الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الشعر في مرجل المترجم

الشعر في مرجل المترجم
21 يونيو 2012
بدأ حبي للشعر منذ المدرسة الابتدائية وبدأت محاولاتي الحقيقية لكتابة الشعر في المدرسة الثانوية، أما في كلمتي هذه فسأتحدث عن علاقتي بترجمة الشعر. فعلى الرغم من أن مجالات دراساتي المنهجية وتخصصي وخبرتي العملية كانت في الهندسة والإدارة والاقتصاد إلا أن حبي للشعر قادني إلى تجربة ترجمة الشعر من العربية إلى الإنكليزية ومن الإنجليزية إلى العربية، وأيضا من لغات أجنبية أخرى إلى العربية من خلال ترجمات إنجليزية جيدة. واقتصرت جهودي في مجال الترجمة على مجال الشعر فقط لإيماني بأن ترجمة الشعر ينبغي أن يقوم بها شاعر إن أمكن، ولذلك لم أقتطع شيئا من وقتي لترجمة غير الشعر. عندما كنت صبيا كنت كثيرا ما أقلب أي كتاب أريد في مكتبة والدي الشاعر د. محمد عبده غانم وكان والدي لا يمنعني بل يشجعني على ذلك، بل وعندما كنا أنا وشقيقي قيس الذي يكبرني بعام وأشهر في مرحلة المدرسة المتوسطة عهد إلينا والدي في العطلة الصيفية بإعادة ترتيب مكتبته وفهرستها بما فيها من كتب عربية وإنجليزية وبعض الكتب الفرنسية وكانت تجربة تركت أثرها الإيجابي في نفسي إلى يومنا هذا. وكان في تلك المكتبة بعض كتب الشعر المترجم مثل ترجمة محمد السباعي لرباعيات الخيام وترجمة أنيس المقدسي لقصيدة الذكرى لألفريد تينسون وقد قرأت صفحات من تلك الكتب في تلك الأيام ولكن لم تثر اهتمامي فقد كنت أراها أقرب إلى النظم. وقد اطلعت أيضا في مكتبة والدي على ترجمات آربري للمعلقات ولمختارات من الشعر العربي المعاصر إلى الإنكليزية من ضمنها قصائد لميخائيل نعيمة وإيليا ابوماضي وخالي علي محمد لقمان وجزءا من قصيدة لوالدي بعنوان “أنين” ترجمه نظما وترجمت أنا النصف الآخر نثرا بعد ذلك بعدة عقود وعندما نشرت ما ترجمته كتبت إحدى قارئات الصحيفة تشكرني وتشكر الصحيفة على “هذا الكنز من المشاعر الرائعة ولا تجد كلمات تعبر بها عن تقديرها للدكتور غانم”. ولا أدري هل كانت تعني د. غانم الأب الشاعر أو د. غانم الابن المترجم. ومع أنني كنت أسمع أن الشعر لا يترجم فقد آمنت بإمكانية ترجمة بعض الشعر ترجمة شعرية جميلة منذ كنت طالبا في المدرسة الثانوية، وذلك عندما قدمت لنا في دروس الأدب الإنجليزي نماذج من ترجمات الشاعر الإنجليزي الفكتوري إدوارد فتزجرالد لرباعيات عمر الخيام، وهي ترجمة فاتنة كانت السبب الرئيسي لانتشار ترجمات الخيام إلى لغات أوروبية عديدة بل إن كثيرا من الترجمات العربية لرباعيات الخيام كانت من خلال ترجمة فتزجرالد. بل وحاولت حتى في تلك المرحلة ترجمة رباعية أو رباعيتين من ترجمات فتزجرلد إلى الشعر العربي المنظوم. ولقد اطلعت بعد ذلك بسنوات على رأي الجاحظ في كتاب الحيوان الذي يقول: “.. وفضيلة الشعر مقصورة على العرب، وعلى من تكلم بلسان العرب، والشعر لا يستطاع أن يترجم ولا يجوز عليه النقل ومتى حوِّل، تقطع نظمه، وبطل وزنه، وذهب حسنه، وسقط موضع التعجب منه، وصار كالكلام المنثور، والكلام المنثور المبتدأ على ذلك أحسن وأوقع من المنثور الذي حوِّل من موزون الشعر..”