمعتهم. الجريدة نفسها اعتذرت واختفت طاوية تاريخها كواحدة من أقدم صحف بريطانيا، واستعيض عنها بنسخة الأحد من جريدة "الصن" زميلتها في الشراكة العملاقة التي يملكها روبرت مردوخ. لا شك أنها الفضيحة الأكبر في شارع الصحافة البريطاني، سواء بالمدى الزمني الذي نشطت خلاله أو بتداخل الإعلام مع الأمن والسياسة و"البزنس"، فضلاً عن الأهم وهو تماهي أدوار كل هذه العناصر واختلاطها في تصنيع السلطة وممارستها. كانت الفضيحة شهدت تفجرات أولى متفرقة أمكن احتواؤها بمواجهات قضائية محددة وتسويات معنوية مالية، خصوصاً في ما يتعلق بـ"النجوم" الذين لا يرغبون، رغم الأضرار التي أصابتهم، في خصومة حاسمة مع الإعلام ولا في تسليط مزيد من الأضواء على خصوصياتهم. لكن بلوغ عمليات التنصت الحياة الخاصة لأشخاص عاديين تعرضوا لاعتداءات أو يشتبه بعلاقتهم باعتداءات، هو ما حتم إنشاء اللجنة الخاصة للتحقيق برئاسة القاضي "بريان ليفيسون". كان هاتف الصبية "ميلي داولر" وجد تحت تنصت "نيوز أوف ذي وورد"، وهي اختفت لفترة قبل أن توجد مقتولة. وحددت للجنة مهمة التدقيق في مسألة التنصت كـ"ثقافة" و"ممارسة" في إطار "أخلاقيات الصحافة" وعلاقتها بالوسط السياسي والشرطة، وكذلك بسلوكيات كل من هذه الأطراف مع بعضها بعضاً. ما يعني أنه كان مفهوماً أن ثمة تسهيلات أمنية توافرت للمتنصتين، وأن "حماية" سياسية غير معلنة وغير معترف بها كانت مضمونة لهذه العملية على مستويات عليا. مع اقتراب التحقيق من نهايته بدأ النقاش يتركز على الاستخلاصات التي يمكن أن تصبح توصيات أو آليات أو ضوابط قانونية. ثمة إقرار بأن هذه الضوابط، مهما كانت، يجب ألا تمس حرية الصحافة وتعدديتها واستقلاليتها، وإنما يجب أن تحفز الصحافة على احترام القيم والأخلاقيات واعتماد المعايير المهنية وعدم تجاوزها. لكن الأمر يتعلق أيضاً بضوابط للسياسيين والأمنيين الذين استسهلوا الإخلال بالمعايير إما لتلميع مواقعهم في السلطة أو، ببساطة، لمصالح مالية بحتة. ولعلهم فعلوا ذلك لأنهم وجدوا أن الخلل بدأ في أعلى قمة الهرم، فبرر سلوكيات الآخرين نزولاً. أي أن تهالك السياسيين وصولاً إلى أهدافه يفتح للصحفي والأمني الأبواب كي يتماديا من دون الاهتمام بالتداعيات. طوال العقدين الماضيين عرفت بريطانيا أربعة رؤساء حكومة، وقد زامل هؤلاء صعود "إمبراطورية ميردوخ" الإعلامية وكانت لهم علاقات متفاوتة معها ومع صاحبها. وها هو تحقيق "لجنة ليفيسون" يفك عقدة الألسنة، ويكشف بعض ما أحجم هؤلاء الساسة عن أقواله، بل لم يتجرأوا على الإشارة إليه. اثنان من رؤساء الحكومة، المحافظ جوران ميجور و"العمالي" جوردون براون، لم يكونا على علاقة جيدة مع "الإمبراطورية" ولم يحظيا بتأييدها فانتهيا إلى فقد منصبيهما، أما الآخران "العمالي" توني بلير و"المحافظ" ديفيد كاميرون، فيدينان بصعودهما وفوزهما لدعم تلك "المؤسسة" التي راح خصومها يصورونها كجزء لا يتجزأ من تركيبة السلطة. لم يتهم بلير، ولا كاميرون بتورط محدد في قضية التنصت، بل اهتم التحقيق بجلاء مدى تأثير علاقتهما بميردوخ في بعض القرارات أو التعيينات التي فضلوا فيها أشخاصاً للعمل معهما بسبب تزكية من "المؤسسة". استهلك استجواب كاميرون يوماً كاملاً رد فيه على تساؤلات مفصلة طرحها القاضي الذي كان رئيس الوزراء نفسه قد عيّنه. كان هناك الكثير من الأسئلة المحرجة، خصوصاً في ما يتعلق بوزير الثقافة الذي تحمس لتسهيل امتلاك ميردوخ معظم مشروع "بي. إسكاي. بي" الفضائي العملاق، وأيضاً العلاقة العائلية مع إحدى أكثر الشخصيات المتورطة في التغطية على التنصت وإدارته. عندما سئل عن "الضوابط"، بدا كاميرون كمن استخلص الدرس: "لم تعد الضوابط الذاتية كافية، وما هو موجود منها مثل هيئة حماية القيم ليس فاعلاً، لا بد من أن تكون مستقلة وذات أسنان، أي أن تتمكن من المحاسبة والتمتع بثقة الرأي العام". وماذا عن علاقة السياسي بالصحافة؟ لابد من الشفافية، كما قال، وأيضاً لا بد من بعض المسافة بين الطرفين. عبدالوهاب بدرخان كاتب ومحلل سياسي - لندن
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©