الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

كامو والهندسة المعمارية وفلسطين

كامو والهندسة المعمارية وفلسطين
22 يونيو 2011 20:23
لستُ على ودٍّ كبير مع ما يكتبه الصحفي الأميركي المعروف توماس فريدمان، فالكاتب ليس فحسب منافح شديد المراس عن “اليمين الأميركي” المتطرف، والذي يحلم بمزيد من استقرار سيطرة “الامبراطورية” الأميركية على العالم، ودوماً بنزعة كونيالية واضحة، وإنما ولربما من منطلق هذه الميول تحديداً، كان فريدمان متضامناً موهوباً مع كل متطلبات اللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة. ويكاد يكون فريدمان من الصحفيين المختصين في شؤون ما يسمى بالشرق الأوسط، وبلاد العرب والمسلمين، ومنذ سنوات، وهو يلقى ترحيباً خاصاً في هذه المناطق، فعلاقاته قوية مع الفاعلين في هذه البلدان، ويلقى ترحيباً حاراً عند مشاركته في المؤتمرات، كما ويترجم مقاله الأسبوعي، وينشر في كذا صحيفة محلية خليجية. آخر مقالاته المترجمة كانت بعنوان: “الثورات العربية تفجّرت من أجل استرداد الكرامة” (الإمارات اليوم، 19 مايو 2011)، ويفتتح فريدمان مقالته بالتالي: “مشاهدتي للانتفاضات العربية رسمت على وجهي ابتسامة وتركت في وجهي غصة، أما مبعث الابتسامة فهو مشاهدتي هذا الكم الهائل من البشر، وهو ينزع عن نفسه رداء الخوف ليستعيد كرامته، أما الغصة فمبعثها هو الخوف المتزايد من أن الربيع العربي قد يكون أمراً حتمياً متأخراً، فإذا لم تكن عزيزي القارئ تحس بنبض هاتين الحقيقتين فستكون خارج الصورة”. لحظة تاريخية استثنائية ودّ منطوٍ على تهديد، ورغم ذلك يجادل فريدمان، كما يكتب، “بأن هذه الانتفاضة ليست سياسية في جذورها، بل هي وجودية في كنهها، فهي تنتمي للكاتب الكبير البير كامو أكثر من انتمائها للثائر تشي جيفارا، إذ إن جميع هذه الأنظمة العربية من ناحية أو أخرى انتزعت من شعوبها كرامتها الشخصية، فقد حرمتهم حريتهم ولم تترك لهم الفرصة أبداً للنمو ليبلغوا مبلغ الرجال (الرجال! تخيلوا فريدمان يتحدث عن الرجال!!). وبما أن العالم قد أصبح قريباً من بعضه، أصبح جلياً لكل مواطن عربي أنه متخلف عن بقية العالم، ليس فقط عن العالم الغربي، وإنما أيضاً عن بلدان أخرى، مثل الصين والهند وأجزاء من أفريقيا جنوب الصحراء، وعليه يحس المواطن العربي بأن حكامه الأتوقراطيين يعاملونه كالطفل وبقية الناس في العالم يعتبرونه متخلفاً، كل ذلك ولّد لديه نوعاً من الإذلال والخزي”، ثم يمضي فريدمان بعد ذلك بالقول “إن الروائي وليس العالم السياسي هو الذي يستطيع التعامل مع هذا المزاج، مستشهداً بقراءة أحد الأكاديميين الغربيين لرواية نجيب محفوظ: أمام العرش”. بل إن كاتباً آخر قال إنه لفهم هذه الانتفاضات العربية، أو الثورات ينبغي “الانجذاب إلى بعض تقاليد فن الهندسة المعمارية” (سلام الربضي، التحولات العربية، الاتحاد 19 مايو 2011)، وفي تحليلهم لما يحدث قد يستدعي أي أحد أي شيء، فهي بالفعل لحظة محيرة، وستبقى كذلك إلى أبد طويل، أو إلى الأبد. ولا أعرف الهندسة المعمارية جيداً لأتعرف إلى علاقتها بهذه الثورات، ولكن من الممكن المزاودة على فريدمان، والاعتقاد بأنها أكثر من وجودية، إنها أقرب للظواهر الطبيعية كالأعاصير والزلازل والبراكين، إنها لحظة من اللحظات الاستثنائية في التاريخ، وعام 2011 من الأعوام التي كان ينبغي أن يتذكره جيداً المنجم نوسترا داموس. ولكن... لا ما يظنه الربضي بعلاقة “الثورات العربية” بـ”الهندسة المعمارية”، ولا اعتقاد فريدمان بأن هذه “الثورات” تعود لألبير كامو أكثر من جيفارا، ولا أعتقادي بأنها أقرب للعواصف المدارية من الحركات السياسية، قادرة على إقناع البعض، على ما يبدو، بأنها “ثقافية”، وأنه بالإمكان الكتابة عنها في “الملاحق الثقافية”. وفي الحقيقة كان الوضع مع الحريات سيكون أفضل، لو استمر عام 2011 في حصد مزيد من الرؤوس أكثر من السلطتين التونسية والمصرية، وتعرقل التغيير ودمويته في كل من ليبيا واليمن، لم يتح الفرصة فقط لبقية السلطات كي تأخذ احتياطاتها حتى لا تسقط في المصير نفسه، وإنما ساعد تلك السلطات