. والحقيقة أن فضيلة الشعر ليست مقصورة على العرب، فعلى سبيل المثال أبدع هوميروس “الإلياذة” و”الأوديسة” قبل كل الشعر العربي بقرون. كما أن رأي الجاحظ بخصوص ترجمة الشعر فيه شيء من التضييق، فصحيح أن القصيدة الراقية يكاد يكون من المستحيل أن ترقى ترجمتها إلى نفس مستوى النص في لغته الأصلية، ولكن ما لا يدرك جله لا ينبغي في نظري أن يترك كله. مراجعة الأفكار لقد قال أحد المثقفين العرب إن الغربيين يظلون يراجعون أفكارهم ونظرياتهم وهكذا أعادوا النظر في نظريات داروين وفرويد وغيرهما بينما العرب لا يراجعون أفكارهم بشكل كاف. وربما كان رأي الجاحظ في ترجمة الشعر نموذجا للأفكار التي كانت تستحق إعادة النظر فيها منذ عهد بعيد، فربما كان رأيه من الأسباب في التأخر في ترجمة الأشعار الأجنبية إلى العربية قرونا طويلة إلى أن بدأت في عصر النهضة. ولكني أرى أن السبب الذي جعل العرب يهملون ترجمة الشعر في العصر العباسي الأول وزمن بيت الحكمة، الذي اهتموا فيه بترجمة علوم وفكر اليونان والفرس والهنود والسريان بل أيضا ببعض الأعمال الأدبية مثل كليلة ودمنة، ليس إيمانهم بآراء مثل رأي الجاحظ ولكن لأن الشعر ارتبط عند شعوب مثل الإغريق والهنود بالحديث عن الآلهة المتعددة التي يرفضها الإسلام، وربما أيضا لأن الشعر صعب الترجمة، ولأن العرب كانوا معتدين كثيرا بشعرهم ويظنون أنهم مستغنين به عن شعر الشعوب الأخرى. ويمكن تلخيص اهتمامي بترجمة الشعر في الأسباب التالية: أولا: رسالة إنسانية وهي إيماني بأن الشعر يعبر عن روح الأمة بل ربما كان أقصر الطرق لفهم أية أمه ومشاعرها، ولذلك فترجمته تشكل وسيلة هامة للتواصل بين الثقافات خصوصا في زمننا الذي تتردد فيه مقولة صراع الحضارات. ثانيا: رسالة قومية وجمالية وهي رغبتي في نقل بعض القصائد العربية التي فتنتني في صباي أو أعجبتني بعد ذلك إلى غير العرب وهم بشكل عام يجهلون ما لدينا من شعر راق في مختلف العصور، ولكني قصرت النماذج التي أترجمها على العصر الحديث، وظللت أنشرها في زوايا أسبوعية في صحف ومجلات أنجليزية محلية لعدة سنوات، وكانت ردود فعل القراء الأجانب إيجابية مما شجعني على الاستمرار. وانطباعي هو أن الأجانب لا يأبهون بأدبنا بشكل عام، ربما بسبب تخلفنا التكنولوجي حيث يفترضون أن أدبنا متخلف أيضا. ولكن عندما كنت أقدم هذه الترجمات في صحف سيارة كان كثير منهم يقرأها من باب الفضول فإذا بهم يجدون شعرا رفيعا وإذا ببعضهم يتصل بي ويشتري كتبي. وعلى سبيل المثال زارني في مكتبي كهل أمريكي يعمل مديرا عاما لإحدى الشركات التجارية بدبي واشترى كمية من كتاب كنت قد ترجمت فيه قصائد لشعراء عرب معاصرين إلى الإنكليزية، وقال لي: “إنني أتابع زاويتك منذ أشهر ولقد