الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

المتجهمون يكتبون الملهاة

المتجهمون يكتبون الملهاة
7 فبراير 2008 00:42
في البدء كانت السخرية، خاصة في مجال الرواية، ولعل السبب الأساسي في رواج ''دون كيخوتة'' يعود الى كونها عبارة عن ضحكة كبيرة، ومادة للضحك المتواصل على مغامرات ومفارقات الفارس النبيل وتابعه الهمام السيد ''سانشو مانشا''، كذلك فإن كل الكتاب العالميين المؤثرين الذين أمتعوا العالم، ابتداء من ''سرفانتس'' و''رابيليه''، مرورا ''بديستيوفسكي'' و''كافكا'' وحتى ''مارسيل بروست''، وانتهاء بـ ''ساراماجو'' و''تسنيبول'' و''ميلان كونديرا''، شكلت السخرية ملمحا أساسيا في أعمالهم، غير ان الأمر مختلف تماما في الأدب العربي، خصوصا الحديث منه، فالسخرية متوارية وتكاد تكون منبوذة وخجلى من نفسها، والأعمال الأدبية الساخرة نادرة ومبعدة وغير معترف بها· فكيف يمكن توصيف حالة تواري أساطين الكتابة الساخرة دون ان يتركوا تلامذة خلفهم؟ وهل يرتبط تواري السخرية وخفوتها بالصعوبات الكثيرة التي تعاقبت على الإنسان العربي في الفترة الأخيرة؟ وهل أصبح التجهم قدرا لا خيارا؟ وهل لمقولات الحداثة ونصوصها ورموزها دخل بالموضوع؟ هنا الحلقة الاولى من تحقيق يلقي الضوء على الإشكالية: حمدي أبوجليل، رولا عبدالله، الطيب بشير، محمد نجيم، هذايل الحوقل الروائي إبراهيم أصلان من الأسماء النادرة التي تجد في أعمالها طعما ونكهة مميزة للسخرية والمرح، والقهقهة العالية أحيانا، غير أنه يتحفظ على المصطلح، ''السخرية والأدب الساخر''، قائلا ''إنه لا يناسب وصف الرواية والأدب عموما، وكلمة سخرية نفسها تميل إلى أن ثمة تعمدا وتربصا وقصدا وهذا بعيد عن الأدب''· يقترح أصلان مصطلح ''أدب الحس بالملهاة'' بديلا لمصطلح ''الأدب الساخر'' الشائع بين الناس، ذلك أنه ''أقرب إلى توصيف الأعمال الأدبية ذات الحس المرهف بالمفارقات الإنسانية، الأعمال التي تشعرك بالفرح والغبطة النفسية حتى وهي تصف لك المآسي، بسبب إنسانيتها في الاقتراب من الموضوع، ولأن هذه الكتابة تعبير عن حب وشغف قوي بالحياة، والناس وهذه الكتابة لا يصلح وصفها بالأدب الساخر، خصوصا انه وصف يحيل إلى معان اقرب للنقد والهجاء منها للنظرة الموضوعية القادرة على رصد المفارقات''· ويوضح أصلان انه يعاني شخصيا من افتقاد الحس الساخر الفكه هذه الأيام، ليس في الأدب فقط ولكن في الحياة عموما، قبل أن يتوسع قائلا: ''حتى المحيط الذي أتحرك فيه أقرب للتجهم والصمت منه للمرح والخفة والضحك، وأنا اسكن حيا شعبيا مزدحما، والناس كانوا يسهرون ويتسامرون، وكنت اسمع صدى ضحكاتهم طوال الليل، ولكن هذه الظاهرة اختفت فجأة، وتحس أيضا أن الناس فقدوا أو تناسوا الاستجابة للضحك والفكاهة، فرغم ان الشعب المصري يعتبر من أكثر شعوب الأرض قدرة على التفكه والتندر، إلا أن اختلال الأمور تحت ضربات متلاحقة أفقده القدرة على السخرية، ولذلك يمكن القول إن المواطن المصري الآن ليس هو المواطن المصري الحقيقي، لأنه فقد أهم خصائصه، وهي موهبة التهكم''· الفهد: شرعية التفاؤل الكاتب الكويتي المقيم في القاهرة سليمان الفهد هو أحد الساخرين المرموقين في الصحافة العربية، ومتابع دؤوب لجديد الأدب الساخر، وبناء على هذه الخبرة هو يعترف بتراجع الكتابة الساخرة، ولكنه يرجع هذا التراجع