الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

تاريخ وطن.. وتحولات مدينة

تاريخ وطن.. وتحولات مدينة
16 يناير 2013 19:50
تدخل رواية «أفراس الأعوام» للروائي العراقي زيد الشهيد، الفائزة بالجائزة الأولى في مسابقة دار الشؤون الثقافية في بغداد عام 2011، والصادرة عن دار تموز في دمشق في 2012 ضمن الرواية التاريخية كونها تروى بسرد يتداخل فيه الزمن والتاريخ في العراق، بالتشابك مع الوقائع العينية للحياة اليومية، ونمط العلاقات المتعالية للفئات العليا في السلم الاجتماعي، وكذلك تكشف مجريات الحياة والمصائر الفاجعة لناس القاع، وهي تحاول الإفلات من تلك «اللعنة» الاجتماعية الأزلية من خلال أحلامها بحياة آدمية لائقة بالبشر، بالترافق مع عملها المنظم عملياً وفكرياً على كل جديد من أفكار ورؤى وممارسات تجعل الحياة، تتسم بالعدل الاجتماعي- الإنساني دون تمييز. يتناول الروائي زيد الشهيد في «أفراس الأعوام» كل ما مر بالإنسان العراقي من المرارات والعذابات وبعض المسرات، النادرة جداً، في مرحلة تكون تاريخه الحديث، الذي هو عملياً النتاج الفعلي للتصور «الكولونيالي» للبلدان التي تعتبر من مخلفات إرث «السلطنة العثمانية»، فيما بعد الحرب العالمية الأولى، وتسجل وقائع الحياة اليومية بعد أكثر من ثلاثة قرون ونصف القرن في حكم العراق من قبل «السلطنة» والتي حاولت أن تُحرم حتى النطق باللغة العربية، مع أنها لغة القرآن الكريم، وعدتها جريمة تستحق العقاب، تلك القرون، المشبعة بالمهانة والإذلال وتحول سكان «أرض السواد» و»الفراتين» إلى أفقر ناس (العالم) عبر المذلة لهم وتراثهم الحضاري. الأحداث العاصفة وتسرد أفراس الأعوام، في لغة روائية دقيقة، الأحداث العاصفة التي مر بها العراق قبل ومع دخول القوات البريطانية مدنه، والمواجهات العسكرية معها وصولاً إلى انكفائها منكسرة، مع تشبثها النفعي وتأسيس الحكم الملكي، وما رافقه من خذلان متواصلٍ لأماني العراقيين والانتهاكات ضدهم والتنكر لأبسط مبادئ العدل الإنساني التي أقرها دستور ذلك العهد، وتتخذ «أفراس الأعوام» العراق وتاريخه كاملاً وما جرى فيه وله من أحداث عاصفة - دموية، خلال أكثر من نصف قرن، مادة للسرد، وكذلك مدينة السماوة جنوب العراق، والتي رغم انقسامها بين ولاء متشدد للشيخين «فارض العلوان» و «جابر الدخيل» وعشيرتيهما، لكنهما وأتباعهما يتوحدان أمام الخطر الجاثم بالقرب من أسوارها تمهيداً لاجتياحها من قبل القرى المجاورة، والذين يتصرفون بدافع المجانية والتشدد والاستحواذ على الغنائم، مهما تنوعت، بعد أن قذفتهم سنوات الجفاف والقيظ، المنكفئة خارج مدن الماء وحضاراتها، عبر توجهاتهم الفكرية المتشددة والمملوءة بالزيف وتزيين الموت لأتبعاها لاستباحة مدينة السماوة والتي تشكل تحولاتها، نموذجاً للعراق القادم من ظلام السلطنة وانتهاكاتها. استنطاق التاريخ وإذ تسعى «أفراس الأعوام» لاستنطاق التاريخ وصيرورته في العراق عموماً، ومدينة السماوة خصوصاً، فإن هذا ليس المعنى الوحيد لأحداثها ومصائر شخصياتها، بل هو جانب في نوع من هذه الراويات التي تستخدم مادة تاريخية ما، وتؤسس عليها سردياً، فالرواية التاريخية «ليس معناها العميق الحدوث في الزمن الماضي فهي تستحضر ميلاد الأوضاع الجديدة. وتصور بدايات ومسارات قوة دافعة في مصير لم يتشكل بعد، وهي عمل يقوم على توترات داخلية في تجارب الشخصيات تمثيلاً لنوع من السلوك والشعور الإنساني في ارتباطهما المتبادل بالحياة الاجتماعية والفردية، كما تمثل بالضرورة تعقيداً وتنوعاً في الخبرة والتجربة لدى الروائي. وتختلف أيضاً عن ذلك النوع من الروايات الاجتماعية التي تتطلب استقراراً، فلكي «تصنع» تلك الروايات «شريحة» من الحياة يجب أن يكون الواقع مستقراً هادئاً تحت مبضع الروائي، ولكن