استطاعت كتاباتك أن تغير وجهة نظري بخصوص شعركم فهو أفضل بكثير من شعرنا المعاصر”. قلت له: “هذه مجرد ترجمات نثرية لا تعطى القصائد كل حقها” فأجاب: “هي أفضل من شعرنا المعاصر حتى وهي ترجمات”! وذات يوم زارتني شاعرة باكستانية تعمل في البحرين في كتبي وهي تنشد الأبيات الاولى لترجمتي لإحدى قصائدي في حركة مسرحية حتى قبل أن تلقى علي السلام وأخبرتني أن أول ما تقرؤه في صحيفة يوم الخميس هي زاويتي في ترجمة الشعر حتى قبل الأخبار في الصفحة الأولى. ثالثا: رسالة ثقافية وهي رغبتي في تقديم نماذج من الشعر الأجنبي الرفيع للقارئ العربي. وقد حدث أن سألني أحد أصدقائي من الشعراء العرب الذين لا يعرفون اللغات الأجنبية بكل جدية: “هل للإنكليز شعر؟”، فأجبت: “يكفي يا صديقي أن لديهم شكسبير”. النماذج التي كنت أترجمها من الشعر الأجنبي كانت من عصور مختلفة، ولكن كنت أيضا أطمح من خلال ترجمة نماذج حديثة راقية أن أقنع العرب الذين يكتبون ما أظنه هلوسات من شعر زائف أن الشعر الحديث في الغرب ليس بشكل عام مجرد هلوسات كما يظن بعضهم، أو على الأقل أقنع القارئ العربي الذي يسيء الظن بالشعر الغربي أن في بعضه الكثير من الشعرية والمتعة. وأخيرا: اقتناعي بأن ترجمة الشعر ممكنة في بعض الأحيان وليس كل الأحيان خصوصا إذا كان المترجم شاعرا يتقن اللغتين المنقولة منها والمنقولة إليها ومطلعا على الثقافتين والبيئتين وأيضا المناخ التاريخي للنص المترجم وأن يكون محبا أو متفاعلا مع النص الذي يترجمه. ولذلك فقد حرصت في ترجماتي على اختيار النصوص التي أفهمها وأتفاعل معها فالفهم والتفاعل مهمان جدا وليس مهما كثيرا أن تكون القصيدة معروفة وشاعرها مشهورا. وحرصت أيضا على اختيار النصوص التي تقدم فكرة جديدة أو صورا جديدة أو بناء جديدا يختلف عما تعودنا عليه في شعرنا، أوالتي أخالها ستعجب المتلقي. والحقيقة أن النصوص القابلة لترجمة جميلة هي نسبة صغيرة من القصائد. ولا شك أن أسهل النصوص ترجمة لدى شاعر مترجم هي قصائده هو نفسه وحتى هنا قد يجد صعوبة في ترجمة بعض نصوصه البليغة التي تتمتع بموسيقى الوزن والقافية إذ قد تسقط الترجمة في شيء من النثرية. أشكال ترجمة الشعر في تجربتي الشخصية أقوم بترجمة القصائد العربية الموزونة سواء كانت “بيتية” أو “تفعيلية” إلى الإنجليزية ترجمة نثرية لأنني أظن أن محاولة نظمها ستعاني من التكلف فالإنجليزية ليست لغة الأم بالنسبة لي على الرغم من تعلمي لها منذ الطفولة واستعمالي لها بكثرة منذ عقود. وكذلك في ترجمتي للشعر الإنكليزي الموزون المقفى أترجمه في معظم الأحيان ترجمة نثرية بلغة أحاول أن تكون شاعرية تحافظ على المعاني والصور وترتيبها حسب الأصل قدر الإمكان. وأظن أن من المفيد للشاعر العربي المترجم حين يترجم قصيدة عربية إلى الإنكليزية أن يستعين إذا كان ذلك ممكنا بشاعر متمكن لغته الأصلية هي الإنكليزية لينقح القصيدة أو يضفي عليها الوزن إذا أحب أن يفعل ذلك. ولكن