الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

تحولات الغاب

تحولات الغاب
21 يونيو 2012
كتاب جديد بعنوان “الغاب” للباحث سمير الشيخ مقصده رصد المدونة الشعرية العربية الحديثة واستكشاف ممكناتها الأسلوبية، هذا الرصد والاستكشاف والتأويل يتحقق عبر النقد الأسلوبي. فالدراسة الأسلوبية ضرورة لإضاءة مسالك الغاب السحرية في مستوياتها الشكلية. وهذا لا يكون الا تبني نظرية لسانية معاصرة، فعندما يتحدث المؤلف عن الدراسة اللسانية للنصوص الأدبية. الغاية من دراسة المؤلف الأسلوبية هو النص بكل شبكاته المتشجرة وتعالقاته الجمالية وعلاقاته اللسانية القائمة على التشاكل والتغاير في آن واحد. ومقاربة هذه العلاقات لا تأتي منفصلة عن رؤية الشاعر للعالم أو بعيداً عن الأبعاد الثقافية والسيكولوجية للشاعر. ودراسة تنأى بنفسها قليلاً عن المنهجية البنيوية المتعالية التي ترى في النص جزيرة مقطوعة عن جماليات البحر المحيط. لكن يبقى النص البدء الذي تنطلق منه وفيه كل القراءات. فالنقد الأسلوبي يبدأ بالوصف اللساني لعناصر وينتهي بالتأويل الجمالي، فالمرحلتان متعاقبتان، وقد تتداخلان ولكن ما من تأويل جمالي سابق على الوصف اللساني. وهنا لا بد من الاعتراف أن نظرة نقدية واحدة قد تضيء بعض مجاهل الغاب لكنها لا تضيء الغاب بأكمله. وإذا كان النص غاية تأملاتنا، فإن دراسته معنية بتحليل النص قدر علاقته بالآثار الأخرى للشاعر أو للشعراء من معاصريه، إذ إن المنظورات الوصفية اللسانية لا تقع بعيداً عن منظورات الدراسات المقارنة. فلقد تمحور الدرس اللساني الحداثي حول التصور القائل إن اللغة هي النتاج الأكثر أهمية للجنس البشري، وهي الخاصية التي ينفرد بها الانسان دون سواه من سائر الخلائق. ومع أن الطبيعة والحيوان يمارسان ضروباً من التواصل، الا أن اللسانيين يرون في اللغة خواص تُعطيها سر فرادتها. ويأتي في مقدمتها الاستبدال. فهذه الخاصية تسمح للمتكلم بالتعبير عن الوقائع والأحداث التي لا ترد في المحيط الآني أو في اللحظة الراهنة، فبوسع المرء أن يتحدث عن واقع الماضي وخطوات المستقبل وأن يربط الأحداث التي لا ترتبط آنياً بالحاضر الماثل. كما أن الخلق خاصية تنفرد بها كل لغات الأرض. فالبشر يستغلون المصادر اللسانية المتاحة لهم لإنتاج جمل جديدة وتعابير جديدة. وثمة خاصية ترتبط بـ الخلق، هي الثنائية. فاللغة تنظم تلقائياً على مستويين: الصوت والمعنى. وعلى وفق النتاج الكلامي، فإن لديهم كما يقول المؤلف المستوى الجسدي الذي به ومن خلاله يمكن للإنسان إنتاج الأصوات الشخصية التي بفعل إدماج بعضها ببعض في سلسلة صوتية واحدة ينتج منها المعنى الذي يختلف عن الآخر المنسبك في سلسلة أخرى مغايرة. وبقول آخر فإنهم في مستوى واحد لديهم أصوات متمايزة. وفي مستوى آخر لديهم معان متمايزة. وثنائية المستويات هذه هي في حقيقة الأمر تعد إحدى اهم الخواص الاقتصادية للغة البشرية. كما تقول اللسانيات بذلك. واللغة مورد يرتاده البشر لتحقيق غاياتهم من خلال التعبير عن المعاني في السياق. حول هذا التصور اللساني تتشكل الاتجاهات الوظيفية بوجه عام. وهذه الدراسة كما يذكرها المؤلف تستند بكليتها الى منظورات العالم اللساني الفكرية والجمالية في اللسانيات الوظيفية. فاللسانيات الوظيفية هي نظرية المعنى. وقد وضع أسسها العالم اللساني الانجليزي هاليدي أحد ابرز تلامذة العالم اللساني الراحل فيرث، الذي تأثر هو الآخر بالمنظورات الفكرية لعالم الأنثروبولوجيا ماليوفسكي. يحاول هاليدي من خلال مؤلفه الكبير وإصداراته الأخرى خلق مقترب للسانية تتناول اللغة في معتقد هاليدي سيمياء اجتماعية، اي هي المورد الذي ينهل منه الناس لتحقيق مقاصدهم وذلك بالتعبير عن المعاني في السياقات المختلفة. يُلقي كانفرد في مقالته نظرية لغوية للترجمة، مزيداً من الضوء حول الطبيعة الاجتماعية للغة، فيرى فيها نمطاً من السلوك الإنساني المندمج، أي وسيلة بل ربما أكثر الوسائل أهمية التي بها ومن خلالها يتفاعل