الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

«قلعة موسى» حلم أبدعه «تلميذ» تحدياً لاستفزاز «أستاذه»

«قلعة موسى» حلم أبدعه «تلميذ» تحدياً لاستفزاز «أستاذه»
23 يونيو 2013 22:24
في كل مرة يريد المرء أن يكتب عن «قلعة موسى»، أو حلم موسى المعماري، يجد إضافات جديدة زينّت هذه القلعة المتربعة على كتف «وادي لامارتين» في بلدة دير القمر، والتي تقف قبالة قلعة شهابيي بيت الدين أو «قصر الشعب».. فهناك إضافات عمرانية، ملحقات، صالات فسيحة، وقاعات لـ «القعدة»، جميعها صممت وشيدت حجراً حجراً، وحفرت عليها النقوش الرومانسية والفنيقية والأشورية والمصرية، وحكم الفلاسفة والعظماء التي تحكي مجد الإنسان، وآماله وتطلعاته وعزيمته. (بيروت) - «قلعة موسى»، بدأ العمل بها موسى المعماري عام 1945م، وانتهى من بنائها عام 1997، ليتحقق حلم حطمه معلمه في الصغر. بناه من دون أي مساعدة، حجراً بحجر بيديه. وعند انتهائه، ضم في غرفه تراث وتاريخ لبنان عن طريق مجسمات تمثل حياة اللبنانيين في القرنين التاسع عشر والعشرين. بالإضافة إلى مجموعة من الأسلحة القديمة من العصر العثماني حتى الانتداب الفرنسي للبنان، وتعد هذه المجموعة من أكبر المجموعات في الشرق الأوسط، وتبلغ 16 ألف قطعة سلاح، حسبما يقول موسى المعماري، والذي أضاف: أكثر ما يلفت النظر عدا جمال وروعة الإبداع في بناء القلعة، هو النقوش والعبارات والحكم الموجودة على الأحجار، والتي امتزجت فيها تطلعات وطموح «البنّاء موسى»، الذي يتحدث عن نفسه الريفية المقهورة، وهي ترى الحلول الناجزة التي تستمطرها المجتمعات التقليدية، بدءاً من تشكلها الهرمي، على قاعدة صلاح الرعية من صلاح الراعي وليس العكس، فعلى واجهة القلعة كتب: «الراعي الصالح يبدّل نفسه عن الخراف»... «جاء الحق وزهق الباطل» ... «نعم، نعم ولا، وما زاد على ذلك فهو من الشرير»... «من جدّ وجد» «ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان»... «لا تؤجل عمل اليوم إلى الغد»... تحفة فنية وقد أحسن موسى المعماري اختيار ما يعبر أصدق تعبير عن تحفته الفنية الكبيرة، التي صاغها إلى أن أخذت شكلها الحالي المؤلّف من كتلتين، الأولى جعلها متحفاً، والثانية لتقديم الخدمات الفندقية لزوار قلعته. وقد نقش بيتين من الشعر، لعله أراد أن يعلقهما وساماً لما أنجزه: تطاول الفن حتى روّع القمر ورق تحت جمال النقشة الحجر الفضل للفن في بيت نؤرخه ورائد لفضل من يبني ويبتكر قصة «قلعة موسى» يرويها «المعماري» فيقول، أنها بدأت حينما كنت تلميذا في مدرسة «المتنبي»، حيث بدأت تساؤلاتي حول الفوارق الطبقية الواضحة بين مكنونات المجتمع، ذلك أن المجتمع الإقطاعي كان يمتلك قصوراً فخمة ومنازل كبيرة وكثيرة وأراضي شاسعة، بينما كنت أنا أبني قصوري وبناياتي في أحلام النوم.. وأيضاً في أحلام اليقظة. ويتابع «المعماري» :صادف في إحدى المرات أنني كنت أرسم قصراً على دفتري، بينما «أستاذي عرنوق» كان يشرح الدرس، فانتبه إلى انشغالي، فضربني يومها قائلاً لي: «هذا قصر أبيك»... فبقيت محاولة المدرس حلماً في خيالي حتى تحقق، بعدما اكتسبت حرفة بناء الحجر أو ما يسمى «المعمرجي»، حيث بدأت العمل بهذه الحرفة في صيدا أولاً، وتحديداً في قلعتها البحرية، ثم في قصر بيت الدين، وكان ذلك في عهد الرئيس الراحل بشارة الخوري، واستطعت أن أوفر من دخلي المال، اشتريت به الأرض، وبدأت المشروع بالمتبقي والبالغ ثمانية آلاف ليرة. وهكذا تابعت المشروع، وكنت أكمله من الربح العائد من السياح. حلم تحقق وحول العراقيل والمصاعب التي واجهها لتنفيذ بناء القلعة، وتحقيق حلمه، يسرد موسى بن عبدالكريم المعماري عن هواجسه الدفينة، ويؤكد أن لا شيء مستحيلاً تحت الشمس، فالوصول إلى الهدف ممكن، لكن ليس بالسهولة المتوقعة، وهذا يحتاج إلى الجلد والمثابرة والاستمرارية في العمل، وقد أردت من وراء بناء قلعة موسى، أن أجسّد حياة الناس بمعظم تفاصيلها، وعلى وجه الخصوص، حياة الريف والحركة، وأناس هذه