الرواية التاريخية لا تأخذ مجتمعها كقضية قارّة، هادئاً راسخاً تحت عدستها، إنها تدرس تدرجاته وتعدد ألوانه، فهي تواجه مجتمعاً بعيداً عن الثبات والرسوخ، وينتقل الاهتمام بدلاً من التدرجات وتعدد الألوان إلى مصير المجتمع نفسه». (ويكيبيديا، الموسوعة الحرة، بتصرف). قوى متعددة ينفتح المشهد الروائي في بداية «أفراس الأعوام» على «جعفر حسن درجال» وهو في الستين من عمره، ويرى ما يحدث أمامه، ضحى يوم الثامن من آب عام 1959 من» هرج ومرج، وفوضى لا تُطاق في محاولة الفوز بكرسي أو منضدة أو مزهرية أو شمعة تعليق الملابس أو ستارة نافذة أو مروحة سقفية أو منضدية» (ص7) تلك الأشياء وغيرها التي تقرر نهبها، «حلالاً مباحاً شرعاً» من مقر جماعة ما في المدينة، حيث انتظر وتربص من يرون فيه تهديماً وتفتيتاً للمجتمع لحظة الانقضاض عليه وتهديمه بشراسة مكتومة، وآن لها أن تتفجر من قبل قوى متعددة ولا يوحدها غير العدوانية تجاهه، مع تقاطع مصالحها وأفكارها وانتماءاتها ودوافعها بعد ما تشمموا رائحة انفضاض الحكومة عنه وحَظر نشاطه. عندها يوقن (جعفر حسن درجال) بأعوامه الستين أن ما يحدث أمامه من وقائع ما هو إلا إعادة بالتفاصيل ذاتها ليوم الخامس من تموز، ذلك اليوم «الفضي الداكن» في حياة مدينته عام 1917. عندما شاهد الكثير من الناس يغيرون على مباني الحكومة ومخازن الغذاء ودور الموظفين كي يستبيحوها في مدينته التي باتت القوات انجليزية قريبة منها، وأحدث دخولها نِعَماً على من انتهز الفرصة واغتنى من خلال الفوضى العامّة التي اجتاحت المدينة، إذ بدأ «الرصاص يلعلع طوال الصباح حتى ما بعد الظهيرة والمساء». حوارات علنية تلك الاستباحة التي شملت كل شيء في المدينة و تجاهلتها القوات القادمة لطرد بقايا حكام السلطنة، وكان همها المحافظة على سلامتها أولاً. تبدأ تحولات مدينة السماوة بطيئة غير منسجمة مع رغبة ومخططات الحكام الجدد، لكن الحال يتغير مع جديد دخل حياة الناس فيها؛ ماء صافٍ، أعمدة خشبية للكهرباء في الشوارع، مستشفى للمرضى، صحف جديدة متعددة قادمة من العاصمة، حوارات علنية في المقاهي حولها وكتاباتها دون خوف أوخشية، راديوات في المقاهي العامة، تنقل أخبار العالم البعيد عن مدينة متاخمة للصحراء، وتشتعل عبر أغانيها أرواح شبابها الغضة، «تياترو» بشرط عدم تدخل عاملاته في شؤون الزبائن ونسج علاقات مشبوهة سرية وخاصة معهم، محلات لبيع الذهب، وأخرى لتجارة أنواع البضائع الجديدة الوافدة عبر البحار، مع اختلافات دياناتهم وأعراقهم مع بُعدَ مدنهم التي انحدروا منها للحياة والعمل في السماوة التي استوطنوها دون اعتراض ما وباتوا جزءاً فاعلاً في نسيجها الاجتماعي. كل هذا وغيره أحدث تغييرات في الحياة اليومية لمدينة مشارف الصحراء الجنوبية، رغم الاصطفاف العشائري، السري أولاً، مع الوافدين الجدد للمدينة، ثم تحول في الولاءات للمنفعة والتحكم. يشمل التغيير قبل هذه الأحداث «جعفر حسن درجال» الشاب الذي يشارك والده في بيع الأقمشة ويُخطف بدخول أسرة حاكم المدينة، للتبضع، وتعلقه بابنته الشابة «وهيبة» التي «قرأ في عينيها بوحاً غريباً» تجاهه بعد «أن رأى في عينيها السارقتين لعيني (مَها) بوحاً كأنها تبغي بث شيء يشبه الإعجاب أو التمني» (ص 52). فاعلية التمرد عندها يقرر «جعفر» بروحه المتوثبة التخلي عن الزي التقليدي لسكان المدينة مقتنعاً بإرادته الحرة وبفاعلية التمرد على القيود، والرغبة في التحليق فوقها، وحريته التي لا نزاع عليها، فعمد لارتداء أزياء «حَضرية» ولم يعبأ جعفر، بأي اعتراض ما أو رفض حتى أسرته، وهو الرامز للقوى الواثبة التي تسعى لتغيير نمط السلوك الحياتي، لسكان مدينة تطوقها الصحراء، وينعشها الفرات الذي يشطرها إلى نصفين، ولا يفرق بين شبابها وعوائلها مذهب ما، فتمتد علاقات جعفر نحو