السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
الأخبار العالمية

قصيدة النثر·· القصدية والوعي بالكتابة

30 مايو 2006
تحقيق - إبراهيم الملا ود ـ سلمان كاصد :
هل يمكن بعد حوالي نصف عقد من الزمان أن يعاد النظر والحديث والجدل حول شرعية قصيدة النثر، وعما ينتظرها في المستقبل من إبدالات في نسق وهيكلية البناء الخارجي أو المعماري، خصوصا وأن الخيانات الطاهرة التي مارسها رواد حركة التحديث في الشعر، ونتحدث هنا عن مجلة شعر ومؤسسيها الذين أطلقوا الارهاصات الأولى لهذه القصيدة وتحديداً 'أنسي الحاج' الذي تمرّد بخفة غير ملحوظة على التعاليم الأولى التي أسس لها في ديوانيه 'لن' والرأس المقطوع'، فكان ديوان ' الرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع' بيانا مضادا للتنظير الشعري الصارم الذي صاحب ولادات هذه القصيدة، وبيانا متحالفا مع النص العذري المسترسل والمتخلص من القيود الذهنية والمعيارية مثل ' التكثيف' و' القطع' و'الاختزال' و'تعمد الغرابة' و'قصدية الغموض وخرق التابوهات'و'المجانية'·
ولنفترض جدلاً ان قصيدة النثر منحدرة من صلب قصيدة التفعيلة الا أنها البناء الذي لا شكل له والذي لا يحيلنا الى إطار ينتمي اليه، وهذا لا يعني أن قصيدة النثر لا تحمل أثراً جمالياً بل إن لها جمالاً ذاتيا، خلقته هذه الذات لا غيرها·
وقد نسأل مالذي يصنعها اذا ؟ أهي الحبكة، أم هو الاختصار الذي يشع زمانا ومكانا ·
في هذا التحقيق نحاول أن نستشف آراء بعض الشعراء حول مستقبل قصيدة النثر العربية التي استطاعت أن تخلخل وتزلزل الصورة النمطية لفكرتي الهامش والمركز في تصديرات المكان والجغرافيا والتي تزحزحت من أماكنها الأولى في لبنان والعراق ومصر، وتوزعت ونمت بكثافة وجدّية وعمق في مناطق أخرى كانت محسوبة يوما ما على الهامش فأصبحت مراكز متحركة في أفق لم يعد يعترف بهذه التقسيمات التقليدية وما تحمله من تعسف وأحكام مطلقة·
قطعة نثرية جذابة
في الجزء الثاني والأخير من هذا التحقيق نتناول طروحات الشعراء حول مستقبل بناء قصيدة النثر إذ نجد للشاعر الدكتور علي جعفر العلاق رأياً آخر حول قصيدة النثر العربية هذه الأيام حيث يقول: تمثل قصيدة النثر منجزاً شعرياً بالغ الحيوية من جهة، ومثيراً للجدل من جهة أخرى، وهذه الحقيقة لم يشهدها شعرنا العربي وحده بل سبقتنا اليها آداب عالمية كالأدب الفرنسي مثلا· ولا يتردد احد في القول إن قصيدة النثر، أو ما ينضوي تحت هذه التسمية، يشكل معظم مشهدنا الشعري في هذه الحقبة، ولا يتردد المتأمل لهذا المشهد، أيضاً، في الإشارة الى أن هذه المساحة النثرية، في معظمها تقريبا، لا تمثل المنجز الحقيقي والمتألق لقصيدة النثر·
إن الكثيرمما يكتب أو ينشر أو يصدر من نثر تحـت هذه الخـيمـة الفضفاضة، الفارهة، والمضللة لا ينتمي الى قصيدة النثر بما هي كتابة خاصة تبحث عن شعريتها في اللا متوقع واللامألوف من عناصر الشعر· ولكن هل قصيدة النثر لا تعدو كونها قطعة نثرية جذابة ؟ وبمعنى آخر: هل كل نثر جميل، هو قصيدة نثر بالضرورة ؟ يسعى كتاب قصيدة النثر، حتما، الى إنجاز شعرية من نمط خاص، لكن هذه الشعرية لم تتوفر إلا في نصوص لقليلين من كتاب هذا النمط الشعري المثير للجدل، إن معظم المنظرين لقصيدة النثر لا نخرج من كتاباتهم إلا بالقليل من الفائدة: كلام بالغ الفتنة، لكنه بالغ الغموض أيضاً· هل لقصيدة النثر بنية ؟ هل لها قانون ؟ وإذا كان الجواب بالايجاب، فماهما ؟ أعني ما هذه البنية وما ذلك القانون؟ هل يمكن الحديث عنهما بلغة قابلة للفحص أوالتأمل ؟
