الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

نسل جديد من الإشارات

نسل جديد من الإشارات
11 أكتوبر 2017 19:06
جيل دولوز تقديم واختيار - إبراهيم الملا دخل المفكر الفرنسي الراحل جيل دولوز (1925- 1995) إلى عالم السينما من بوابة الفكر، وفي كتابيه «الصورة الحركة» و«الصورة الزمن» يقدم تجربة خاصة، هي تجربة فيلسوف يتحول إلى مشاهد سينمائي أولا، ثم ينتقل إلى ناقد ومفكر سينمائي ثانياً، وهو في كل حالاته يعتمد أسلوب البحث العلمي والتحليل، أو التشريح ليقدم لنا أفكارا جديدة وعميقة ودقيقة، خاصة فيما يتعلق بأدبيات السينما العالمية. هنا شذريات من كتابه (الصورة الزمن) التي يقرأ فيها تحولات السينما المعاصرة بمختلف تياراتها ومناهجها وفق رؤية مشحونة بالخيال والتنوع والاستقصاء، وبما يتجاوز أحيانا الصورة المرئية، وصولاً إلى الصورة البديلة التي لا يتوقف الطموح في تجاوزها نحو صور بديلة أخرى، وهكذا بالتوالي، وكأننا أمام فيلم أبدي ينطلق في سيرورته منذ ولادة التاريخ البشري، وحتى نهاياته غير المتوقعة ! الواقعة التاريخية الأكيدة، هي أن السينما تشكلت مثلما هي عليه الآن، عبر تحولها إلى سينما حكائية، عبر تقديمها حكاية، ونبذها لاتجاهاتها الأخرى الممكنة، وأما المقاربة التي تبعت، فمؤداها سلسلة الصور، وحتى كل صورة، أو لقطة واحدة يجري مماثلتها بعبارات مفيدة، وبالأحرى بمنطوقات شفوية، وعليه فسيجري اعتبار اللقطة على أنها المنطوق الحكائي الأصغر. *** عند التطرق للسينما بعد تجاوزها مرحلة البدايات الأولى، فإن الحديث سيجري عن نسل جديد من الإشارات، كالإشارة الدالّة على موقف بصري، والإشارة الدالّة على موقف صوتي، وما من شك أن هذه الإشارات ستحيل إلى صور غاية في الاختلاف، فهي تشير حيناً إلى اليوميات المبتذلة، وحيناً إلى حالات استثنائية أو حدّية، وحيناً ثالثاً وعلى الأخصّ إلى صور ذاتية، ذكريات طفولة، أحلام أو استيهامات، تصورات تخيلية أو هلوسية صوتية أو بصرية، بحيث أن الشخصية لا تتصرف من دون أن ترى نفسها وهي تتصرف، شأنها شأن متفرج راض عن الدور الذي يؤديه هو ذاته. *** ليس من الممكن أن نعرّف الموجه الجديدة في السينما الفرنسية، إذا لم نحاول أن نرى أولاً كيف مهّدت لحسابها طريق الواقعية الجديدة في السينما الإيطالية، فالموجة الجديدة في الواقع، وحسب أولى المقاربات استعادت النهج السابق، بدءا من انحلال الروابط الحسّية المحركة (عبر أفلام النزهة، والتسكّع، والرحلة القصيرة «بالاد»، والأحداث التي لا تخص من تقع لهم، ... الخ) إلى تصاعد المواقف البصرية والصوتية، فها هنا أيضاً تحلّ سينما الرائي محل سينما الفعل (الحدث). *** ثمة سؤال يفرض نفسه: ما السبب في أن انهيار المواقف (الحسيّة المحرّكة) التقليدية مثلما كانت في الواقعية القديمة للسينما، أو داخل (الصورة الفعل)، لم يفسح المجال إلا لبروز مواقف بصرية وصوتية صرف، أي دلالات بصرية، ودلالات صوتية مكتفية بذاتها؟ والإجابة يمكن اختصارها في الطاقة الوصفية للألوان والأصوات التي تمتلكها الواقعية الجديدة، باعتبارها طاقة تستبدل، تمحو، وتعيد خلق الموضوع نفسه، ولكن بالإضافة إلى ذلك فإن اللمس هو الذي يمكنه من تشكيل صور حواسّية صرفة، شريطة أن تقلع اليد عن وظائفها الإمساكية والمحركة، وتكتفي بلمس محض. *** إن موقفاً بصرياً وصوتياً صرفاً لا يتمدد في فعل، وليس متسبباً أيضاً عن فعل، إنه يعرض علينا، أو يفترض أنه يعرض علينا شيئاً ما يستحيل تحمّله، ولا يطاق، وليس المقصود بذلك خشونة فظة كعدوان غاشم، أو عنف