الشاب اليهودي «الياس» الذي يكتشف في جعفر موهبة الرسم ويعمل على تنميتها وتشجيعه على استثمار وقته في الرسم، ويتمنى عليه السفر نحو عوالم بعيدة تفتح الموهبة وتطورها، كما تنعش روحه «وهيبة» مع خلسة اللقاء السري على جرف نهر الفرات عصراً بعيداً عن الخوف وانكشاف الأسرار، عبر كل ما يدعو للألفة والفرح والحب بروح الشابين تجاوزاً على المركز الاجتماعي والمكون الطائفي. روح التجدد يشكل جعفر في السرد الروائي القوى الجديدة الناهضة التي تحمل في توجهاتها روح التجدد مع معاناتها إنسانياً وخيبتها من الناحية الوجدانية، والتي تبقى ترافقه دائماً، ويغدو عضواً مع جماعة «متحررة» ويحضر اجتماعاتها في بغداد ويحاول نقل روح التمرد لسكان مدينته، لكن الإجراءات التعسفية الحكومية ضد قناعات الناس، تُشعل الهيجانات فيها وتجابهها السلطات بقسوة وفظاظة وتقود قادتهم للحكم بالإعدام، ومنهم جعفر وخلال تغييرات في توازن القوى يفرج عنهم، ومع بزوغ قوى اجتماعية أخرى تحاول التبشير في زرع مبادئ العدالة - الإنسانية وتمتين روح الانسجام في مجتمع متعدد الانتماءات والمكونات مع التأكيد على احترام القناعات الخاصة سلمياً. في «أفراس الأعوام» ثمة تحولات جوهرية في الحياة العراقية، وسرد مرن في تفاصيل منسية مهملة في تحولات مدينة السماوة وتاريخ العراق بأمانة، ونثر ملون عبر استخدام اللغة والحوار وموحياتهما بمسؤولية الصانع المتمكن من أدواته ورؤاه التي يوظف فيها الحدث التاريخي ليس بصفة التكرار، بل الاحتفاظ بواقعيته وبانسيابيته التي لا تواجهها أو تعرقلها اللغة المصطنعة. وكان المؤلف، الراوي العليم، بمثابة «طيف» في تنقلاته السردية والحوارية المفعمة بالتلون في الانتقال المرن بين التاريخ ووقائعه الوثائقية التي لم تثقل النص الروائي، بل كانت بمثابة الكوة المنفتحة لتبيان ما يراد السكوت عنه راهناً بفعل هيمنة «التابو الطائفي» الذي يرفع الخرافات لمستوى «اليقينيات» السردية التاريخية الكبرى التي تصل وتتجاوز، عبر الغلو والاستئثار، حدود «المقدس» مع أن تاريخ المجتمع العراقي يكشف أن لا أساس لها يعتد به في الوجدان الشعبي للعراقيين. العوالم الروائية ليس وارداً تلخيص كل العوالم الروائية المتعددة لـ «أفراس أعوام» الروائي زيد الشهيد التي تقع في (349) صفحة من القطع المتوسط وتتألف من فصلين يبدأ أولهما بما قاله (نيكوس كانتزاكي): «الخطباء الذين يكلمونكم عن الحب، والساسة الذين يخرقون آذانكم بالحديث عن الوطن والشرف والعدالة، كلهم يثيرون الغثيان». ويتألف من (8) وحدات سردية في (114) صفحة، والفصل الثاني يتكون من (10) وحدات سردية في (233) صفحة متلازمة ولا انفصال بين مكونات الفصلين الأول والثاني، كون المكونات النوعية والتاريخية المشكلة لعالم الرواية متشابهة مع الراهن العراقي وبعض ملامحه ومكوناته الماضية. و(أفراس الأعوام) إذ تتناول في ثيمتها وتفاصيلها جزءاً من التاريخ العراقي ونسيجه المتعدد فإنها تنهج «لاستخلاص فردية الشخصيات من الطابع التاريخي الخاص لعصرهم، وتضعهم في زمان ومكان محددين مع تبيان ملامح الصراع الماثلة في عوالمهم بواقعية نفاذة ملموسة في الأشخاص والأحداث. لإبراز ضرورة تحويل وضع المجتمع غير المعقول» «م. ن. بتصرف». الروائي زيد الشهيد يضع تاريخ العراق سردياً تحت المجهر بواقعية راهنة متعددة الخطاب السردي الفني، ويُوظف الوثيقة، الدقيقة، تاريخياً عن القوى الناهضة اجتماعياً وما دفعته من أثمان مأساوية، واستثمار الأحداث والأقوال المنقولة شفاهاً، عبر الرواة، بأمانة، متتبعاً بإمكاناته السردية وخصوصيتها النثرية - الفنية، قناعات «فلوبير» الذي يرى: «أن نثراً لا يستجيب لإيقاع الرئة البشرية لا يستحق ذرة من الاهتمام».
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©