الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

البارومتر والحبل!

البارومتر والحبل!
21 يونيو 2012
في هذا الزمن تعددت الطرق والأساليب التي تجعلك إنساناً متعلماً، فالتطور المستمر للمناهج الدراسية وانتشار المعاهد التعليمية ومحاربة الأمية المتمثلة بعدم القراءة والكتابة، جميعها ساهمت في تغذية الإنسان بالعلم وبالتالي التطور الحضاري، لكن هذا كله يختلف عن سياق الثقافة ومصطلح الثقافة ومفهومها، وعلى الرغم من حداثتها حيث ظهرت في القرن الثامن عشر في أوروبا لتدل على الرغبة بالإصلاح وتحسين المستوى والمهارات الفردية للإنسان من خلال التربية والتعليم وتنمية القدرات الذهنية والرقي الأخلاقي.. واستمرت حتى القرن العشرين حيث تغير مفهومها قليلاً لتدل على نبوغ القدرة الإنسانية، ومن ثم التصرف على هذا الأساس بطريقة إبداعية وخلاقة. أيضاً في اللغة العربية تدل الثقافة على صقل النفس والذكاء والتفكير بشكل منطقي.عالم الانثربولوجيا البريطاني تايلور أعاد تعريف كلمة “ثقافة” فقال إنها: “مجموعة متنوعة من الأنشطة المميزة لجميع المجتمعات البشرية”. ويظهر أن تايلور عرّف هذه الكلمة من وجهة نظر علم الاجتماع حيث أنها الأمور التي يتفق عليها المجتمع ويؤديها كالعادات والتقاليد.. لكن كثيراً من العلماء عارضوه وقالوا انها عبارة عن قدرات عقلية ونبوغ ذهني لدى الفرد.. هؤلاء العلماء دللوا على كلامهم من خلال الأفعال التي يقوم بها الفرد وتجعله مميزاً عن محيطه.. على كل حال الثقافة في مفهومها الواسع باتت تدل اليوم على الرقي الفكري للفرد والمجتمع.. ومن وجهة نظر شخصية أرى أن الشخص المثقف لديه حصيلة علمية غزيرة من خلالها تكونت له آراء وأفكار خاصة به ومبادئ يسير عليها، قد يعتقد البعض أن كل شخص متعلم يعتبر مثقفا خصوصاً لو حصل على درجات علمية عالية ولو درس تخصصاً حساساً وهاماً، لكن أعتقد أنه يوجد خيط رفيع بين العلم والثقافة.. قياس ناطحة سحاب قصة العالم الدكتور نيلس بور الذي وضع نظرية عن بنية الذرة وحاز على جائزة نوبل للفيزياء والتي حدثت في بداية حياته الأكاديمية في جامعة كوبنهاجن قد توضح الفرق بين المفهومين.. تقول القصة أنه كان يؤدي اختبارا في مادة الفيزياء، وقد وجد في الورقة سؤالا: كيف نستطيع قياس ارتفاع ناطحة سحاب، باستخدام جهاز اسمه البارومتر، وهو جهاز خاص بقياس الضغط الجوي؟ وعلى الرغم من أن الإجابة كانت بديهية ويعرفها كل دارس مبتدئ في الفيزياء، حيث يتم قياس الفرق بين الضغط الجوي على ناطحة السحاب وعلى الأرض.. إلا أنه وضع إجابة، جعلت أستاذ المادة، وهو أكاديمي متخصص في الفيزياء، يمنحه صفرا، دون أن يكمل حتى قراءة الإجابة كاملة.. وهو ما يعني فشل الطالب.. ولقد كانت الإجابة التي وضعها نيلس بور تقليدية وساخرة، حيث قال: لقياس طول ناطحة السحاب، أربط البارومتر بحبل طويل وأقوم بإنزاله من أعلى ناطحة السحاب حتى يصل إلى الأرض، ثم أقيس طول الحبل... بور بعد أن أدرك إخفاقه في النجاح قدم شكوى مدعيا بأن