للكُتاب أنفسهم· ويوضح: ''أن أزمة الكتابة الساخرة ترجع إلى ندرة الكاتب الساخر، وهو نادر في أي زمان ومكان، فالسخرية لا تؤخذ بقرار، ولا بالنوايا الطيبة، كما انها ليست وصفة أو منهجا يمكن تدريسه في المدارس، ولكنها خلقة وفطرة يولد بها الإنسان كلون العيون والشعر والبشرة، ولا يمكن افتعالها أو تعلمها، والكاتب الذي يتعمد السخرية عادة ما يكون ثقيلا''· ومن ناحية أخرى، فإن الفهد يعيد أزمة الأدب الساخر إلى ما يراه غياب الحرية عن الواقع العربي· وهو ما يعتبره معوقا يحول دون ازدهار الكتابة الساخرة، فالسخرية تعني الحرية التامة، وعدم التقيد بأي قيود، والنظر للحياة باعتبارها نكتة كبيرة، ويشدد هنا على أنه لا يقصد فقط أشكال الرقابة الرسمية المفروضة، ولكن أيضا، وربما أولا، ''الرقابة المجتمعية، وهي للأسف شديدة وصارمة، وتنظر للسخرية والصراحة عموما نظرتها للخطر الذي يجب الخلاص منه''· غير أن الفهد لا يجد حرجا في اعلان تفاؤله بمستقبل الكتابة الساخرة، فـ''ندرة الكاتب الساخر لا تعني غيابه التام، ورغم تعدد قيود ومعوقات السخرية وما تعنيه من صراحة في المجتمع، فإن هناك أسماء ساخرة شابة وجديدة وطازجة تبشر بمستقبل زاهر بالسخرية والساخرين''· قهوجي: ندرة موروثة الكاتب اللبناني غازي قهوجي يرى انه منذ عهود غابرة لم يكن عدد كتّاب الأدب الساخر غزيراً· وغالباً ما كان هذا النوع من الكتابة، وبجميع تنوعاتها، مخترقاً السائد والمألوف على جرأة واضحة، ومنطق تهكمي متين، يطاول الممنوع والمحظور أحياناً· ويضيف: ''أعتقد أن الكتابة'' الساخرة''، هي بالدرجة الأولى ''أسلوب''· وهي من الكتابات الصعبة جداً، التي تتطلب ثقافة واسعة وشاملة، لتبتعد عن المجانية والآنية، كما أنها ليست نوعاً من''التنكيت'' وإلقاء وذكر النوادر الضاحكة''· فالكتابة ''الساخرة'' برأيه هي ''قمة الجدية والمسؤولية، وهي ''رأي'' وموقف ونقد جارح يقع في منتهى الليبرالية وحرية القول· هي فن نقدي تهكمي مركب ومدروس يرتكز على إحساس مرهف، وعين لاقطة لماحة، وقدرة على توليف ونسج وحياكة ''الحدث'' أو ''الحالة''، أو الموضوع من منظار ''البسمة''، أو حتى الضحكة الصادرة من خفة الظل التي يتسم بها الكاتب''· قهوجي يجزم بأن الكاتب الساخر الذي يتمتع بالموهبة المشرقة، يستطيع أن يكتب في أحلك الظروف وأصعبها وأشدها تجهماً وسوادا· فهذا ''الفن'' من الكتابة هو أسلوب ونهج يصل وقعه إلى كل القراء على اختلاف مواقعهم وتغاير ثقافاتهم· لا يوافق قهوجي على القول أن هذا الفن الكتابي قد تراجع، برغم المقولة التي تزعم أن ''شر البلية ما يضحك''، وإنما ''قل عدد من يخوضون ميدان الكتابة فيه، وهم أصلا ''قلة''، وخصوصا في زمن طغت عليه وانتشرت الكتابات ''الأيديولوجية'' والخطب النارية الحماسية، مترافقة مع ''تسونامي'' الانتكاسات والاحباطات والخيبات···هذا إذا لم نقل الهزائم· فالكاتب الساخر، هو الذي يحلم باستمرار بتغيير الواقع والسائد والمزمن، إلى واقع أفضل، وذلك عن طريق النقد، و''نكش'' ما لا يمر ببال· حيث تكون البسمة في غالب الأحيان مؤلمة''!! وفي سياق الرد على التساؤل، الذي يحيل الى مفارقة ما حين يسعى الكاتب إلى استنفار ملكات الدهشة الساخرة في زمن يحرض كل ما فيه على التهجم؟ يقول قهوجي: ''أعتقد أن هذه المفارقة، هي بحد ذاتها تشكل موضوعاً مهما للسخرية· ولا ننسى أن الأدب الساخر ازدهر في الظلال الرمادية للعهود القمعية وانتفاء الحريات، لما يحمله من مجازات وتورية ولمعات هي من خصائصه وثوابته· أود أن أقول لا تضحكني المسائل والمواضيع الضاحكة· وإنما أضحك عندما تصل الأمور إلى أعلى درجات الجدية''· هاشم: زمن الخيبة مقاربا الموضوع من زاوية صناعة النشر، يقول الناشر المصري محمد هاشم: ''الكتب ذات النكهة الساخرة رائجة، ويقبل عليها الكثير من القراء، ولكنها شديدة الندرة، وتنتظر سنوات حتى تأتيك رواية ساخرة، وهذا يرجع لظروف الإنسان العربي في اللحظة الراهنة، وتكرار الأزمات والخيبات عليه''· الشملي: فقدان الأمل أما الباحث التونسي د· المنجي الشملي فيبادر الى القول: ''حسب رأيي فإن أسباب تراجع الأدب الساخر وانحساره موضوع مهم ودقيق، ولعل جوهره هو مأساة العربي اليوم الذي أصبح في الحقيقة لا يعرف الفكاهة الساخرة ولا الفكاهة الضاحكة، (والفكاهة أنواع) لأنه يشعر انه على هامش العالم وانه لعبة في أيدي القوى العظمى''· ويتابع قائلا: ''عادة فإن الأدب الساخر يغذي الأمل ويقويه عندما يكون الأمل واضحا، وعندما يكون هذا الأمل غامضا يتحول هذا الأدب نحو التجهم· فالأدب الساخر هو أدب أمل لأنه يزرع الرجاء في التقويم والإصلاح، وفي هذا السياق وعلى سبيل المثال، فإن حسين الجزيري، وهو من رواد الصحافة والشعر الساخر، أودع السجن بسبب قصيد كتبه في النصف الأول من القرن الماضي، وعوض ان يحزن في السجن نظم قصائد جميلة جدا وساخرة·'' ويخلص الباحث الى القول: ''الأدب الساخر إذن يقوي الأمل، وهو أدب ثورة لكنه انقلب إلى أدب'' فقد الأمل'' لأننا أصبحنا مداسين''· الخضراوي: تسرب المؤثرات الناقد المغربي إدريس الخضراوي يقارب المسألة بالقول: ''يعتبر الأدب الساخر واحدا من التنويعات الكتابية الأكثر بروزا في الثقافة العربية· فباستعادة ما كتبه الفقهاء والعلماء والأدباء في مجالسهم الأدبية والفكرية تنتصب أمام المهتم قائمة كبيرة بالإنتاجات الهامة جماليا فكريا· وإذا كان من غير الضروري انسجاما مع محدودية سياق هذا التدخل الإشارة إلى كل هذه العلامات البارزة، فتكفينا الإشارة هنا إلى ما كتبه الأديب الكبير أبوحيان التوحيدي في كتابه ''الإمتاع والمؤانسة'' أو ''المقابسات''، حيث تبرز التداخلات الساخرة، وقد التحمت عضويا وسياقيا بما يرمي إليه الكاتب، وكانت خير آلية أسلوبية للتعبير عن المعنى النقيض أو المعنى الآخر الذي لا يمكن أن تفك طلاسمه إلا قراءة أخرى متحررة من إكراهات التلقي التقليدي· وفي الأدب المعاصر، والرواية منه على وجه التحديد، برزت السخرية بوصفها مسلكا أسلوبيا قمينا بالتعبير عن انشغالات الكاتب ومقاصده· وهذا ما تحقق بالتحديد في أعمال الروائي الفلسطيني إميل حبيبي، وكذلك الروائي السوري حليم بركات، حيث تتكثف السخرية، وتشتبك بقوة مع كل مكونات الرواية لتقول ما لا يمكن أن تعبر عنه اللغة المباشرة· لكننا على الأقل حينما نفكر في راهن الرواية العربية اليوم، كما تعبر عنه الكتابات، التي تتحقق من المحيط إلى الخليج، نجد ضمورا لهذه السخرية بين ثنايا السرد، والرواية تميل بقوة نحو الحكاية وبلغة أقرب إلى المباشرة، رغم ما يتحقق داخلها من شعرية· وإذا جاز لي أن أقدم رأيا بصدد هذا الإحجام عن السخرية، فإني أرى عناصره ماثلة في سياق الأدب