الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

نهاية لم تخطر ببالي

نهاية لم تخطر ببالي
23 يونيو 2011 19:48
لو أنني جلست أحلم في النوم واليقظة، أو أتمنى بكل شطحات الخيال واللامعقول وحتى المستحيل، ما خطر على بالي ما أنا فيه الآن، إذ لا يمكن أن يرد على فكر أو عقل عاقل حتى لو كان مفرطاً في التفاؤل والأمل، فعندما انتهيت من دراستي الجامعية التحقت بوظيفة مرموقة ترقيت فيها بسرعة البرق ومعها يتضاعف راتبي وينمو ويزداد، وأخيراً وصلت إلى النهاية الطبيعية وهي التقاعد وهذا هو الأمر الطبيعي، حصلت على مكافأة نهاية الخدمة، كان مبلغاً يشكل وحده ثروة كبرى بجانب ما كونته خلال عملي في السنوات الطويلة التي قضيتها بكل إخلاص وجهد. انتقلت في حياتي إلى طور جديد وصدقت فعلا ما يقال إن الحياة تبدأ بعد الستين، لا أحب بطبيعتي أن أجلس بلا عمل تحت أي ظرف من الظروف، فما بالك وأنا بين يدي أموال طائلة استطيع أن أقول إنها لا حصر لها، فقررت أن أخوض مجال الاستثمار بما لدي من خبرة واتجهت إلى التجارة، وخلال عام واحد كنت واحداً من الذين يشار اليهم بالبنان في هذه المجالات وأموالي وأرباحي تحتاج إلى فريق من المحاسبين المتخصصين لحصرها. مكانتي في العمل الرسمي الوظيفي كان فيها بعض الشبه بمكانتي في مجال التجارة إذ مازال تحت يدي العشرات من العاملين، فقبل أن تتوقف سيارتي يهرول بضعة نفر لفتح باب السيارة أو لحمل حقيبة أوراقي أو الوقوف عند المداخل وأمام باب مكتبي وغير ذلك من المظاهر التي لم أسع إليها، وفي نفس الوقت لا أحبها ولا أريدها لكن هذه الأوضاع تسير وتتم بسبب طبيعة العمل، ومثلما يحدث كلما توجهت لزيارة أي مكان آخر، لذا لم استطع إلغاء ذلك كله أثناء العمل الرسمي، بينما في شركتي قللت منه كثيرا، إلا انه عاد لأن من حولي يرون أنني استحق هذا التكريم لشخصي وليس فقط من أجل أموالي أو لأنني صاحب العمل، فيسعدني التفافهم حولي من قبيل الحب والتقدير لا من قبيل النفاق، وكنت راضياً عن ذلك لأنني أعاملهم بالمثل، باعتبارهم زملاء وشركاء لا أجراء ولا استنكف أن استشير أيا منهم واستنير بأفكارهم وآرائهم. أسرتي بسيطة تعيش في رغد بلا إسراف وخالية من المشاكل إلا من المعتاد في معظم البيوت، فزوجتي تصلح لأن تكون وزيرا للاقتصاد والمالية وخبيرة في علم النفس في ذات الوقت، تعرف كيف تدير شؤون حياتنا منذ أن تزوجتها قبل أربعين سنة وأنا في بداية حياتي بدخل محدود، ونجحت بدرجة ممتاز في الإدارة رغم أنها متوسطة التعليم، وتحملت عني الكثير في تربية ابننا وابنتنا، وتحقق لأسرتنا كل ما تريده، ونصل أرحامنا قريبها وبعيدها. بداية حياتي لم تكن كذلك فلم أكن مثل هؤلا الذين ولدوا وفي افواههم ملاعق من ذهب، انما إنسان بلا طفولة، تفتحت عيناي على الفقر المدقع والشظف في أسرة لا تملك من حطام الدنيا أقل القليل، سبعة أبناء وبنات أعمارهم من سنة إلى عشر سنوات كانوا متلاحقين متقاربين الأعمار والعامل المشترك الأكبر بينهم ملابسهم الممزقة ولا فرق فيها بين الشتاء والصيف. فجأة وبلا مقدمات اختفى الأب من دون أن يعرف أحد منا اين ذهب، وهل مات أم مازال على قيد الحياة؟ وليس في يد أحدنا حيلة ولا وسيلة للبحث عنه غير التسليم بالأمر الواقع، لكن بعد عدة أشهر علمنا أنه لا يستحق الحزن على فراقه، فلم يكن تغيبه اختفاء لأي سبب وإنما كان هروباً من المسؤولية التي كان يتحملها، بل أنه زاد الطين بلة وتزوج امرأة أخرى ليست أحسن حالا منا وأنه يعمل حمالا في الأسواق، وانقطعت الصلة بيننا وبينه لا يعرفنا ولا نعرفه، والأم كسيرة الجناح لا حول لها ولا قوة، تعمل خادمة لتوفر لنا الخبز الجاف. لم يكن أمامي أنا وإخوتي إلا أن أخرج إلى العمل مبكراً وعمري لم يتجاوز السادسة، التجربة الأولى كانت في ورشة لإصلاح السيارات أناول «الأسطى» الأدوات والمعدات وابتاع للعمال ما يحتاجون إليه من مشروبات ومأكولات، وتحملت قسوة التجربة وظروف العمل وسوء المعاملة فكل شيء يطلبونه لا يكون بمجرد الأمر والكلام باللسان وإنما بالضرب والإهانة رغم الأجر الزهيد، ولم أكن مع نحافتي قادرا على الاستمرار، وتنقلت بين عدة أماكن ولم تكن أحسن حالا من سابقتها. أما التجربة التي كانت ناجحة وميسرة واستطيع أن أسميها تجربة استثمارية، فهي عمل حر بلا رأس مال، فقد عملت ماسح أحذية، نعم كان ذلك أسهل بكثير من كل الأعمال التي مارستها من قبل فهي مهنة سهلة وحرة، كل ما أفعله أنني أتجول بين رواد المقاهي، والأهم أنها كانت مهنة مربحة لا تخلو من عطف الزبائن فيدفعون اكثر من تلقاء أنفسهم، لكن أصحاب المقاهي كانوا لا يتركونني أعمل إلا إذا قمت بدفع «الضريبة» وهي أن أنظف المقهى مرة او مرتين في اليوم، وكأنهم يستكثرون علي الرزق، إلا أنني ذات مرة وأنا أسير في الشارع استوقفني احد المارة لتنظيف حذائه الذي تأثر بسبب الأمطار الغزيرة، وبعدها وردت على رأسي فكرة العمل الحر بعيدا عن المقاهي وتحكم أصحابها، وكان لي مقر ثابت على الرصيف، وكان هذا العمل بفضل الله هو مفتاح الخير على أسرتي وحياتي كلها. رغم ظروفنا أصرت أمي على التحاقي واخوتي بالمدرسة، لكن البنات لم يكملن تعليمهن وتزوجن فيما بعد والذكور الأربعة واصلوا العمل والدراسة وهي تتابعنا يوميا بحيث لا يطغى ايهما على الآخر، وكانت دائما تزرع فينا الأمل والطموح وتفجر طاقاتنا المحدودة وتدفعنا للاهتمام بالدراسة، وعلى حد وصفها أنها ليس بين يديها شيء تتركه وتورثه لنا غير العلم والشهادة العالية وهي رأس المال الحقيقي الذي لا يتأثر بالتقلبات، وكان الفقر والمعاناة أكبر دافع لنا في استذكار دروسنا والتفوق، وقد يولد النجاح من رحم الحرمان، فكم من المدللين فشلوا في دراستهم بسبب عدم الاهتمام واللامبالاة لأنهم لم يكونوا بحاجة للمال الذي يأتيهم سهلا ميسراً كثيراً غزيراً وفيراً ويكون مفسدة لهم لأنهم لم ينظروا إلى التعليم