إجابته كانت صحيحة وأنه تم حرمانه من نجاح يستحقه، ولأن قانون الجامعة كان مرنا وتحكمه مهنية علمية واضحة تخدم الطلاب وأساتذتهم على حد سواء، قرر المجلس العلمي في الجامعة الاستعانة بعالم في الفيزياء محايد ليستطيع أن يعطي رأيا علميا دقيقا، وقدم هذا العالم إفادة علمية تقول إن إجابة الطالب صحيحة ولكنها تفتقر للجانب العلمي لمادة الفيزياء.. واقترح أن يعطى الطالب فرصة أخرى بأن يعاد له الاختبار، وهو ما حدث، حيث أعيد اختبار الطالب، ولكن هذه المرة ليس تحريريا على الورق بل شفهيا، وأمام عدد من أساتذة الفيزياء بمن فيهم هذا العالم، الذي بادر الطالب بطرح السؤال السابق نفسه عليه، صمت الطالب لبعض الوقت ثم قال: لدي إجابات كثيرة، فقال له أحدهم.. اجب بما لديك جميعه، نحن هنا لنستمع لك.. فبدأ بور ضاحكا قائلا: يمكن إلقاء قياس البارومتر من أعلى ناطحة السحاب ونقوم بقياس الوقت الذي يستغرقه حتى يصل إلى الأرض وبالتالي يمكننا معرفة ارتفاع الناطحة، وبعد موجة من الضحك، أعطى إجابة أخرى قائلا: كذلك يمكننا معرفة ارتفاع ناطحة السحاب إذا كانت الشمس مشرقة حيث نقوم بقياس طول ظل البارومتر وطول ظل الناطحة فنعرف طول ناطحة السحاب من خلال قانون التناسب بين الطولين وبين الظلين.. ثم أضاف قائلا: أما إذا أردنا أسرع الحلول لقياس طول ناطحة السحاب فيمكننا أن نقدم قياس البارومتر هدية لحارس بوابة ناطحة السحاب وأنا متأكد أنه سيخبرنا عن طولها.. وغني عن القول أن القاعة ضجت بالضحك مرة أخرى لكنه واصل إجاباته قائلا: أما إذا أردنا أن نعقد الأمور وحسب فسنقوم بعملية حسابية رتيبة وهي حساب ارتفاع الناطحة بواسطة الفرق بين الضغط الجوي على سطح الأرض وأعلى الناطحة، وطبعا باستخدام البارومتر.. وقد كان أساتذة الفيزياء بمن فيهم عالم الفيزياء ينتظرون هذا الجواب العلمي الذي سيعطي دلالة على فهم الطالب للمادة.. وقد تم الإقرار بأن نيلس بور تجاوز الامتحان ونجح في المادة، برغم أنه عبر وبشكل واضح وصريح بأن تلك الإجابة هي الأسوأ، مستعيناً بثقافة قوية من إبداء الرأي وحرية التفكير، فهو لم يقتنع بتلك الإجابة العلمية التريبة فوضع عدة إجابات أخرى أسهل من اختراعه بعض هذه الإجابات كانت ساخرة تهكمية.. من هنا يتضح أن التعليم قد يساهم بصورة أو بأخرى بزيادة الحصيلة المعرفية للإنسان لكنه لا يجعل منه مثقفاً فهو عبارة عن منهج ونظريات وآراء لعلماء سابقين يتم السير وفقها، إذا آمن الإنسان بها إيماناً جازماً دون أن يحرر عقله ويفكر فإنه لن يتطور وسيبقى كآلة حفظ وتخزين للمعارف. غاليليو وابن رشد إن الآراء والأفكار الشخصية هي التي تنمي ذهن الإنسان وتجعله مفكراً ومبدعاً وبالتالي مثقفاً. وهذا تماماً ما حدث مع العالم الفلكي غاليليو الذي اخترع التلسكوب فخرج للعالم مثبتاً أن الكرة الأرضية كروية الشكل وتدور حول الشمس بعد أن كان الاعتقاد السائد أنها مركز الكون ومسطحة الشكل، لذلك رفضت الكنيسة هذه النظرية وطالبت غاليليو أن يتراجع عن أقواله لأنه بذلك