أحيانا عند ترجمة القصائد الإنكليزية الموزونة فقد أترجمها إلى شعر عربي بيتي أو تفعيلي إذا قادني تفاعلي التلقائي مع النص إلى ذلك الشكل. أما في حالة قصائد النثر الإنكليزية أو الأجنبية التي أترجم ترجماتها إلى العربية فأكتفي بترجمة نثرية. وعموما يستحيل نقل الشعر الموزون إلى شعر من نفس الوزن اللهم ربما بين بعض اللغات المتقاربة كتلك التي من أصل لاتيني على سبيل المثال. وسواء كانت الترجمة موزونة أو نثرية لا يستطيع المترجم أن ينقل بعض المحسنات البديعية كالجناس مثلا. وفي بعض كتبي لترجمة الشعر الإنجليزي نشرت الأصل بجانب الترجمة وذلك لكي يستطيع القارئ أو الناقد أو الطالب الذي يدرس علم وفن الترجمة أن يقارن ويستفيد بشكل أكبر. وقد بدأت مشروعي الخاص بالترجمة عام 1989 في زاوية أسبوعية في ملحق لصحيفة “خليج تايمز” التي دعتني لتقديم ترجمات لقصائدي فبدأت بإحدى قصائدي ولكني عدت للصحيفة واقترحت أن أوسع نطاق ما أترجمه ليشمل نماذج من الشعر الإماراتي الفصيح المعاصر فوافقت الصحيفة فنشرت في الأسبوع التالي ترجمة لقصيدة “موت بائع الصحف مديكال” للشاعر حبيب الصايغ التي نالت اهتمام كثير من الهنود وحدثوني عن ذلك. ثم اتفقت مع الصحيفة على أن تشمل ترجماتي نماذج من الشعر العربي في القرن العشرين وقصائدي وقصائد الإماراتيين. ثم انتقلت ترجماتي بعد نحو ثلاثة أعوام إلى ملاحق صحف ومجلات أخرى مثل “جلف نيوز” و”الشندغة” و”آفاق ثقافية” و”يمن أوبزرفر”. كما قمت في نفس الوقت بترجمة نماذج جميلة من الشعر الأجنبي في مجلات مثل “دبي الثقافية” و”الصدى” و”الرافد” وملاحق ثقافية للخليج والبيان والاتحاد، إلخ... وكنت أجمع تلك الترجمات في كتب وقد نشرت منها حتى الآن 21 مجموعة شعرية منها 10 مجموعات مترجمة من العربية إلى الإنجليزية ، كما نشرت 11 مجموعة من الشعر الأجنبي الذي ترجمته إلى العربية. وقد كنت في اختياري للقصائد العربية أركز على نماذج لشعراء معروفين من بلدان عربية مختلفة ثم أجمع قصائد كل بلد عربي في كتاب. أما اختياري للقصائد الإنجليزية للترجمة فعشوائي إلى حد ما يعتمد أساساً على التفاعل مع النص. فخلال قراءة الدواوين الشعرية والكثير من المختارات الشعرية عبر السنين أتوقف من حين إلى آخر أمام قصيدة تعجبني أشعر أنها مناسبة للترجمة فأقوم بترجمتها أو أحتفظ بصورة منها أو أسجل موقعها إلى أن أجد الوقت المناسب لترجمتها. وأنا شخصيا أعتقد أن القصائد التي تصلح للترجمة، أي القصائد التي تحتفظ بكثير من تأثيرها، هي نسبة محدودة من القصائد. ولذلك أجد بعض العذر للجاحظ في رأيه الآنف الذكر. وترجمة القصائد التفعيلية في رأيي أسهل في الغالب من ترجمة الشعر البيتي (العمودي) لصعوبة ترجمة البلاغة التي قد تكون فيه. ولذلك لم يتمكن لا المستشرقون ولا العرب من ترجمة المتنبي مثلا إلى اللغات الأخرى ترجمات تفيه حقه، ولمثل هذا السبب ظل المتنبي شبه مجهول لدى الأجانب. والترجمة النثرية