إلا من زاوية ضيقة هي زاوية العمل. تفوقت ونجحت وحصلت أيام الدراسة الجامعية على دعم مالي من الجامعة بجانب المسكن في المدينة الجامعية مما خفف كثيراً من الأعباء المالية وأصبح لدي الوقت الكافي للتركيز في المحاضرات والاستذكار، ولم أتوقف عن العمل لأن أسرتي مازالت في حاجة للمال، إلا أنني الآن مضطر مع الوضع الجديد وأنا في الجامعة لتغيير مهنة مسح الأحذية وانتقلت للعمل في مطعم كبير معروف كان أيضا يدر عليَّ دخلا جيدا، ولم يكن إخوتي بعيدين عن هذه الأحداث، بل يعيشون مثلها وكلهم تقلبوا وتنقلوا بين أعمال ومهن مختلفة من المتاح لأمثالنا، وعلى الأقل كانت الفائدة العظمى أننا لم نتشرد ولم ننضم لأولاد الشوارع أو الذين دخلوا عالم الجريمة والانحراف. أحد إخوتي كان محظوظا عندما التحق بالعمل في سوبرماركت ومن فرط أمانته تمسك به صاحب المحل وترك له الإدارة كاملة ثم زوجه ابنته الوحيدة ومنحه شقة فاخرة في البناية التي يمتلكها في منطقة راقية، وكان ذلك أحد الأسباب التي ساعدت في تخفيف الأعباء عن أسرتنا، إذ قبل أن تتحسن أحوالنا تكفل هذا الرجل بكل المواد الاستهلاكية والغذائية الضرورية، وكان يعتبرها نوعاً من المودة أو من أجر أخي حتى لا يجرح مشاعرنا ونحن نقدر له ذلك ونشعر بالامتنان. كل هذا من اوله إلى آخره ونحن نشعر بالرضا ولم نسخط ولم ننظر إلى ما في أيدي الناس، حتى أعمامنا وأخوالنا الذين لم يمد أحدهم يده لمساعدتنا وإن كان منهم مقتدرين وأحوالهم جيدة، وقد يكون سر نجاحنا في حياتنا وعبور هذه العقبات هو القناعة التي كانت شعارنا. تفوقي الدراسي أتاح لي العمل بسرعة فور التخرج في وظيفة عامة مهمة في زمن لم تكن الواسطة والمحسوبية قد سيطرت بعد وإلا لاستمرت حياتي على شاكلتها في التخبط والتنقل بين الأعمال والحرف الحرة والانتقال من فقر إلى فقر أكبر، ولكن كانت مشيئة الله أكبر وحكمته أعلى، وتبدلت حياتي من الحضيض إلى القمة فقط ما يحز في نفسي أن أمي انتقلت إلى الرفيق الأعلى قبل أن تذوق بعض النعم التي ننعم بها، فكلما أكلت أو شربت تذكرتها حتى عند تناول الماء البارد، وأتمنى أن تكون معي فادعو لها بالرحمة والمغفرة وأن يكون ما قدمته وعانته في حياتها كلها في ميزان حسناتها. أما مشكلتي الثانية أو نقطة ضعفي التي لا تزعجني، فهي ضعفي الشديد أمام الأطفال الذين أراهم أمامي في كل مكان وهم على شاكلتي عندما كنت مثلهم، كثيرون في الشوارع والأعمال والمحال والورش، يؤدون أعمالا شاقة لا تناسب أعمارهم وبراءتهم، فلا يعيشون مرحلة الطفولة مضطرين رغم أنوفهم، وبجانب هؤلاء الصغار الذين يتسولون الناس ليل نهار يريقون ماء وجوههم، كل هذا يؤرقني ويقض مضجعي ولست قادرا على حل مشكلاتهم جميعا، وقد الجأ إلى البكاء طويلا، وحتى بعد أن افتتحت ملجأ للأيتام والأطفال المشردين أجدني مازلت مقصراً.
المصدر: القاهرة
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©