يخالف الانجيل! لكنه أصر على نظريته، فتم اتهامه بالإلحاد ومنعت كتبه وحكموا عليه بالإقامة الجبرية في منزله طوال حياته وحرموا مناقشتها!.. وقع ظلم واضطهاد بالغ بحق عالم الفالك والفيزياء غاليليو رغم أنه لم يكن الشخص المتعلم الوحيد في زمنه بل هناك جموع من المتعلمين والطلاب والأساتذة والعلماء.. لكنهم افتقروا لروح الثقافة الداعية للاكتشاف والابتكار والتجديد. وفي الحقيقة إن الافتقار لثقافة التسامح يجعل من الفرد ذا خصال مادية بحتة، وعندما يفتقد المجتمع بأسره لهذه الأخلاق يكون مجتمعاً مفككاً، وغني عن القول إنه أيضاً مجتمع غير مثقف. قد يكون المرء متعلماً حاصلاً على شهادة عالية لكن مطامعه وجشعه يجعل فكره ينحصر حول نفسه وبالتالي لا فائدة ترجى من علومه ومعرفته فهو يريد ان يكون في منصب مرموق بدخل عالٍ ومكانة اجتماعية راقية والجميع يهابه ويحترمه، وعندما يظهر من ينافسه على هذه المكانة فإنه سيؤذيه ويبعده بأي طريقة كانت تماماً مثل ما حدث مع عالم الرياضيات والفلسفة محمد بن احمد بن رشد الأندلسي (ابن رشد) الذي توجه نحو مراكش لأن السلطان ابن يعقوب يوسف استدعاه ليشرح له كتب أرسطو، فقد علم بسعة علمه وتعدد ثقافاته وتنوع علومه وكان السلطان يستمع لآراءه وأفكاره واعجب بها كثيراً بل واحتفى به وقربه فكانت له مكانة خاصة لدى السلطان، مما أظهر كثيراً من الحساد والحاقدين وأوجد الخصوم والأعداء وهذه ليست معضلة بحكم أن هذا النوع من التدني الأخلاقي موجود في كل عصر وزمان، لكن المؤلم في قصة ابن رشد أن من عاداه وحاك الأكاذيب حوله ورماه باتهامات باطلة كالكفر والزندقة وغيرها، هم من زملاءه العلماء والفقهاء الذين يتمتعون بحصيلة علمية لكنهم افتقروا لثقافة التسامح وحب الخير للغير، فقد كان هاجسهم الوحيد ان ابن رشد يشكل خطراً عليهم كونه متفوقاً علمياً وبالتالي فإن مكانتهم عند السلطان مهددة فصنعوا الأقاويل والإشاعات عن هذا العالم الجليل حتى أمر ابن يعقوب بنفي ابن رشد وتلامذته وحرق جميع كتبه الذي أفنى عمره في تأليفها! ويقال أن ابن رشد توفي متأثراً بهذه الحادثة. بات واضحاً أنه عندما يفتقر المتعلمون للثقافة بمفهومها الإنساني الواسع والشامل وعندما يكون المجتمع رافضاً للآراء والأفكار المتنوعة ويغلب عليه التفكير السطحي والبسيط يصبح المثقف في صدام دائم معه، فذهنه المتجدد يقول أفكاراً غريبة ومريبة بالنسبة لأشخاص بعقول مغلقة، لذلك عندما لا يفهم المجتمع آراءه وأفكاره يظن انها تهدده فيبدأ الاضطهاد والتهميش وتكثر الأقاويل السيئة عنه فالناس أعداء ما جهلت.. الثقافة ليست مهمة سهلة، إنها جمع بين المعرفة الغزيرة ـ العلم ـ والفكر الحر والأخلاق العالية.. عندما تقرر أن تكون مثقفاً فأنت تقرر أن تكون إنساناً ذو هدف نبيل وروح معطاءة فاعلاً بمجتمعه ومبدعاً.. وتذكر أن العلم هو ما يقودك نحو الثقافة، لكنه ليس الوسيلة الوحيدة لبلوغ هذا الهدف! almazrui1@hotmail.com
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©