تكون في العادة أقرب إلى النص الأصلي من الترجمة الشعرية التي قد تضحي ببعض الدقة في الالتزام بالأصل ولكنها تكتسب بعض جماليات الشعر مثل موسيقى الوزن. والمهم هو أن يفهم المترجم النص ويستوعبه لكي يقدم ترجمة معقولة. والمترجم كثيرا ما يجابه نصوصا غامضة ومغلقة خصوصا في الشعر الحداثي فإما أن يصرف النظر عن ترجمة مثل ذلك النص أو يغامر بترجمته حسب تفسيره له الذي قد يكون بعيدا عن قصد الشاعر. وفي ترجمة الشعر هناك لغة مجازية والمترجم في الواقع يبدع نصا موازيا وليس مطابقا للأصل، ونسمع أحيانا تهمة لمترجم الشعر بالخيانة والمسألة في نظري ليست خيانة في كثير من الأحوال ولكن محاولة لتقديم نص إبداعي مواز قد ينجح كثيرا أو قليلا. والمهم أن يحاول المترجم أن يبقى قريبا من الأصل قدر الإمكان ولا يتقول على كاتب الأصل. والحقيقة أن المترجم المتمكن المبدع كثيرا ما يستمتع بالترجمة على الرغم من الصعوبات. ولا يخفى على القارئ أنه من الممكن أن تكون هناك ترجمات شعرية كثيرة لنفس القصيدة، مختلفة باختلاف المترجمين وقد تستعمل أوزاناً مختلفة. كما يمكن أن تكون هناك أكثر من ترجمة نثرية. بل إن المترجم نفسه قد يقوم بأكثر من ترجمة شعرية أو نثرية تختلف حسب مزاجه وتفاعله مع النص في وقت قيامه بالترجمة. وعلى سبيل المثال فقد ترجم رباعيات الخيام إلى العربية نحو30 شاعرا وأديبا إما عن الفارسية أو عن ترجمات إنجليزية. ولعل أول من ترجمها إلى العربية الشاعر المهجري فوزي المعلوف ثم ترجمها وديع بستاني عام 1911 وبعده الأديب المصري محمد السباعي وأحمد زكي أبو شادي وأحمد رامي الذي تغنت أم كلثوم ببعض ما ترجمه فنالت تلك الترجمة درجة عالية من الشهرة. ومن أفضل من ترجمها الشاعر العراقي أحمد الصافي النجفي و الأديب العراقي عبدالحق فاضل الذي ترجمها شعرا ونثرا وكذلك ترجمها شعرا ونثرا الشاعر العراقي جميل صدقي الزهاوي. وممن ترجموها أيضا العراقي د. جميل الملائكة والأردني وهبي التل الملقب بعرار والبحريني إبراهيم العريض. وترجمها إلى الشعر العامي باللهجة المصرية توفيق مفرج وإلى النثر أحمد حامد الصراف. وممن ترجم بعض الرباعيات الأديب المصري إبراهيم عبد القادر المازني والشاعر الأديب عباس محمود العقاد. أما آخر ترجمة حسب علمي فهي للشاعر الإماراتي محمد صالح القرق فقد ترجم نحو مائتين من الرباعيات متوخيا الدقة بالرجوع إلى الأصل الفارسي وأيضا الاستفادة من الترجمات الإنجليزية لروزن ولإدوارد فتزجرالد. كما ترجمت أنا شخصيا ثلاثا من تلك الرباعيات عن ترجمة إدوارد فيتزجرالد (1809 ـ 1883) ونشرتها في كتابي “إذا وقصائد أخرى” وهي كما يلي: No. 51 The Moving Finger writes; and, having writ, Moves on: nor all thy Piety nor Wit Shall lure it back to cancel half a Line, Nor all thy Tears wash out a Word of it. الرباعية 51 ثم تمضي إلى سطور أخرى/ أيما كلمة ولو سِلنَ نهرا إن كفَّ الأقدار تكتب سطرا/ ليس تمحو منها الدموع الحرّى No. 14 The Worldly Hope men set their Hearts upon Turns Ashes – or it prospers; and anon, Like Snow upon the Desert’s dusty Face Lightning a little Hour or two – is gone. الرباعية 14 ...