متفاقم، يمكن استخلاصه دوما من الروابط (الحسّية المحركة) في (الصورة الفعل) وليس المقصود به أيضا مشاهد الرعب، على الرغم من وجود الجثث أحيانا، أو نزف الدم، إنه يعني شيئا ما بالغ القوة، ولكنه أحيانا بالغ الجمال أيضا، يتجاوز طاقاتنا (الحسية المحركة). *** تكمن الصعوبة في معرفة ما الذي يميز صورة بصرية وصوتية بحيث لا تكون هي ذاتها كليشيه، أو في أحسن الأحوال صورة فوتوغرافية. نحن لا نفكر فقط بالطريقة التي تقدم تلك الصور كليشيها، منذ أن يعاد التقاطها من قبل مصورين، بغية استخدامها كنماذج، ولكننا نفكر في المبدعين أنفسهم، أفلا يخطر لهم أحيانا بأن على الصورة الجديدة أن تنافس الكليشيه في ميدانه الخاص، كأن تقوم بالمزايدة على الكارت بوستال (البطاقة البريدية التي تحمل صورة على أحد وجهيها) أن تضيف عليه، أن تحاكيه بسخرية للتخلص منه. *** لقد ابتكر المبدعون كادرات الحاحية لجوجة: فضاءات خاوية أو منفصلة، وحتى طبيعات ميتة، وأوقفوا الحركة بطريقة ما، وأعادوا اكتشاف قوة اللقطة الثابتة، ولكن ألم يقوموا هكذا بإنعاش الكليشيه من حيث يريدون محاربته، ليس كافيا بالتأكيد من أجل تحقيق النصر، محاكاة الكليشيه محاكاة ساخرة، ولا حتى إحداث خروق فيها، أو إفراغها، وليس كافيا تشويش الروابط (الحسية المحركة)، ينبغي إرفاق الصورة (البصرية الصوتية) بقوى فائقة، ليس من قبيل القوى الذهنية، ولا حتى الاجتماعية، وإنما قوى حدسية، استبصارية، عميقة وحيوية. *** إن الصورة البصرية والصوتية الصرف، واللقطة الثابتة، والمونتاج، تحدد وتشتمل على ما هو أبعد من (الصورة الحركة)، ولكنها لا تحدد هذا الما هو أبعد، لدى الشخصيات بالتحديد، ولا حتى داخل الكاميرا، إنها تعمل على ألا تكون الحركة ملحوظة داخل صورة (حسيّة محركة) وإنما محجوزة ومفكرا بها داخل نمط لصورة أخرى، لم تختف (الصورة الحركة)، ولكنها لم تعد موجودة إلا بصفتها البعد الأول لصورة لا تتوقف عن زيادة أبعادها، ونحن لا نتحدث هنا أبعاد الفضاء المكاني، ما دام بوسع الصورة أن تكون مسطحة، من دون عمق، وأن تأخذ من خلال ذلك، بالأحرى أبعادا، أو قوى تتجاوز الفضاء المكاني. *** إن البداهة السائدة عن الصورة السينمائية هي أنها صورة في الحاضر، وإذا كان الأمر كذلك، فإن الزمن لا يمكنه أن يكون متمثلاً إلا بنحو غير مباشر، انطلاقاً من الصورة المتحركة والحاضرة، وعبر وساطة المونتاج، ولكن أليست هذه هي البداهة الأشد زيفا، وبوجهيها الاثنين، على الأقل؟ فمن جهة، ليس ثمة حاضر إلا وهو مسكون بماض ومستقبل، بماض لا يقتصر على حاضر قديم، وبمستقبل لا يتكون من حاضر قادم، فالتعاقب البسيط يتخذ شكل الآنات (جمع آن) الحاضرة، ولكن كل حاضر يتعايش مع ماض ومع مستقبل، ومن دونهما لن يصبح هو ذاته. *** إن ما تهتم به السينما هو الإمساك بالماضي وبالمستقبل اللذين يتعايشان ويوجدان مع الصورة الحاضرة، ولتصوير ما هو قبل، وما هو بعد.. ينبغي، ربما أن ننقل إلى داخل الفيلم ما كان سابقا على الفيلم، وما كان لاحقا على الفيلم، وذلك بالخروج من قيد اللحظات الحاضرة، فالشخصيات مثلاً، كما يقول غودار، ينبغي معرفة ما كانته قبل تموضعها داخل اللوحة أو الكادر، وما بعد هذا التموضع أيضا، «تلك هي السينما، فالحاضر مجرّدا، لا يوجد إطلاقا سوى في الأفلام الرديئة». ---------- هذه الشذريات من كتاب (الصورة الزمن) تأليف جيل دولوز، ترجمة: حسن عودة، منشورات وزارة الثقافة المؤسسة العامة للسينما، سوريا، دمشق، الطبعة الأولى 1999
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©