السبت 27 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

لغات الكنوز·· مسنّنة

لغات الكنوز·· مسنّنة
7 فبراير 2008 00:48
من الصحراء انبثق تشكله فسمي بـ''الحجازي'' وارتحل إلى أقرب الحواضر فسمي بـ''الكوفي''·· الصحراء في الإسلام كانت مركزاً، والحواضر لا تزال تعيش صراعاتها· حروفيات عربية كتبت هناك بين الرمل مستقيمة كامتداد الأرض حتى الأفق·· زواياه المائلة إلى اليمين تعطيه جلالاً فاختير الخط الحجازي في العقود الأولى للهجرة ليتمثل الكلمة القرآنية ويسطر بين جنباته القرآن الكريم· الكلمة والصورة، حضرت الأولى وغابت الثانية في بنية الفكر الإسلامي إذ الأيقونة الدينية سمة لازمت أغلب الديانات المقدسة، أما فنانو الإسلام فكان لا بد لهم من طريقة تعبر عن توهج أناملهم حرارة أكفهم·· فلم يجدوا غير الحرف·· حتى صار مدرسة ثم مدرستين ثم تشعبت فيه الابتكارات فصار علماً· سلمان كاصد قطع مئات السنين ولم يزل الحرف القرآني نابضاً بالتجدد تشكلاته مغرية الدهشة يملأ فضاءات وفراغات الصفحة حتى كأنك تبصر لوحة بلا صورة، ذلك هو التعبير الإسلامي عندما ناصر الكلمة وحروفها على الصورة وتجسيماتها للمقدس· من عمق الصحراء، امتداداً إلى الكوفة وبلاد فارس والمغرب والسودان والأندلس حتى بلاد تركمانستان ثم الهند وحتى بلاد الأناضول·· كانوا يتفنون في رسمه· فنانون فطريون جعلوا الفخار والخزف والزخارف المعمارية والورق اللامع الصقيل والقماش الزاهي والسجاد الناعم يحضن بدفء لذيذ الحرف العربي·· حروفيات ابتدأها ابن البواب (1031) أيام الحكم البويهي وياقوت المستعصمي (1298) ذو الأصل التركي في عهد المستعصم· من القرن الثامن جاءت ومن القرن التاسع أيضاً وبعضها من أوائل القرن الحادي عشر من الحجاز وبعضها من تونس وأخرى بالخط البهاري من الهند وثالثة بالخط المغربي في نسخة ملكية تعود لسلطان المغرب ''مولانا إسماعيل بن مولانا الشريف الحسيني'' كلها تجمعت في أبوظبي بين أروقة قصر الإمارات في معرض ''فنون الإسلام'' لناصر الخليلي لتكمل بهاء القاعات الرخامية والسقوف المذهبة وجمال الأعمدة التي ترفع القباب وهي تنحني لتحتضن فننا الإسلامي· فن ازدهى بالحرف وتجلى بالقرآن الكريم· الحرف الصعب في لوحة من البوم ''مفردات'' لمحمد شوقي في تركيا العثمانية 1867 لا ترى غير حرف ''الطاء'' ممزوجاً بالأحرف الأخرى في الصاد والطاء نفسه، وفي العين والفاء والكاف· ترى كيف يتلون هذا الحرف الصعب؟ إنها تدريبات شعت بالجمال وهي في طريقها بحثاً عن الكمال· أبوظبي عاشت أيامها الجميلة مع التاريخ وهو يلملم نفسه في لوحات الخط القرآني وتلوناتها المذهبة وحواشيها الآسرة·· فما بين خط ''النستعليق'' في المتن وخط النسخ في الهوامش تبتدي جماليات حروفياتنا العربية على يد شاه محمود النيسابوري في منتصف القرن السادس عشر وهو يكتب ''إنا فتحنا لك فتحاً مبينا'' حتى الفضاء بين السطر والآخر كان محسوباً·· فراغه كان كونياً وانسجامه كان أبدياً· خط ''النستعليق'' قلب الصفحة وخط النسخ يحيط به فتبدو الحروفيات متعانقة في انسجام قل نظيره· ورق اللبلاب يمد يده بين أروقة القصر وورقة كستناء أخرى تمنح ريحها