تتلاشى.. وربما تتحققْ ساعة/ فوق بلقع.. ثم تُمحقْ وأماني الدنيا التي الناس تعشقْ/ إنها كالثلوج إذ تتألق No. 36 For in the Market-place, one Dusk of Day, I watch’d the Potter thumping his wet Clay: And with its all obliterated Tongue It murmur’d – “Gently, Brother, gently, pray!” الرباعية 36 كي يسويه بعد ذا إبريقا/ أنت طين مثلي فكن بي رفيقا قد رأيت الخزاف يعجن طينا / فكأني بالطين أنّ أنينا وعن محاولاتي هذه كتب الناقد المتخصص في ترجمات الخيام د. يوسف بكار في إحدى المقالات قائلا: “أما الترجمة نفسها فليست حرفية، بل اتصالية معنوية، حافظ المترجم في كل رباعية منها على مفصلها الأصلي وبؤرتها المركزية وفكرتها الواحدة الدقيقة والرسالة التي ترغب في إيصالها، وهذا هدف كل رباعية في هذا الجنس الأدبي عند أهله الأول وما أكثر ما غاب عن عدد غفير من مترجمي الرباعيات العرب والأجانب”. فهنا يعطينا الأستاذ الناقد وجهة نظره في أن الترجمة ـ على الأقل في رباعيات الخيام ـ يجب أن تحافظ على المفصل الأصلي والبؤرة المركزية ويكفي أن تكون اتصالية معنوية وليست حرفية. ولكي يقارن القارئ بين الترجمة النثرية والترجمة الشعرية أقدم هنا ترجمة نثرية قمت بها لقصيدة شكسبير “السوناتة 18” (ولعلها أشهر سوناته في الأدب الإنجليزي في جميع عصوره) تتبعها ترجمة شعرية لنفس القصيدة. وللقارئ أن يحكم بنفسه ويقرر أيهما يفضل. William Shakespeare 1564 – 1616 Sonnet 18 Shall I compare thee to a summer’s day? Thou art more lovely and more temperate: Rough winds do shake the darling buds of May, And summer’s lease hath all too short a date: Sometime too hot the eye of heaven shines, And often is his gold complexion dimm’d, And every fair from fair sometimes declines, By chance or natures changing course untrimm’d: But thy eternal summer shall not fade, Nor lose possession of that fair thou owest, Nor shall death brag thou wandrest in his shade, When in eternal lines to time thou growest, So long as men can breathe or eyes can see So long lives this, and this gives life to thee وليم شكسبير (1564 – 1616) السونتة 18 (ترجمة نثرية) هل أقارنك بيوم صيفي؟ أنت أحلى وأكثر اعتدالاً فالرياح الهوجاء قد تهز براعم أيار الحبيبة وفترة الصيف قصيرة الأيام وأحياناً تشع عين السماء بحرارة أكثر مما ينبغي وأحياناً يكون لونها الذهبي مكفهراً وكل جميل ينحدر أحياناً من قمة جماله إما بفعل الصدفة أو بتغيير الطبيعة لمجراها بدون انضباط ولكن صيفك الأبدي لن يتلاشى أو يفقد امتلاك ذلك الجمال الذي في يديك ولن يستطيع الموت أن يفاخر بأنك تسيرين في ظله إذا أنت تقارعين الزمن في هذه الأسطر الأبدية طالما هناك رجال يتنفسون وعيون ترى طالما تحيا هذه الأسطر وتهبك الحياة. وليم شكسبير (1564 – 1616) السونتة 18 (ترجمة شعرية) أنت أرقى لطافة واعتدالا براعم أيار التي تتلألا وبه الشمس قد تفيض اشتعالا مكفهراً خلف الغيوم الحبالى بفعل الأيام إذ تتوالى أبدي يفيض دوماً جمالا ليس يلقي عليه يوماً ظلالا في سطوري اللآئي ملئن جلالا طالما تشعل السطور الخيالا لست أختاً ليوم صيف جميل فالرياح الهوجاء ترعش أحيانا ومدى الصيف لا يدوم طويلاً والسنى العسجدي حيناً نراه كل حسن يزلّ من قمة الحسن إنما صيفك المنور صيف والردى نفسه بعيد.. بعيد إذ تظلين في الزمان دواما طالما أنفس هنا وعيون... أما بخصوص أهمية البيئة الجغرافية في الشعر فيكفي أن يلاحظ القارئ، على سبيل المثال، كيف أن شكسبير في السونتة 18 فكر بمقارنة فتاته الجميلة بيوم صيفي وذلك لجمال الصيف في بلاده إنجلترا الباردة المناخ حيث يفرح الإنكليز بظهور الشمس التي تجلي عنهم الضباب (ومازلت أتذكر تماما كم كنت أفرح بالأيام المشرقة الدافئة والنادرة في فترة الدراسة الجامعية الأولى في إسكوتلندا). بينما لو شبه شاعر في بلد كالإمارات حبيبته بيوم صيفي لخطر لها أنه يقصد هجاءها. فكرة تخليد الشاعر لحبيبته من خلال شعره التي جاءت في هذه السونته تناولها كثير من الشعراء العرب والأجانب بعد شكسبير. ومن هؤلاء إبراهيم الحضراني الشاعر اليمني المعاصر الذي رحل العام الماضي والشاعر نزار قباني. يقول الحضراني: الله قد صاغك من طينة كسائر الناس ولا أكثر فحدثيني يا منى خاطري من خلق الحسن الذي يبهر من جعل الألحاظ فتاكة والثغر من صيره يسكر من خلق الفتنة غيري أنا أنا أنا خالقك الأكبر ويقول نزار في مدخل ديوان “الرسم بالكلمات”: وكنت مجهولة حتى أتيت أنا أرمي على صدرك الأفلاك والشهبا أنا أنا بانفعالاتي وأخيلتي تراب نهديك قد حولته ذهبا ونلاحظ استعمال الأنا المكررة عند الشاعرين. وقد قلت مرة في قصيدة بعنوان “عطاء” في عكس هذا المعنى: لم أعطك الخلود والذكرا بل أنت من أعطيتني الشعرا فلا تقولي أبدا : “شكرا” أنت به يافتنتي أحرى وأود أن أنوه إلى أنه منذ نحو عامين أطلقت الإمارات عدة مبادرات هامة في مجال الترجمة وأهمها مشروع كلمة في أبوظبي الذي يسعى لترجمة 100 كتاب سنويا، ومشروع ترجم في دبي الذي يسعى لترجمة 1000 كتاب كل ثلاث سنوات أي نحو كتاب يوميا. ويعمل المشروعان حاليا على الترجمة من اللغات الأجنبية وخصوصا الإنكليزية والألمانية والفرنسية والاسبانية إلى العربية ولكن لا يستبعدان في المستقبل الترجمة من العربية إلى اللغات الأخرى. وقد نشر مشروع كلمة ضمن ما نشر عدة مجموعات من الترجمات الشعرية من عدة لغات أجنبية. * ورقة قدمت في محاضرة نظمها مركز سلطان بن زايد للثقافة والإعلام، في أبوظبي