أيضاً على التشكيك في حقيقة مطالب هذا التغيير وبساطتها الصعبة، ووجوديتها حسب فريدمان، وحركتها الطبيعية حسب كاتب هذا المقال. ولعل وقوف سوريا على خط التغيير، جعل المشهد أكثر اضطراباً وغموضاً، وبطء الولاء هذا الذي تشهده هذه الشهور، لا يعني من وجهة نظري الطبيعية، بأنه لن يأتي يوم، وتكون تلك السلطات الجاهزة للقطف، قد سقطت وتحولت إلى رماد من التاريخ. الشعب السوري، سيؤكد عظمته من جديد، وسيسترد كرامته، تفاؤلي ينبؤني بذلك، وما تعرض له من مهانة في العقود الماضية ينبؤني بذلك، وما يعيشه من سوء أحوال معيشية يؤكد ذلك، وما يمتلكه من طاقات، وما يحدث الآن، وسيحدث غداً، يؤكد ذلك. الشمّاعة الفلسطينية وعند الموضوع السوري، كان لابد ويُطرح الموضوع الفلسطيني، فلقد ادعت كثير من الأنظمة العربية بأن الحال الذي تعيشه شعوبهم، لا تكمن أسبابه لا في فسادهم ولا في سجونهم، ولا في تدني إحساسهم الوطني، وإنما لمقاومتهم المستمرة لذلك “الكيان”، أي إسرائيل، والذي مرح لعقود لأنه أُعطي، حقاً، أكثر من حجمه. وبقدر ما عملت هذه الأنظمة العربية على الفتك بشعوبها باسم تحرير فلسطين، بقدر ما عملت كذلك على إدخال ما يسمى بـ “الثورة الفلسطينية” في عبها وعبابها، وبدلاً من أن تكون الحركات الفلسطينية حركات ثورية فعلاً، سرعان ما تحولت إلى منظمات تجمع بين السلطة والمال، فالسجون التي فتحتها “فتح” في فلسطين عموماً وفي الضفة الغربية على الأخص لا تعد ولا تحصى، وكذلك فعلت حماس، بل إن لكل جبهة فلسطينية سجونها الخاصة في هذا المكان أو ذاك، هذا ناهيك طبعاً عن بقية الفساد، وفي مقدمتهم الفساد الاقتصادي. أما على مستوى “الحس الثوري” فلقد مرغت به الحركات الفلسطينية الأرض، إذ لا يوجد بلد، على الأقل عربي، لم تسهم هذه الحركة الفلسطينية أو تلك في تسليم رموزه “الثورية”، إلى أنظمة بلدانهم كي يواجهوا هناك المجهول. و”فلسطين” كانت تقية للأنظمة العربية والاستبدادية كي تعيث فساداً في بلدانها، كما كانت “فلسطين” كذلك لما يسمى بالحركات الثورية الفلسطينية من فتح وحتى حماس، كي ترتفع وتترفع عن النقد، إذ لم أر كتاباً نقدياً حقيقياً واحداً في حياتي يتناول منظمة “فتح” ودورها في النكبة” الفلسطينية المستمرة. وسواء كانوا من تلك المنظمات أو خارجها، فإن عدداً من الفلسطينيين قدموا حقيقة صورة سيئة عن الفلسطيني “الثائر”، إذ تجد وفي عدد كبير من البلدان العربية فلسطينيين يتبرعون، أو على الأقل يكونون ملوكاً أكثر عن الملك، في حجر حرية الحياة والتعبير في تلك البلدان، وكل واحد منا لو تأمل، سيحضر في ذهنه قائمة من هذا النوع. وفي يوم “العودة” الأخير، كان الأغلب من المحللين مجمعين بأن ما حدث، إن لم يكن من ترتيب النظام السوري، فإنه على الأقل كان لتخفيف الضغط عنه في الداخل. لهذا، وبرأيي، فإن على الشباب الفلسطيني الجديد، شباب الفيسبوك الالتحام، والتعاهد على الاستقلال عن أي بلاد عربية، والذهاب إلى النقاط الحرجة في الداخل الفلسطيني أو خارجه، مستهدين بالثورات العربية: التونسية، والمصرية واليمنية، سلميون حتى بلا حجارة، ومطالبين بإسقاط الحركات الفلسطينية التقليدية، وبما ورثته تلك الحركات من سلوكيات وأنماط تعامل، وتمريغ لما يسمى بـ “الثورة” بالأرض، ومحاصرين آخر ما تبقى واضحاً من الأنظمة الكونيالية، أو مسقطين آخر ما تبقى من نتائجها القذرة: وهي دولة إسرائيل، أو ما تسمى كذلك. وأنا شبه متأكد من أن مثل هؤلاء الفلسطينيون الشبان والجدد موجودون، ويعملون الآن على صياغة لمستقبلهم، خاصة وأن الثورتين “المنتصرتين”: التونسية والمصرية، لم تخفيا أبداً مشاعرهما “الطبيعية” تجاه فلسطين، وكذلك سيحدث مع ليبيا واليمن متى ما سقط كلا النظامين القائمين الآن في هذين البلدين بمزبلة الظلام. ولعل عودة الأمور إلى نصابها، سيكون هو الدعم الرئيسي لاختلال موازين ما كان سائداً من اختلال، ولإعادة اكتشاف مفهوم الاحتلال كشيء مضاد تماماً لما كان محرجاً دوماً: ديمقراطية “إسرائيلية” محاطة بدكتاتوريات عربية. a.thani@live.com
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©