في مضاء الرواق وورقة تبغ ثالثة تسغ عطراً عروق نافرة لا تزال خارج الزمان· لرقتها صلابة ولهشاشتها قوة·· صلابتها تجلت بالحروفيات القرآنية ''بسم الله الرحمن الرحيم'' وقوتها بحروفيات عربية أشبه بالكمثرى· القصب والسكين كانوا يضعون القلم من القصب حيث كانت سكين الـ''كليمتراس'' تبري سن القلم بزوايا مختلفة تبعاً لنوع الخط المراد·· ''الكليمتراس'' صنعت بمقابض من العاج أو العظم أو الحجر وكان القلم لجلاله يثبت على حامل مصنوع من العظم أو الصوف أو العاج المحفور بدقة لبري سنه كلها ''أداة الصانع والمصنوع'' تجاورت معاً في الرواق· كتب المستعصمي بخطي المحقق والكوفي المصحف في ثلاثين جزءاً عام 1283 وكأنه يخط روحه جماليات المعرفة الكونية ليدخل في بطن الحرف كي يعرف ماذا يريد ان يقول ولمن يريد ان يتحدث·· كانت امتدادات القلم تبعث الرهبة وكانت احتواءات الاطر التي حفت بالحروف وآياتها القرآنية الجليلة أشبه بالغيمة في سماء الله وكأنه بذلك يخلق عالياً مع النص القرآني· يعتقد ان أقدم المصاحف الباقية حتى الآن بعد حريق بعضها في الشرق أو تلفها في أقبية غير معتنى بها أو إتلاف المصاحف الأندلسية الأموية على أيدي الجيوش الأوروبية ولم يحتفظ أي منها في إسبانيا فإن أقدمها ما وصل إلينا ربما يعود إلى القرن الثامن الميلادي كانت منسوخة على الرق· ترى ذلك بوضوح في معرض ''فنون الإسلام'' فالقواسم الداخلية في نص القرآن الكريم محددة بواسطة الزخارف التجميلية وجرى غالباً تحديد الآيات بواسطة زهيريات في نهاياتها كما وتجد الأطر الزخرفية في أسماء السور· صفحات استهلالية مذهبة من مصحف العراق أو إيران حوالي 1000 ـ 1050 وصفحتان استهلاليتان مذهبتان أيضاً وهما من الجزء الثامن والعشرين نسخ لقطب محمد بن زنكي بن مودود حاكم سنجر ونصيبين 1198 ـ ،1219 ومن أذربيجان وصفحات تراها من مصحف ملك خاتون ابنه مؤسس السلالة الانجوية عام ،1357 أما ما يدهش حقاً فهي المصاحف المملوكية من القاهرة، وأخرى كتبت على يد روزبهان محمد الطبعي الشيرازي الملقب بـ''روزبهان المذهب'' من عام 1546 ومن تبريز في حوالي 1550 وأخرى في عهد طهماسب الأول 1576 في شيراز أو قزوين وهي قد نسخت على الأرجح اليه· أما الناسخ أحمد قره حصاري فقد ذهب ما كتبه من مصاحف مع ظلال جميلة للحروف كتبت بخط النسخ عام ·1560 ولو أبصرت ما خطه سيد محمد نوري عثماني في الصفحتين الخاتمتين من مصحف بمجلد واحد وهي من شومن بلغاريا عام 1850 وزخرفتها الرائعة لتملكك الاعجاب والدهشة· الأميرة زينة النساء أما الهند فله خطاطوه، منهم أمانت خان شيرازي الذي صمم كتابات تاج محل الهند والذي يسمى ''سراي أمانت خان'' والأميرة زينة النساء ابنة الامبراطور المغولي أورانجزيب في 1670 وللخط المغربي روعته وهو يمتزج بالطراز السوداني حيث تجد في معرض الخليلي هذا التعانق المدهش بينهما وهذا التوزيع الجميل على ضفاف الورقة والدوائر المحلقة فوق بعضها في كتل مدورة تأسر القلب·· أما الحواشي فمائلة باتجاه اليسار منحنية نحو الأسفل لتسد الفراغ الذي لم يعد فراغاً بل هو السماء حين تصفو زرقتها كذلك من شرق أفريقيا كلها جاءت لتحاور المبصر اليها