إن قصيدة النثر، في مشهدنا الشعري الآن تكاد أن تنزلق خارج الأطر جميعاً حتى بدت، لدى البعض، شعراً يتحدد بالسلب لا الايجاب، وبالغياب لا الحضور، إنها في عرف هذا البعض، قصيدة الفوضى، أو هي كما يرى بول شاؤول: كالهواء تحسها ولا تقبض عليها ويكفي للشاعر، كما يقول بول شاؤول أيضا، أن يقصد ويعي أنه يكتب قصيدة منفلتة من الأوزان والتفعيلات والبنى الجاهزة كي يكون ما يكتبه قصيـدة نثـر·
جميل من شاعر النثر أن يتسلح بالقصدية والوعي، لكن ما يقوله واقعنا الشعري هو شيء آخر تماما: وكأننا ازاء شعر غريب: شعر الافتقار والتعالي، الافتقار الى اللغة وقد أخذ شكل التعالي عليها، والجهل بالتقنيات بحجة الزهد بها أو الاعراض عنها· وبذلك صار الكثير مما يكتب من نثر، يحظى باسم قصيدة النثر، ويحسب عليها، وإذا بهذا الشكل الشعري يكتسب شرعيته، وشرعيته لدى بعض الشعراء، من جهلهم بالوزن لا إهمالهم له، ومن افتقارهم الى الإحساس الفائق باللغة، لا من رغبتهم في أن تقول هذه اللغة ما لم تتعود على قوله· كثيرة هي المعارك التي خاضها شعراء قصيدة النثر ونقادها، وكان معظم هذه المعارك بحثا عن اسم، أو شرعية لهذا الكائن الشعري الممعن في شراسته، لم ينشغل شعراء النثر، أو الكثيرون منهم على الأقل، بإنجاز مشروعهم الخاص، أعني قصيدتهم التي تندلع من تراب النثر متأججة، هائجة، وعميقة قدر انشغالهم بهذه المعارك· كانت سوزان برنار تشكو من واقع هذا النمط الشعري في فرنسا قائلة: ليس هناك اليوم ما هو أصعب من أن يكون المرء شاعراً أصيلاً في قصيدة النثر· ان مؤتمر قصيدة النثر في بيروت، الأيام الماضية، فرصة كي نراجع فيها ما انجزته هذه القصيدة وما أخفقت في انجازه، وفرصة للدفاع عن هذا الأفق الشعري المثير لا بروح الشلليات، اوالأحزاب، أو المافيات، بل بروح الحرص على صلابته ونقائه، والوقوف أمام هذا الاستسهال المهلك في الكثير من النماذج المحسوبة عليه، وهذه العشوائية المزرية التي تضرب أطنابها في كل مكان من مشهدنا الشعري الصاخب·
الخضوع للتطور
الا اننا نجد رأياً مختلفاً للشاعرعلي كنعان في قوله' كل شيء في الحياة وتجلياتها الإبداعية خاضع للتطور، وليس الشعر استثناءً عن هذه القاعدة·
ولقد أثارت قصيدة النثر، طوال النصف الأخير من القرن الماضي، من المجادلات أضعاف ما أثارته قصيدة التفعيلة، لكن تلك المعارك لم تكن تستند في معظمها، إلا إلى رغبة المتجادلين بإثارة العجاج وتعمية المشهد الشعري بعيداً عن قضايا الإبداع الهامة، ليس مهماً أن تكتب بهذه الطريقة أو تلك، الأهم أن تكتب شعراً جميلاً معبراً عن تجربة إنسانية صادقة، والأهم أن تضيء شمعة في الظلام·
بحور الشعر المتوارثة تعبر بصدق عن إيقاع الحياة القديمة، فالبحر الطويل يكاد يكون صورة موسيقية موازية لسير الإبل، بينما نرى البسيط يتسق مع سير الخيل، ويمكن أن نوازن بين إيقاع البحور الأخرى وأحوال الحزن والفرح والحماسة·· إلى آخر مظاهر الحياة في الريف والبادية·
لكن إيقاع الحياة تغير في الثلث الأخير من القرن العشرين تغيراً جذرياً عاصفاً، ولقد جرى تدمير كل شيء معهود في حياتنا حتى القيم والأخلاق، فلماذا لا يتغير إيقاع الشعر كذلك ؟ إنني أحب قصيدة النثر، وإن لم أحاول كتابتها·· لأني مسكون بإيقاع التفعيلة ولا أملك أن أخرج من جلدي أو أزور نبرة صوتي وأغير لون عيني وخفقة الفؤاد· وربما كان مأخذي الكبير على ما ليس شعراً ولا نثراً، في معايير الإبداع الفنية والجمالية، ومع ذلك فإن 'كتبته' يسمونه شعراً منثوراً، وهي تسمية جائرة· لا يمكن فصل قصيدة النثر عن تراثنا الشعري، قديمه وحديثه، وكذلك التراث العالمي·
