الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

سرديات المألوف وشعرية الكامن

سرديات المألوف وشعرية الكامن
16 يناير 2013 19:50
يثير ديوان الشاعر محمد حسن أحمد «زحام لا أحد فيه» سؤالاً صاغته المفارقة المتكونة من التضاد بين المألوف/ الموضوعي/ المعروف الدال على الكثرة والتضاد اللاحق المكون من «لا أحد»، وأعتقد أن هذا السؤال يبحث عن جواب غير ظاهر، إنه المعنى الذي يمثل فيضاً من الشعرية في الكتابة الجديدة. في العنوان «زحام لا أحد فيه» مفارقة، لكن الشعرية آتية من محيط غير محيط المفارقة، وهي ـ الشعرية ـ متخفية، متكتم عليها باللعب الظاهر في العنونة، وسرية أيضاً. كل هذه من خاصيات الكتابة الجديدة، وليس سهلاً وممكناً إدراكها أو الإمساك بذيول لها؛ لأن الشعرية مكتملة وغير قابلة للتفتيت، أو كشط طبقات منها، إنها صلدة بطاقة الدلالي الكامن فيها. و»زحام لا أحد فيه» يفضي نحو كشوف نفسية صادقة، وهزات وجدانية عنيفة، بسبب غياب متوقع/ مرتقب: لن تعود لتصطدم/ بالمارة وتزور الدكتور / وتتناول زجاجة الدواء، كنشيد منتصب/ هي الحقيقة التي خرست أحلامها وأخذتنا على/ جنب/ لنفهم بأن الصمت عكس الرعب/ أي حمامة تلك/ التي طارت وظيفة هذا النص للتدليل على الآتي/ وتحقق الفجيعة وليس لشعرية فيه؛ لأن السرد متسع والانزياح ضامر، واكتفى بالمعلومة، والإخبار، والإعلان عن غياب سيكون . وثلم ـ بعد وقوعه ـ الذاكرة الجمعية ثقافياً وحضر ممثلوها الذين ابتكروا السرديات الواصفة لمشتركات بين الغائب وجماعة الحضور التي تفتت اللا أحد، وتتحول في الشعر الراسب بالأعماق إلى أحد ووجود، حيث تفترض القراءة اقتراحاً بوجود الجماعة، الكثرة التي لولاها لما كان الزحام. بالإضافة إلى أن المروي عنه «جمعة الفيروز» وحده زحام. وربما يعني الشاعر وجود الغائب وحده، وهذا من استعمالات القراءة. الواحد/ الفرد وحده يؤسس زحاماً من نوع مغاير ومفترض. وغيابه رمزي، كشط مرة ثانية تكتل الزحام. «زحام» مهيمنة في العنونة، هي التي شكلت ابتداء المعنى، وهو العالق بذهن القارئ بقوة. بالإضافة لتأثيرات الفاعل الصوتي الذي أسسته ملفوظات الزاي/ الحاء/ الميم وعندما يستمر القارئ لاستكمال فاتحة النص كلها «لا أحد» يفاجأ بمفارقة متكونة من تفكيك المألوف/ المعيش/ والموضوعي تخيلياً، لتحقيق دلالة معكوسة وهذا مثلما هو معروف من طاقات الشعر وإمكاناته. قصيدة النثر الشاعر محمد حسن احمد مولع بالعناصر الفنية المعروفة والمألوفة لقصيدة النثر، والتي ظلت مستمرة كآلية متعارف عليها بين أنصار الكتابة الجديدة، وأهم هذه العناصر هي اليومي/ المعيش والمألوف والذي يبدو أحياناً من كثرة المألوفية وشيوعها تقليدياً. بالإضافة للإيجاز والتركيز والمفارقة، هذه البنائيات النصية الضرورية التي اتفق عليها كل من درس الكتابة الجديدة ـ تحولت إلى ثبات فني بعيداً عن أي إضافة من أجل تطوير هذه التجربة، من خلال وفرة الوعي الشعري لكل من زاول هذه الكتابة، أو على الأقل. من تميز في هذه التجربة، في تقديم كشوف، تجعل من الخصائص توجهات جديدة، قادرة على كسر الثابت/ الرتيب والنمطي، لتحقيق الغرابة والدهشة والجدة. دائماً ما تخترق المألوف بالكشط والتغاير الذي قالت به سوزان برنار: «ترتكز قصيدة النثر في شكلها وفي مضمونها على اتحاد المتناقضات: نثر وشعر، حرية وصراحة، فوضى مدمرة وفن منظم، ومن هنا ينبع تناقضها الداخلي، ومن هنا تتأتى تناقضاتها العميقة والخطيرة والمثمرة، ومن هنا يبرز توترها الدائم وديناميكيتها (ميشيل ساندرا، قراءة في قصيدة النثر، ت : د. زهير مغامس، دار المأمون، بغداد، 2012، ص22) ويكاد يكون السرد في نصوص الشاعر محمد حسن أحمد حاضراً والاستعارات التي اعتبرها باكوبسن عنصراً مهماً غائبة باستثناء القليل: تكلم عن كلبه/ عن عشيقته/ ولكي يكتفي/ راود نفسه *** خذي سيرتي الذاتية/ رتبي منفضتي وسعال الأمس