الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

السخرية.. «بهارات» السرد الإماراتي

السخرية.. «بهارات» السرد الإماراتي
21 يونيو 2012
أثيرت في الساحة الأدبية والصحفية المحلية مؤخرا إشكالية الكتابة الساخرة في الإمارات، إشكالية تتعلق بمدى حضور هذه الكتابة وتأثيرها في القارئ، الأمر الذي يدفع إلى فتح هذا الملف، والبحث في بعض تفاصيله، بخصوص الكتّاب الذين يثيرون الضجيج الآن، ومن سبقهم من كتّاب السبعينيات تحديدا، فهناك أصوات لكتّاب يحاولون أن يتخذوا من السخرية أسلوبا للتعبير عن همومهم ومشاكلهم، وخصوصا عدد من الكتّاب الشباب الذين برزوا خلال السنوات الأخيرة، فإلى أي حد يجسد هؤلاء شكلا من أشكال الكتابة الساخرة؟ بداية، ما الكتابة الساخرة؟ تشكل الكتابة الساخرة، بوصفها واحدا من أنماط الإبداع، شكلا فريدا في مجال الكتابة، هي الشكل الذي يوازي التراجيديات ويتداخل معها في آن. السخرية تحمل قدرا من الحس التراجيدي ـ المأساوي في الحياة، وفي المقابل ثمة سخرية هائلة في النصوص التراجيدية المعروفة عبر التاريخ. ولكن السخرية ليست مقصورة على الكتابة، بل لقد طاولت الفنون كلها، فكان لدينا فن المسرح والسينما والرسم (الكاريكاتور) وسواها من الفنون، غير أن الكتابة الساخرة، الأدبية والصحفية، تظل هي الأشد حضورا في حياتنا اليومية، تعبيراً عن الهم اليومي للإنسان عموماً. مفهوم ونماذج نتناول السخرية بوصفها تشريحا ونقدا للظواهر الاجتماعية، بأسلوب قد ينطوي على قدر من الفكاهة، في الوقت الذي ينبغي لهذه الفكاهة أن تكون هادفة وتحمل المعاني ذات الدلالات العميقة، وإلا تحولت الكتابة نوعاً من التهريج. ونعود هنا فنجد الشعراء حاضرين بقوة، من ابن برد للحطيئة وغيرهما الكثير. وهل أشد سخرية من أن يسخر شاعر من وجهه حين لا يجد من يهجوه ويسخر منه، فقد قيل إن الحطيئة كان يهجو كل الناس حتى هجا نفسه فقال يوما: أبت شفتاي اليوم إلا تكلُّماً بهَجْوٍ فما أدري لمن أنا قائلُه فرأى وجهه في الماء فقال: أرى اليومَ لي وجهاً فللّه خلقُه فقُبِّح من وَجهٍ وقُبِّح حاملُه لكننا نتوقف عند واحد من أبرز الساخرين في تاريخ الأدب العربي، وهو الجاحظ، لنجد في كتابته قدرة على اختزال المعاني واستخلاص العبر، فتجد في نصه خصوبة المعاني ودقة في التصوير واستقامة المعنى بالإضافة إلى جمال الألفاظ. فالأسلوب سهل ممتنع، وظريف يشد القارئ لمتابعة الحد المتحرك في القصة، وإلى سبك العبارات وعذوبتها في آن واحد. فالنص الساخر هنا لا يعبر عن نكتة للضحك، بقدر ما يعبر عن نقد سلوك حضاري لفئة من المجتمع. وفي الأدب العالمي يمكن الوقوف على نماذج مهمة ممن تركوا بصمات واضحة في الأدب الساخر، لكن لكل أسلوبه ورؤيته وعوالمه الخاصة، إذ يختلف موليير عن أنطون تشيخوف الذي يختلف بدوره عن جورج برنارد شو، يختلف أسلوب السخرية ولكن تلتقي الغايات العميقة التي تحملها: النقد الذي يبلغ حدود