العربي المعاصر، وهو سياق تتسرب إليه مؤثرات جديدة سياسيا واجتماعيا وثقافيا، وتلقي بثقلها على آليات الكتابة التي تتبلور في هذا العصر· وهذا شيء طبيعي لأن تقاليد الكتابة ذات طبيعة تاريخية، وهي خاضعة في حضور البعض منها أو غيابه للسياق الذي يحوط الكاتب والقارئ على حد سواء''· العايدي: سخرية الواقع الأديب المصري الشاب أحمد العايدي له رواية ذائعة الصيت بعنوان ''ان تكون عباس العبد'' وضعها بلال فضل ضمن الأعمال الروائية التي تبشر بازدهار الكتابة الساخرة، غير انه يرى ان الأدب الساخر يعاني أزمة شديدة، مصدرها ان الواقع العربي نفسه، أكثر سخرية وعبثية وغرائبية من أي قدرة على التعبير الفني والأدبي· وقال العايدي ان فترة ما عرف بالحداثة، وما شاع عنها وراج من تراكيب معقدة وغموض، كان لها تأثير كبير على إزاحة النص الساخر، بل التقليل من شأنه واتهامه بالسطحية والمباشرة، والغريب هي تلك النظرة السائدة التي تضع الكاتب الساخر في مرتبة أدنى من الكاتب الجاد، والأغرب ان هذا الفهم المغلوط يسود، ويصدقه حتى الكتاب الساخرون أنفسهم، ويتصالحون مع موضوع أنهم اقل من حيث المكانة والتأثير من الكتاب الجادين، رغم ان السخرية والمفارقات الضاحكة أسمى وأمتع ما قدمه الأدب والرواية عبر تاريخها· مختار: غياب تام الروائي النوبي يحيى مختار نفى وجود أدب ساخر من الأساس· وقال: ''لا يوجد أدب ساخر لدينا، والغالب على الكتابة هذه الأيام هي الجدية المبالغ فيها والثقل أحيانا، وهذا يرجع لانعدام الظروف الكفيلة بإنتاج نصوص ساخرة مرحة''· ذلك أن السخرية تشترط، برأيه، مجتمعا رائقا، متحررا ومحبا للحياة، ومتجاوزا للانغلاق والتقليد، وكلها شروط نفتقدها في اللحظة الراهنة، لذا ''يصعب ان يظهر ساخر عظيم كصلاح جاهين أو بيرم التونسي أو حتى زكريا احمد، الذي كان يلقي في جلساته مطولات من درر الأدب الساخر''· ويضيف: ''هناك قيود وجهات وقوى تعمل ضد الحرية، فضلا عن الزحام والتلوث وافتقاد الذوق، وغيرها من القيود التي تحد من الكتابة الساخرة، واختفاء النكتة في الفترة الأخيرة من المجتمع المصري أكبر دلالة''· السبعان: تأثير الإحباطات وتقول الدكتورة ليلى السبعان الاستاذة بجامعة الكويت: إن التراجع الملحوظ في كتابات فنون الأدب بشكل عام، والأدب الساخر بشكل خاص له أهميته الملحوظة والتي يجب أن نقف عندها ونحدد أسبابها· وتضيف: إن التأثير السياسي والاجتماعي والإحباطات التي تعيشها الأمة العربية والإسلامية هي أكثر الأسباب تأثيرا· ومن حيث الأجناس الأدبية وخاصة فيما يتعلق بالقصة والرواية والمقالة الساخرة فتغلف المسرح السياسي والاجتماعي بطابع فكاهي ساخر، أي أنه ظل مستمرا على نهجه القديم في إعطاء الفكرة الاجتماعية والسياسية بطابع السخرية والفكاهة· ومن الأسباب المباشرة على تراجع الأدب الساخر في القصة والرواية والمقالة هو هيمنة وسائل الإعلام وبخاصة الإذاعة المسموعة والمرئية، ومن الأسباب الهامة، توالي النكبات والنكسات والحروب على المناخ النفسي والاجتماعي للمثقف أو الأديب العربي، مما جعله يتناول الأمور بشكل جدي، ويطبع الكتابات الأدبية بنوع من التجهم· ولا تخلو الساحة الأدبية من وجود بعض الأدباء اللذين تناولوا بعض الموضوعات الجادة بإسلوب ساخر جيد·
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©