وتمنحه جمالها في أبوظبي حيث الجدران واضاءتها لصفحات المصاحف تعطي الرواق الذي وللمنسوجات في المعرض لغتها·· غير ان أغرب بل أجمل ما يطالعك هو ذلك القميص الذي لم يخيط ابداً وقد صنع من القطن حيث يحمل آيات قرآنية مكتوبة بدقة وبصغر قل نظيره ضمن عشرات المربعات التي تتوسطه ترى فتحة مدورة هي مصنوعة كي يدخل فيها رأس المحارب حين ذهابه للقتال بينما يهبط من أسفل الرقبة شق حتى أسفل الصدر·· قطع أربع واحدة تنسرح على ظهر المحارب وأخرى تمتد مع صدوره وقطعتان تغطيان كتفيه كل ذلك يلبس اتقاء لطعنة الموت، التعويذة بالآيات القرآنية تلك لحظة ربما تملكت اماً أو زوجة أو اختاً في عهد السلطنة أو العصر المغولي المبكر·· جاء من الهند·· رقيق الحواسي·· عالي البصيرة والبصر· دقة الحرف وجمالية الصغة· للخيام مسكنها في الفن·· يقال ان للحاكم الايلخاني غازان خان 1295 ـ 1304 خيمة مصنوعة من القماش الذهبي وهي معقدة في تخطيطها إلى درجة انه استغرق شهراً كاملاً لنصبها، ويصف السفير الإسباني روي جونزاليس الذي زار بلاط تيمور في 1404 الخيام الضخمة ذات الجدران الحريرية كأنها أشبه بالقلاع في تصميمها ويعتقد ان ستائر فاخرة مصنوعة من الحرير المقصب قد شكلت جدران خيام الجيش العثماني أثناء حصاره لمدينة فيينا في ·1638 ويدهشك حقاً النسيج الحريري المغطي بكتابات تكرر اسم الجلالة ''الله'' لمئات المرات ومن المحتمل انه صنع في شمال افريقيا في القرن الثامن عشر· كذلك المعطف الصفوي المصنوع من المخمل المزين بقطع من القماش المقصب بالذهب والمصنوع في إيران إبان القرن السابع عشر· غطاء لسرير عروس عثماني والآتي من ابيروس في شمال اليونان والمصنوع في القرن السادس عشر أو القرن السابع عشر تبدو الزهيريات وتوزيعها المعقد الأنيق اكثر بهجة وهي تشع تحت الضياء الباهر لقاعة قصر الإمارات وللنسيج هذا مكون خاص يجمع السداة واللحمة· ومن عهد الشاه الصفوي طهماسب الأول ضم المعرض غلافاً خلفياً لمصحف شريف مع لسان من جلد مزخرف ومختوم مع تخريم وبالورق ترى احتشاد النقوش وأبهة الصناعة وحكمة الصانع· ومن عهد كريم خان زند وفتح علي شاه قاجار ايران كان هناك فن دخلته الزخرفية فبرع الفنان في تشكيلها· كذلك غلاف كتاب ''منطق الطير'' لفريد الدين العطار بنسخته المصنوعة في تركيا العثمانية عام 1550 كان فن ''اللك'' قد تجسد فيها واللك الاسلامي أو ما يسمى بـ''لك المجلد'' حيث يتم زخرفة الجلد بالرسوم الملونة تحت طبقة من الورنيش كذلك ترى الجلد المغربي الأخضر الغامق المزين بزخارف مرسومة مذهبة من زمن البلقان العثماني· وأخيراً فإننا نقول حين ابصرنا الأغلفة الجلدية للمصاحف الكريمة ان للزهور لغتها أيضاً وهي تنتشر فوق ضفاف المصاحف· معرض الخليلي·· إعجاز في الانتقاء وانبهار بالتاريخ وروعة جسدتها أنامل المسلمين الأوائل وهم ينقشون الجلد والورق والصدف بحروف كريمة وبصور مبهجة·· انه تاريخ يحكي عن تاريخ صورة تجسد صور حضارة اجتمعت واتت الى أبوظبي·· في معرض يحكي قصة ما تركه الأوائل واحتفوا به فضارعوا به الفن الأوروبي دقة وجمالاً وكلاماً سحرياً·
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©