العنف للظواهر المَرَضيّة في المجتمع. ففي كتابات تشيخوف مثلا قد لا نجد تلك الفكاهة التي نجدها في كتابات برنارد شو، لكن كلا الكاتبين يعد من الأكثر قدرة على السخرية من العالم الذي يعيش فيه، وإن بصورة مختلفة. وبالنسبة لتشيخوف مثلا ـ وكما يرى الناقد الأردني نزيه أبو نضال ـ فالكتابة الساخرة كانت معركة حياة ووجود، حتى أنه كتب في السنوات الخمس الأولى من نشاطه الإبداعي، كما وثّق أحدهم، نحو (400) أقصوصة ومُلحة وخاطرة نقدية ساخرة، صوّر فيها “شخصيات تنتمي إلى مختلف الشرائح الاجتماعية، وسلّط الضوء على طباع أبطاله”. ورغم التنوع الشديد في الشخصيات إلا أن الموضوع ظل دائما في مواقع الالتزام بالبسطاء والمعوزين والمهانين والمسكونين بالرعب من السيد والسلطان، وضد أولئك المزيفين المدعين القساة الكذبة الذين ماتت أرواحهم الإنسانية. ولكنه وهو يعلن انحيازه إلى جبهة الفقراء والمرعوبين لم يكن يخفف انتقاده الساخر للجوانب السلبية في حياتهم وسلوكياتهم كما لدى الآخرين “فاضحاً صغر النفس، وضيق الأفق، وبلادة الحس والذهن، وساخراً من التفاهة والنفاق والجبن والقسوة، وكل ما يحرف الإنسان عن إنسانيته ويشوّه حياة المجتمع”. المأساوي والأسطوري عربياً وفي عالمنا العربي المعاصر، عرفنا عددا من المبدعين، شعراء وساردين ومسرحيين، الذين تميزوا بأسلوبهم الساخر في تناول ومعالجة هموم شعوبهم وأمتهم، وربما كان من أبرز هؤلاء السوري زكريا تامر الذي عرفته الصحافة الثقافية كما عرفه القراء في الكثير من الكتب، وخصوصا في كتابيه الأكثر شهرة “النمور في اليوم العاشر” و”دمشق الحرائق”، حيث إن له سخريته الخاصة، فقد زاوج في كتاباته، كما يقول الناقد صبري حافظ، بين الحس المأساوي والبعد الأسطوري للحدث الواحد، وقد غمرها في سيل من التهكم الشفيف، وخلص القصة فيها من كل تزيد غير ضروري، ومن كل جزئية لا توحي بعدد كبير من الدلالات، حتى بدا للبعض أن زكريا تامر، وهو يخلص أقاصيصه من الزيادات، قد خلصها أيضا من الطابع القومي في أغلب الأحيان، ومن الطابع القصصي في بعضها. لكن من يتأمل قصصه بقدر من العمق يدرك أنه لا يتحدث فيها عن إنسان مجرد، وإنما عن الإنسان العربي، الدمشقي غالبا، وهو يعاني من الفقر المادي والمعنوي، وتعذبه أشواق مؤرقة إلى عالم نظيف وهادئ ومليء بالمنطق والعدالة. هوية بلا ملامح استعرضت هذه النماذج البارزة من الكتابات الساخرة، المختلفة من حيث الأسلوب والمضمون والرؤية، لأضع بعض الأسس التي يقوم عليها هذا الشكل من الكتابة، وذلك تمهيدا للوصول إلى قراءة في الكتابة الساخرة في الإمارات، دون أن أقصد أي شكل من أشكال المقارنة بين كتابات عربية وعالمية راسخة في هذا المجال، وبين محاولات جادة ما تزال تشق طريقها في هذا الفن الصعب، فالمقارنة ظالمة من الأساس، ولكن قراءة المشهد المحلي تستدعي تلك التجارب. قراءة المشهد الساخر في الإمارات ليست بهذه السهولة، فهناك