نماذج من ترجمات غانم فيما يلي نماذج من ترجمات الدكتور شهاب غانم من الإنكليزية إلى العربية: اقرأ بوجهي اليزابيت براوننج (1806 ـ 1861) لست أهواك.. لست أجرؤ أن أهواك فأترك قلبي الكئيب وحيدا إن من يبتغ الورود يرمها في البساتين.. لا يرود البيدا لا تؤاخي الحياة موتاً! فلا تخفض لشكواي شدوك المعهود إن تضع في الضجيج. “لست أقدر أن أهواك”. فاقرأ وجهي ترَ التأكيدا ربما كنت قد عشقتك يوما حين كانت روحي تطير بعيدا إنما اليوم حين أسمع نجوى ينزف القلب خائراً مكدودا أنت لو رمت مهجتي قبل أن يذبل خدي لنلت حبا فريدا ولشاهدت بسمتي وهي تشدو: يا حبيبي اقرأ بوجهي القصيدا DENIAL I love thee not, I dare not love thee! go In silence; drop my hand. If thou seek roses, seek them where they blow In garden-alleys, not in desert-sand. Can life and death agree, That thou shouldst stoop thy song to my complaint? I cannot love thee. If the word is faint, Look in my face and see. *** I might have loved thee in some former days, Oh, then, my spirits had leapt As now they sink, at hearing thy love-praise. Before these faded cheeks were overwept, Had this been asked of me, To love thee with my whole strong heart and head, - I should have said still …yes, but smiled and said, ‘Look in my face and see البعوضة تدرك د. هـ. لورنس (1885 ـ 1930)، إنجلترا، بريطانيا البعوضة تدرك تماماً بأنها على الرغم من صغر حجمها وحش مفترس ولكنها على كل حال لا تمتص أكثر من طاقة معدتها. انها لا تمتص شيئاً من دمي لتودعه بنكاً! ناني كامالا ثريا (1934 ـ 2009) “ناني” الخادمة الحامل شنقت نفسها في أحد الأيام في المرحاض، وظلت معلقة هناك، كدمية شوهاء، ثلاث ساعات طوال إلى أن حضرت الشرطة. وعندما كانت الريح تهب فتديرها برفق في حبلها كان يتراءى لنا، نحن الذين كنا أطفالاً يومئذ، أن “ناني” كانت تقوم برقصة مضحكة لتسليتنا. نمت الأعشاب بسرعة، وقبل نهاية الصيف كانت الأزهار الصفراء تعانق المدخل والحيطان، وأصبح المرحاض المهجور كأنه مذبح في معبد أو ضريح لقديسة ميتة. بعد عام أو عامين سألت جدتي ذات يوم هل تذكرين “ناني” الممتلئة الداكنة التي كانت تغسلني بجانب البئر؟ حركت جدتي نظارة القراءة على أنفها وحملقت في وجهي وسألت: “ناني”... من هي؟ وبهذا السؤال انتهت “ناني”. كل الحقائق تنتهي هكذا بسؤال. إن هذا الصمم المتعمد يحوّل الموت إلى خلود والشيء الأكيد إلى رخو غير أكيد. إنهم محظوظون أولئك الذين يسألون أسئلة ثم يمضون قبل مجيء الاجابة أولئك الحكماء الذين يحيون في منطقة صامتة زرقاء لا تخامر أذهانهم الشكوك لأنهم يمتلكون ذلك السلام المتخثر المنطمر في الحياة كاللحن في بيضة الوقواق، كالشهوة في الدم، أو كالنسغ في أوعية الشجرة....
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©