الناس في الأوضاع الاجتماعية. مثل هذا السلوك اللساني يتمظهر في ضرب من الفعالية الجسدية من لدن المخاطب اي صاحب الطاقة الإنجازية. ويفترض هذا السلوك وجود طرف أو أطراف أخرى تشارك في هذا الوضع. وسياق الحال ايضاً بحسب وصف المؤلف يمكن إدراكه عبر العلاقة النظامية بين المحيط الاجتماعي والتنظيم الوظيفي للغة. هذه الفكرة ترتبط بفكرتي الوظيفة والدلالة. والنظرية الوظيفية ترى في الوظيفة والدلالة أساساً للغة الإنسانية والتواصل الإنساني. يذكر المؤلف بأن اللغة وظيفية، لذا لا بد من وصف هذه الفعالية طبقاً لوظائفها. وتأتي في مقدمة هذه الوظائف الوظيفية الفكرية التي تعنى بالتعبير عن المحتوى المفترض. يقول هاليدي بأن اللغة تقوم بالتعبير عن محتوى تجربة المتكلم إزاء العالم الخارجي، بل وتتضمن كذلك العالم الداخلي لوعيه. فاللغة تسيغ البنية على التجربة. والوظيفة الثانية للغة هي التواصلية، وتعنى بوظيفة الكلام وبنية التبادل وكل العناصر التفاعلية التي تبين وضع المتكلم وعلامات الخطاب. ويقول المؤلف، بأن اللغة تقوم بإنجاز الممكنات الاجتماعية، اي التعبير عن الأدوار الاجتماعية التي تتضمن أدوات التوصيل من لدن اللغة ذاتها. أما الوظيفة الثالثة للغة فهي الوظيفة النصية. وهي التي تمكن المتكلم او الكاتب من خلق النص، كما تمكن المتلقي أو القارىء من إدراك ذلك النص. فإذا كانت اللغة تعبر عن المحتوى المفترض في وظيفتها الأولى، وإذا كانت تظهر تلك التبيانات بين الجمل الخبرية والاستفهامية والأمرية عندما يتعلق الأمر بالأدوار الاجتماعية التي تقوم بها الأطراف المشاركة في وظيفتها الثانية، فإن اللغة في وظيفتها الثالثة تعنى بعلاقات الأبنية النحوية والتنغيمية بعضها ببعض في النصوص من ناحية والأوضاع التي تستعمل بها من ناحية ثانية. يعرض المؤلف ايضاً، بأن اللغة عبر وظائفها لا تنفصل عن المعنى، فهي نظام دلالي يعمل مع أنظمة أخرى على ترميز المعنى الذي تنتجه. فالدلالة هي النظام الكلي للمعنى الذي يعبر عنه النحو والألفاظ. واللغة وظيفية بمعنى أن كل عنصر يؤدي دوراً في بنية اللغة. هذه النظرة إلى اللغة على انها نظام لممكنات المعنى يدل على ان اللغة نظام محدد تحديداً جيداً وليست مجموعة من الجمل النحوية حسب. فاللغة وجود ولذا ينبغي دراستها على وفق سياقتها، وان جوانب معينة من السياق المتاح هي التي تحدد المعاني الواجب التعبير عنها. فاللغة ينبغي أن تستعمل للتعبير عن تلك المعاني. يقول المؤلف في الفصل الثاني من كتابه هذا، بأن الشعر يرتبط منذ أقدم العصور بمفهوم الخلق، فلكي يكون المرء شاعراً لا بد أن يكون خالقاً، وما دامت اللغة مادة الشاعر، إذن، فلابد من استعمال مادته بصورة خلاقة. والشاعر يمكنه ذلك إما باستعمال الممكنات الراسخة استعمالاً أصيلاً وإما بالتخطي الجريء لتلك الممكنات من أجل خلق ممكنات توصيلية جديدة لم يألفها النظام اللساني من قبل. فالخلق في الشعر إما أن يكون أصالة وإما أن يكون ابتكاراً. يقول بأن الشعر العربي قد شهد في الفترة ما بعد الحرب الكونية الثانية تحولات درامية تمثّلت في انتهاك الأبنية الشعرية القديمة انتهاكاً قصدياً. فالشعر الحديث في تلك الحقبة جاء لكسر النظم الشعرية التقليدية. وحل التنوع العروضي محل التناظر في عدد التفعيلات المتعاقبة. ولهذا أصبح بالإمكان إدراك شعرية جديدة فاعلة بدلاً من التقليد الموروث. هذه الثورة في الشعر لم تكن ممكنة لو لم تكن هناك رؤية جديدة الى العالم. فالشعر، يقول أدونيس، رؤيا والرؤيا، بطبيعتها، قفزة خارج المفهومات السائدة. هي، إذن، تغيير في نظام الأشياء وفي نظام النظر إليها. أما في نهايات كتابه هذا عرض المؤلف تصور مفاده أن المدونات الشعرية المعاصرة وإن اختلفت الأساليب الشخصية والرؤى الفكرية فإنها تشكل أسلوب المرحلة، كما أن هذه المدونات بكليتها تنزع صوب الوضع الإنساني المعاصر باعتبار أن الخليقة للشاعر قدرٌ وغاية.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©