تنوع لا تستطيع قراءتنا هذه الإلمام به وتغطيته، بدءا من السخرية في الكتابة الأدبية، شعرا وقصة، وصولا إلى المشهد الدرامي، المسرحي أكثر من سواه، وما ينطوي عليه من معالجات ساخرة. لكن هذا التعدد في “النوع” يحيلنا إلى تعدد في مستوى الأداء وعمقه، ما بين كتابة ساخرة تتميز بقدر عالٍ من الثقافة والعمق حد المقاربات الفلسفية، كما نجد في نصوص عدد من الشعراء وكتاب القصة والرواية، وبين سخرية تتناول الشأن العام تناولا سريعا عابرا في مقالات صحفية لا تخلو من أهمية أيضا. غير أن حضور بعض ملامح السخرية في كتابات البعض، لا يجعلها تنتمي كليا إلى هذا “النوع” من الكتابة بالمفهوم الذي أوضحناه أعلاه، بل هي مجرد ملامح عابرة في أنماط من السرد، وتتمظهر على نحو خفي، كما لو أنها «بهارات» الكتابة التي تمنحها النكهه اللاذعة من دون أن تحتل حيزاً واضحاً ومرئياً. آراء متفاوتة في الحديث مع عدد من الكتاب الإماراتيين، كان هناك ما يقارب الإجماع على شبه غياب للكتابة الساخرة المتخصصة، والكاتب المتخصص بالسخرية في الأدب الإماراتي، إذا ما تمت العودة للمفهوم المتعارف عليه للسخرية، إذ باستثناء ما يمكن أن نجده من لقطات ساخرة في هذا النص أو ذاك، يصعب أن تجد نصا ينتمي إلى الأدب الساخر. فالسخرية السوداء حاضرة في نصوص الشعراء عبد العزيز جاسم وعادل خزام والراحل أحمد راشد ثاني وإبراهيم الملا وغيرهم، لكنها ليست نمطا أو هي ليست السخرية بالمفهوم الدارج. وربما تكون مسرحية “الأرض بتتكلم أوردو” التي كتبها الشاعر الإماراتي أحمد راشد ثاني في مستهل حياته الأدبية في أوائل الثمانينيات من أوائل النصوص التي طرحت إشكالية الهوية في المجتمع الإماراتي في ظل زحمة الهويات الأخرى التي تمارس وجودها المعلن تارة، والمسكوت عنه تارة أخرى، الكوميدي حينا، المؤلم حينا آخر، في هذه المنطقة من العالم العربي. وكان واضحا أن الشاعر يعتمد (ويلعب) على عنوان أغنية سيد مكاوي الشهيرة “الأرض بتتكلم عربي”، من دون أن يكون لكسر هذا العنوان وشحنه بدلالات جديدة طابع عنصري، أو استخفاف بلغة أخرى وشعب آخر. الشاعر عادل خزام، يعتبر من الصعب النظر بجدية إلى محاولات الكتابة الساخرة السائدة في الصحافة والمواقع والمدونات المنتشرة بكثرة غير طبيعية، بينما تحدث عن إمكانية التجارب المعمقة في الشعر والنثر، وهذه كما يؤكد خزام تجارب قليلة ولا تنال حقها من الانتشار والقراءة إلا بين النخبة، بوصفها كتابات لا تتوخى الاستسهال، ولا تميل إلى استرضاء أي قارئ، فما يهم أصحاب هذه التجارب هو النقد المعمق بأسلوب أدبي، في الشعر والسرد. ويتناول الحديث ما يمكن اعتباره غيابا للمرأة الكاتبة عن الكتابة الساخرة، والسؤال عما إذا كانت الكاتبة تميل إلى الرصانة والجدية، في مقابل السخرية التي قد تُظهرها “خفيفة” أمام مجتمع يفرض عليها أشكالا من القيود، فتجيب الكاتبة نجيبة الرفاعي بأن المسألة لا تتعلق بالقيود