الدنيا الفانية خصوصاً أبناء الطبقة الكادحة الذين يجوعون ليأكل غيرهم، ويتعرون ليلبس غيرهم، ويسهرون لينام غيرهم. ويضيف المعماري: في متحف القلعة وضعت مئة وخمسين شخصاً، منهم الحداد والنجار والفلاح، وأيضاً النساء العاملات اللواتي يشاركن في الإنتاج والعمل والخدمات المنزلية من طهي الطعام وتحضير «المونة»، وصناعة اللبن.. كل هؤلاء هم عصب الحياة وشرايينها. بالمقابل ابتعدت عن تجسيد الأشخاص الطفيليين الذين يعيشون على تعب الآخرين، فأنا لم أصور الأثرياء وطبقة النخبة، بل جسدت الحياة من خلال أركانها ومفاصلها، فتلك هي الجدة التي «تخض» اللبن وتجرش البرغل، وتدق اللحمة في الجرن، وذاك هو الحداد والنجار والخياط وصانع الأحذية. فالمجتمع الحالي تحول إلى النمط الاستهلاكي، وقد ترك معظم أبناء الشعب العمل في الأرض، وهذا ما أدى إلى يباس الزرع، فصرنا نلجأ إلى استيراد أغلب ما نحتاجه من الخارج.. والغاية من المتحف شد الزائر للعودة إلى العمل في الأرض وزراعتها واستثمارها بمختلف الوسائل من أجل ازدهار الوطن والمواطن معاً. قاعة جلوس عربية «قلعة موسى» تتألف من طابقين يطلان على الطريق الواصل بين مثلث بيت الدين ودير القمر، ويمر الزائر فوق جسر خشبي طوله نحو ثلاثة أمتار، يؤدي إلى بداية القلعة العملاقة، ينفتح في هذه البوابة، باب يعلوه قوسين من الخشب، يجعلان الزائر في حالة انحناء حتى يتمكن من الدخول إلى الطابق الأعلى الذي جعله المعماري متحفاً للحرف اليدوية، والنشاطات الحياتية في الريف اللبناني، إذ يشاهد الزائر مائة وخمسين شخصاً في حركة دائمة. أما الطابق الأرضي، فيدخله الزائر عبر سلم حجري يوصل إلى قاعة جلوس عربية تسمى «مضافة»، يشغل جدارها اليساري على ارتفاع مترين، خمسة مجسمات، تمثل موسى المعماري وزوجته وأبناءه الثلاثة. وينفتح الممر الحجري على غرف ملأى بالمقاعد الخشبية، يجلس عليها عدد من التلامذة في حالة استنكار لما يشاهدونه، من ضرب يقوم به المدرس «أنور عرنوق» على زميلهم موسى المعماري، وهذا المشهد يدل على الطرق التربوية الخاطئة والسلبية التي كانت تمارس أيام الانتداب الفرنسي، عندما كان موسى المعماري لا يزال على مقاعد الدراسة. معرض للصناعات اليدوية في الجهة المقابلة، ينفتح الباب على زنزانة تحوي مجسماً تعلوه الخوذة وثياب الجنود الرومان، وتمثل سجناً رومانياً، تخيله «المعماري» على هذا الشكل. وفي نهاية الممر الحجري نجد مغارة تحتوي على مئات المجسمات التي تمثل الكثير من الكائنات الحية، التي تتحرك تباعاً على سكة، ليتسنى للمشاهد والزائر رؤيتها خلال مرورها أمامه. وفي الطابق السفلي معرض للأدوات والصناعات اليدوية، وواجهتان بلوريتان تقع خلفهما أنواع البنادق والمسدسات القديمة، والتي يرجع تاريخ صناعتها إلى بدايات صناعة الأسلحة في العالم، حتى أربعينيات القرن العشرين. الأستاذ ينحني أمام إبداعات تلميذه لا ينسى «المعماري» أن يورد ملاحظة حول تصميم بناء القلعة أو القصر، حيث إن الأبواب كافة لا يزيد ارتفاعها كثيراً، وهذا الانخفاض مبرر، والسبب يعود لضرب الأستاذ له وتعنيفه، فأخذا هذا الأمر بعين الاعتبار، فجعل علو الأبواب على هذا الشكل حتى إذا ما دعا الأستاذ لزيارة القلعة، ليرى ما صنعته يدي «موسى المعماري»، فلن يكون باستطاعته إلا أن ينحني أمام إبداعات تلميذه. وللأسف فإن هذه الأمنية كما يقول لم تتحقق، بسبب وفاة الأستاذ قبل إكمال المشروع، وكلمة «ترسم القصور وأبوك طفران، «لا تزال محفورة في مخيلته، إلا أن عزاءه الوحيد الذي أرضى ذاته، هو عمله هذا الذي بات يقصده السياح من جهات الدنيا الأربع. أخيراً، يسرح «موسى المعماري» مع كلمات والدته التي كانت تخاطبه، وتقول له: الله يجعل التراب ذهباً بين يديك، أبق بمفردك مهما كلف الأمر، وستصل إلى غايتك».. وهذا ما وجده موسى، وحصل عليه، عندما بنى «قصر موسى» بيديه، تحقيقاً لحلم طفولته، فأصبح من أهم معالم لبنان السياحية.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©