إن نثر الحياة المعاصرة، وإيقاع الشارع الذي استعاض به الشعراء الشباب عن منابر الخطابة وصالونات الأدب القديم، هما الحامل الذي يضع قصيدة النثر في صدارة المشهد الشعري بلا منافس·
نسف القيود
ويقول الشاعر 'هاشم المعلم' :
'علينا أن نتيقن، بأن قصيدة النثر ولدت لتحاكي وبشكل مباشر المستقبل، إنها هنا كي تشرع لنا آفاق ونوافذ ذائقتنا بما تملكه من إمكانات معرفية وأخيلة شاسعة خارج أطر الهيكلية التقليدية للقصيدة، لقد نسفت القصيدة الجديدة كل القيود الذهنية والأسيجة البصرية، إنها تمثل محيطا كبيرا ومتماوجا بالاحتمالات والخيارات الجمالية، بدءاً من المكتسبات البصرية وليس انتهاءً بمشهدية البناء القصصي والحكائي، لا تمثل قصيدة النثر مجموعة تراكمات لغوية وحشو متوالد على البياض بقصد اللمعان والإبهار كما يعتقد البعض، إنها قصيدة متجاوزة لمخيلة القارئ التقليدي، وهي فضاء متعدد العوالم، هناك جغرافية ذهنية ومناخات حسية في هذه القصيدة لا يمكن أن تتوفر لأي منجز إبداعي آخر، قصيدة النثر هي إبحار في ذات الإنسان المتعطشة والمتوغلة في شرايين الحياة الحقيقية والمتوارية خلف متاريس وثقل الماضي، هي إبحار في اللغة باعتبار اللغة قصيدة أخرى، ثم علينا أن نعترف ضمنيا أن معظم الأجناس الأدبية بدأت تتعاطى الشعر، ولها قنوات اتصال مباشرة وعلاقات وطيدة مع قصيدة النثر، يظهر ذلك جليا فيما تقدمه السينما الشعرية مثلا،
وامتد هذا التأثير على المدارس التشكيلية الجديدة التي تواطأت مع حركة وسكون اللون كمرادفة بصرية لغوية، لقد عززت القصيدة قدرتنا على ترجمة اللوحة والانتباه لكثافتها الحسية والتركيبية، ناهيك عن ترسيخها لعلاقتنا الحميمة مع الأشياء وإعلاء الشأن الروحي والتخيلي عند مرورنا بالشارع والرصيف والمقاعد على سبيل المثال اليومي لحركتنا في الحياة، أليس هذا هو المستقبل الذي يلوح لنا كشخص يشاركنا فنجان قهوة ساخنة في صباحات غامضة ؟!
القصيدة الوحشية
أما الشاعر أحمد عبيد المطروشي يرى: أن القصيدة القادمة والمتجاوزة لقصيدة النثر ستكون هي القصيدة الوحشية، لأنها ستعمل ضد المنظومات الشرسة والمتحركة بعنف تجاه تشويه إنسانية الإنسان وهدر كرامته الممنوحة له كهبة طبيعية وفطرية من الوجود الحر والمنزوع من المكر والدهاء ولعبة المصالح السياسية والاقتصادية، يستبق الشاعر الجميع بإحساسه اليقظ تجاه العيون اللامعة وسط الخراب، هذا الخراب الذي ظهرت بوادره المروعة في الأيام الحاضرة، الخراب الذي يهيمن بلونه الداكن على الأفق المرتعش للمستقبل، ما ينتظرنا في قادم الأيام سيكون على وعد فادح مع عالم مروّع وعاشق للدماء والحروب، وملئ بغريزة الانقضاض على المباهج الروحية النادرة للشعراء والفنانين·ستذهب قصيدة المستقبل دون شك نحو النص المفتوح على كل الجهات والجبهات، نص مضاد ونبوئي ومتشكل من قطيعته مع كل الأشكال الأخرى، نص ممتلئ بالسم كما هو ممتلئ بإكسير الخلود، نص مخترق للجدران الصماء والعالية والمتشابهة حد الإلغاء المقصود لكل ما هو فاتن وفردي وأسطوري، سيكون نص المستقبل محلقا فوق سهوب الألغام، ومنصات الذهب الأسود المنهوب، والممتد بلعنته حتى الصرخة الأخيرة لجنود الموت وضحايا العبث·
المصدر: 0
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©