الاجتماعية، بقدر تعلقها بطبيعة اهتمامات المرأة وتوجهاتها ورؤيتها للحياة والواقع، ما يجعلها تتوجه نحو الكتابة الواقعية، لكن هذا لا يمنع ظهور اللمسات الساخرة حين يتطلب الأمر ذلك في الحوارات داخل القصة مثلا. أما الشاعر والناقد أحمد محمد عبيد فيرى أن الكتابة الساخرة في الإمارات ما تزال في بداياتها، وخصوصا أن معظم من يكتبون في هذا المجال هم من كتاب الصحافة، عبر زوايا يومية أو أسبوعية، أو من خلال فضاء التواصل الاجتماعي الذي تتداخل فيه كتابات من مستويات متفاوتة، القليل منها يمكن ان ينضوي تحت مفهوم الكتابة الساخرة بشروطها المعروفة. وبخصوص السبب وراء عدم ظهور كاتب ساخر متخصص بهذا النوع من الكتابة، يقول عبيد إن ذلك قد يعود إلى عدم إيمان الكتّاب بهذا النمط، وميلهم إلى المعالجات الجدية، واعتبارهم السخرية نوعا من الهزل أقرب إلى التهريج، رغم أنها ليست كذلك، فهي كتابة جادة تتسم بخفة الظل في تناول القضايا، وليست كتابة ترفيهية للتسلية. ولكن عبيد يعترف بوجود تلك الأسماء والتجارب مثل أحمد أميري وعبد العزيز حارب وغيرهما. نماذج من الشعر والسرد شعريا، ورغم أن الكثير من الشعر يغوص في الواقع بسخرية عالية وعميقة، إلا أن هذا الشعر يبدو أقل حضورا في المشهد الإعلامي، فهو شعر نخبوي لا يتلقاه سوى نخبة ضيقة، بينما تحضر أشكال من الشعر القريب من الذائقة الشعبية التي تفضل هذا الوضوح في الشعر، ومن نماذجه شعر للشاعر سالم بو جمهور الذي يعد من أشهر الشعراء، ويكتب النمطين النبطي والفصيح، ويميل إلى البساطة في التعبير، لكنه يعبر ببساطته عن رؤية لاذعة في سخريتها من عالم النخبة، فهو يقول في قصيدة “معتوه”: دخل المعتوه لا يدري إلى أين إلى المعرض طبعا دخل المعتوه من باب ومن باب خرج عبر المعرض في عشر ثوان هكذا دون حياء أو حرج. في مجال السرد، تستوقفنا بعض ملامح السخرية في قصص عدد من الكتاب مثل ناصر الظاهري وعبد الحميد أحمد ومحمد المر وسواهم. ففي كتابات المر مثلا، نجد الكثير من أشكال السخرية في معالجة مشكلات الفرد والمجتمع عموما، رصدا لتحولات المجتمع الإماراتي في إبداعه القصصي، والصراع الكبير الذي يعيشه هذا المجتمع في تحوله إلى مجتمع مدني معقد بعد الثورة النفطية. ذلك كله يأتي عبر حوارات شخوص قصصه، حوارات تحمل نكهة السخرية هذه، كما هو الحال في قصة بعنوان “البقرة الضاحكة”، حيث نحن أمام حوارين، الأول بين (ناصر، موظف استعلامات بائس) وسيدة يخاطبها بـ”البقرة الضاحكة” معتقدا أنها زميلته سابقا، فتشتمه بقسوة، وحوار ثان مع زميلته التي يشكو لها فتوبخه: “ـ مسكين نصور.. لكن تستاهل.. دائما تمزح.. وتمزح مع الذي تعرفه والذي لا تعرفه.. تستاهل.. ـ ماذا أفعل؟ إذا لم أمزح سوف أموت، فقر وكآبة أيضا.. لا أستطيع.. إذا لم أمزح سوف أنفجر... سوف أنتحر.. ماهي أخبارك؟ لقد افتقدناك.. منذ أن استقلت، ولا أحد يحضر لنا السندويتشات الجبن والطماطم والخيار وترموس الحليب الساخن مع الهيل والزعفران.. ثلاث سنوات تطعميننا نحن الأيتام مثل الدجاجة التي تطعم فراخها..”. وعلى نحو مختلف من السخرية، نقرأ في سطر واحد من إحدى قصص محمد المر نقدا لاذعا موجها إلى ما اعتبره البعض “تناقضات داخل المؤسسات الوظيفية”، حيث الانتهازية والتسلق، عبّر عنها أحد شخوص هذه القصة وهو رئيس قسم إحدى الوزارات بقوله: “والله مسخرة، ستّ عشرة سنة دراسة، وتغربنا عن أهلنا، وامتحانات وسهر ورسائل للأهل وجامعيين، والنهاية فرّاش يتقاضى راتبا أعلى منّا”. في الصحافة الساخرة تبرز في المشهد الساخر بعض الكتابات الصحفية ذات السمة الساخرة، كتابات ربما تعود بدايتها إلى السبعينيات مع الكاتب المعروف غانم غباش، في مجلته الشهيرة “الأزمنة العربية” التي صدرت بين عامي 1979 و1981، وكتاباته اللاذعة الجريئة في تناول الشؤون العامة للمجتمع، ولو باستخدام اللهجة العامية التي لا يفهمها كلها المواطن، وذلك في زاويته الشهيرة التي سمّاها “البلوطي”. وكانت كتاباته تلقى شعبية كبيرة وسط القرّاء. وقد ولد غانم غباش في دبي عام 1946 وقدر له ولجيله بالذات أن يعيش تقلبات تاريخية مهمة في حياة الإمارات. وكان عقد الثمانينيات، من بداياته حتى عامه الأخير، عام الوداع، الميدان الأكثر رحابة والأكثر عطاءً في حياة غانم. والسخرية عند غانم غباش لم تكن مقصودة لذاتها، بل كانت الوسيلة التي من خلالها يريد أن يوصل فكره ورأيه إلى الشريحة الأوسع من القراء، سواء في القضايا المحلية في مفرداتها الاجتماعية والاقتصادية، أو العربية في جوانبها القومية والسياسية، أو الإنسانية العامة. ويتضح من دراسة كتابات الراحل غانم غباش، أن اللغة الشعبية التي كان يكتب بها (المحكية الإماراتية)، كانت محملة بطاقة هائلة من التصريح والتلميح، خصوصا وأن اللهجة المحلية بمخزونها الذي يسكن الذاكرة الشعبية، هي الأقدر على طرح الفكرة وإيصالها، خصوصا عندما تتكئ على تراث كبير من الأمثال السائرة والبلاغة الكامنة في أقوال العامة. إذن فقد قدم غانم غباش قبل ثلاثة عقود، نموذجا راقيا للكتابة الساخرة، فما الذي نجده في الصحافة الساخرة اليوم؟ سنجد الكثير من المشكلات التي يتطرق لها كتاب المقالات اليومية بروح ساخرة متهكمة، حتى في مجال الرياضة، حيث يسخر الكاتب أحمد أميري مثلا من تعيين لاعب بشهرة مارادونا لتدريب فريق رياضي محلي، ويرى “إنجازاته” ويقول: “أعتقد أنه كان يقف أمام المرآة بعد نهاية كل جولة يبتعد فيها الوصل عن المقدمة، ويتساءل: أنا دييغو أرماندو مارادونا، أفضل لاعب في العالم، الذي لم يكن هناك لاعب أفضل منه من قبل ولا من بعد، وحتى هذه اللحظة لم يجرؤ أحد على القول إن ميسي أو أي بطيخ آخر هو أفضل من مارادونا. هل أعي هذه الحقيقة أم أنني لم أعد مارادونا وإنما مجرد “دبدوب” أرجنتيني يدرّب الفرق الكسيحة؟ لكن الذي يلعب تحت إشراف مارادونا لا يجرؤ على مخاطبته حتى بينه وبين نفسه، ماذا سيقول: وما أدراك أنت باللعب يا مارادونا مثلاً؟ هل جرّبت الجري 90 دقيقة في الملعب؟ هل أحرزت هدفاً مثل الناس في حياتك؟ مارادونا يا عزيزي، أنت تعرف دبي أكثر مني، وهناك جزر جميلة في مشروع جزر العالم، خذ واحدة منها وعش عليها مع من تحب وارسل لوسائل الإعلام العالمية كل يوم خبرا واحدا لا تتغير صيغته: أقول لأحبائي إنني بخير. وتذكّر أن التاريخ سيسجل الآتي: كان مارادونا أفضل لاعب في العالم، وأصبح من أسوأ المدربين، فلم يدرب فريقاً أحرز بطولة في كرة القدم، علماً بأنه في الفترة نفسها التي كان يدرب فيها منتخب الكرة الأرجنتيني، أحرز منتخب السلة الأرجنتيني بطولة كأس العالم للسلة. وحين كان يدرب نادي الوصل، أحرز نادي الوصل في جميع المراحل السنية على بطولة الدوري لتلك المرحلة، إلا بطولة الكبار، لم يحرز النادي بقيادة مارادونا على أي شيء. مجرد مثال وقد يتحقق، فتكون الفضيحة أكبر”. وعلى هذا المنوال يغزل الكاتب خالد السويدي، الذي يحاول في سخريته أن يتوخى النقد الاجتماعي، وما في هذا الخضم الهائل من العلائق الاجتماعية من تداخلات وتجاذبات وافرازات تدعو للتهكم والسخرية. تقترن تلك الرؤية الساخرة عند السويدي بأسلوب يجمع بين الحكائية من جهة واقتفاء الألفاظ الدالة على السخرية وعليه يصبح النص مكتملاً على ثلاث ركائز، وهي ذات العناصر التي تجعل النص الأدبي نصاً ساخراً وأقصد الحكائية والأسلوبية والدلالية إذ لابد من توفر قصة تدور من خلالها أحداث تتناول واقعاً اجتماعياً متفشياً وبالأغلب والأعم مرفوضاً وثانياً الأسلوبية ونقصد به استخدام الجمل والألفاظ والتعابير التهكمية اللاذعة التي تسخر من تلك الجوانب السلبية في المجتمع، وثالثاً الدلالية أي توجيه الخطاب القصصي إلى معان يريد منها الكاتب القصصي بشكل غير مباشر أن يتعرف عليها متلقي النص. وقد بدت هذه المعاني في كتابي خالد السويدي الأول “بطل رغم أنفي”، والثاني الصادر حديثا بعنوان “بطل من ورق” حيث يتناول المألوف والعادي في حياة الناس، ثم يسلّط عليها ضوءا كاشفا ما يجعل منها حدثا مستفزا. ومن نماذج كتابة السويدي هذه المقتطفات من نص يحمل عنوان “عاشق المزايين” ويقول فيه: “شاء القدر أن تغرم بين ميم كرديشان الشهيرة، ولكن بعد علمي بالتاريخ الأسود لعائلتها تراجعت عن تلك الفكرة السخيفة. سامح الله والدتي التي كانت تصر منذ أن كنت طفلاً صغيراً بأن أتزوج من فتاة حسناء كي أنجب لها أحفاداً يتمتعون بالجمال والوسامة، وكلما شرحت لها بأن الجمال نسبي لا تقتنع برأيي، وتصر كل الإصرار على رأيها بأن الرجل الوسيم الذي يتزوج من فتاة حسناء لن ينجب إلا أطفالاً مثل ذويهما، وهي بذلك تخالف كل قوانين علم الوراثة والجينات التي درسناها في المدرسة والجامعة التي تثبت بأن العرق دساس. كانت والدتي لا تكل ولا تمل من هذا الموضوع في مجالس النميمة النسائية، وكلما تحدثت إحداهن عن الزواج لا بد أن تأتي بسيرتي وضرورة أن أتزوج بفتاة حسناء، ومن شدة هذا الإصرار استطاعت غسل دماغي فلم أعد أفكر إلا بالزواج من الجميلات. ولعل عقدة والدتي تلك نابعة من كوننا عائلة معروفة بشح المواهب الجمالية فيما عداي الذي كنت حالة شاذة بين أفراد العائلة، وكانت رغبتها الملحة في تزويجي من فتاة جميلة كي تكون سلالتي استثناء تاما يمهد لمحو كل الأيام السوداء التي عاشتها خلال السنوات الماضية. وبسبب طبيعتي المتمردة وإرضاء لوالدتي في نفس الوقت، كنت أبحث عمن تنافس ذوقي وذوق والدتي في آن واحد، وهذا ما أدى إلى أن أثبت لنفسي بأني فاشل ومغفل مع مرتبة الشرف الأولى فيما يتعلق بعلاقاتي مع الجنس الآخر، إذ كان ينتهي الأمر بي مجنياً عليه ومفعولاً به في آن واحد”. ويستمر الكاتب في تقليب هذه المسألة على أوجهها، ما بين إلحاح الوالدة وتفلّت المعنيات، وتقلبات الغربة إلى أن يقول: “قضيت في الغربة 5 سنوات بالتمام والكمال، لم أرجع فيها نهائياً للدولة، وكانت والدتي تكرر نفس الموال الذي لم يتغير من قبل توجهي للدراسة، وتغريني بأن ما ستختاره لي عند رجوعي للدولة سيعجبني ولا شك، خاصة في ظل تطور الطريقة التي يتزوج بها الشباب، فصارت المسألة حالياً شبيهة بمكاتب التوظيف، وصارت الخطّابات يعشن عصر الحداثة والعولمة، وبكبسة زر تستطيع اختيار المواصفات التي تناسب الراغبين في الزواج، فما عليك إلا أن تختار بأن تقول على سبيل المثال: فتاة عمرها بين 23 إلى 25 سنة، طولها يتراوح ما بين 160 إلى 170 سم، الوجه دائري، الحواجب على شكل نصف دائرة بوشم أو بدون، الشعر بني اللون، طول الشعر ما بين 40 إلى 50 سم، ومن بعدها فجهاز الكمبيوتر كفيل بالبحث عن هذه المواصفات وإرسالها بالبريد الإلكتروني إلى أي مكان. ولكني في الواقع كنت أجهز لوالدتي مفاجأة، فلم أعلن صراحة عن وقت رجوعي للدولة، وبعد إنهائي جميع إجراءات عودتي وصلت للدولة دون إبلاغ والدتي، ودخلت إلى المنزل لأجد والدتي جالسة في الصالة، هي كما عهدتها لم تتغير، ترتدي الجلابية التي ارتفعت إلى مستوى الركب، بينما ترتدي سروالاً مخوراً، وتقوم بخياطة الجلابيات التي تسببت في تسميتي بابن الخياطة أثناء فترة مراهقتي. اندهشت والدتي من حضوري المفاجئ، انطلقت نحوها لأقبلها على رأسها، احتضنتني ودخلت في نوبة بكاء شديدة ثم قالت جملتها الشهيرة: تزوج يا ابني، أريد رؤية أحفادك الحلوين! هنا لم أستطع تمالك نفسي فابتسمت ثم ضحكت بصوت عالٍ، وخرجت من الباب وسط دهشتها، ثم دخلت مرة أخرى برفقة زوجتي كارمن وابني ديفيد وابنتي سوزان. نظرت لي والدتي مستغربة فقالت: - من هؤلاء يا ولدي؟ - زوجتي وأبنائي، أردت أن أجعلها مفاجأة سارة، هؤلاء أحفادك الحلوين الذين كنت تنتظرينهم منذ زمن طويل. عبست والدتي ونظرت لي بنظرات غريبة وقالت: - لا يا ولدي.. ليس بهذه الطريقة، حلاة الثوب رقعته منه وفيه”.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©