قولي للحكومة / سيدفع كل الفواتير/ ولن يغازل أي امرأة. في هذين النصين غياب كل ما اقترحته سوزان برنار، لكن هذا لا يشكل قاعدة؛ لأني أعتقد أن تجربة محمد حسن أحمد فيها اختلاف عن غيرها من التجارب الكتابية الجديدة، وأظن أن هذا أمر ضروري لكل التجارب الحقيقية، حتى لا تبدو نمطية أو منسوخة. ولا بد من وجود التضاد المؤسس على التناقض العميق وليس الطافي فوق السطح. أشارت سوزان برنار إلى وجود تناقضين في الكتابة الجديدة، أحداهما التناقض الداخلي، والثاني هو العميق والخطر والمثمر، كل هذه بحراكها الصامت/ الهادئ تنتج التوتر في النص. وأشار ريفاتير بعد اطلاعه على نصوص لكل من ايلوار ورامبو، وقال إنها تبدو متولدة انطلاقاً من تناقض يكفل لها ـ إن صح القول ـ مساراً مزدوجاً. يفضي هذا الازدواج نحو تعدد القراءة وتباينها، الاختلاف/ التماثل، كل ما يمكن أن يؤسسه التناقض. في بعض نصوص محمد حسن أحمد إيقاع خفي تنتجه السياقات النصية وتتضح أكثر في النصوص السردية الطويلة المشتغلة على استعارات السرد أكثر مما على المفارقة التي لها حضور أيضاً. وأعتقد أن الشاعر في النصوص الطويلة معني بالإيقاع المفاجئ لنا، مثل هبة نسيم، هادئة، مرنة، تمر ولا تلتفت لنا، بل تستدعينا للتأمل المرن، نصوصه السردية حساسة فيها منبهات عميقة، خاطفة، تفلت مراراً منا: «على هذا الزحام أن يسكننا طالما أنه كذلك يراوح في المكان ليعود بالمتع الصغيرة. انه المضي في بوارق الاشتباك الذي يرفض أقبية الخفاء والترجل، انه الداخل إلى مدن الصمت دون تجرؤ يختار العبث والعصيان حين يشتد وتفغر أفواه المنتمين إليه بالنكات المستعصية». نصوص يومية موضوعات النصوص يومية، معيشة وذاتية، والأنا هي الأكثر جذباً للمتلقي، وتحفيزاً له. للنصوص عن الغائب من الذات بزي الآخر المعيش، وهذه واحدة من آليات الشاعر في إخفاء الأنا. الانزياح روح نص مرثية جمعة الفيروز (صراخك في حجرة الشارع) والحزن وسيط الشاعر والمتلقي للاقتراب من الغياب/ حضور وسط مكان مختلف عن حجرة الشارع، انه القبر الذي سكنه جمعة الفيروز، ومحمد في نص النهاية. ولدى الشاعر مخاوف وقلق من فقدان المكان لحظة الموت، إنه المكان المنتج لذاكرة الكائن وسردياته، إنه رأس الخيمة المظلل للغائب والمانح له حياة وانبعاثاً جديداً وتبدّى اهتمام الشاعر بمكانه مراراً: لم نقل بأننا سنأتيك غداً / ولسنا كما يفعلون أنها رأس الخيمة ضمنت فيها قبرك/ من أين لنا بالبكاء/ أنت شاعر المكان نحن الممزقون منك يومئ النص إلى فوز جمعة الفيروز؛ لأنه ضمن مكاناً لقبره في رأس الخيمة والصلة واضحة بين المروي عنه باعتباره شاعراً للمكان والفضاء الأوسع، رأس الخيمة، وكأنه حقق حلماً بوجوده، بقبر احتضنه في رأس الخيمة. الخسارة الانطولوجية لا تساوي شيئاً أمام وجوده في فضائه الوطني، الذي منحه حضوراً ووجوداً على الرغم من الغياب الفيزيائي. وصفت العنونة المكتوب عنه اجتماعياً وأكثر من كائن واحد/ فرد، بل هو أكثر من ذلك، وكأنه كيان اجتماعي/ جماعة، لم تختبر لها مكاناً غير الشارع، ولها فيه حجرة، لا ندري هل هي صغيرة، أم كبيرة؟ الذي نعرفه عنه، بأنه كثير الصراخ من ألم أم من عطل؟ هل يريد الإفلات من العذاب الذي يبدو دائماً طويلاً ، حتى وان كان قصيراً. فالألم/ العذاب صعب وموجع/ لأن الكائن بطبيعته محكوم بالحركة، التي تعطلت. تحكم بها الغياب، وربما كان صراخه تخيلي، وهو يطل على الشارع، ليقترح الذهاب والإياب، الحركة والتبادل وقبول الاتصال الرمزي بديلاً لتواصله الاجتماعي والثقافي، عندما كان حاضراً. وكما قال الشاعر اليوناني يانيس رينوس: ما قبل الموت يحيا حتى يموت. تفاصيل شخصية يحيل نص «صراخك في حجرة الشارع» مع الإهداء إلى تفاصيل شخصية، واجتماعية، تقدم توصيفاً موضوعياً وتخيلياً للمرئي: لن تعود لتصطدم بالمارة وتزور الدكتور وتتناول زجاجة الدواء كنشيد منتصب هي الحقيقة التي خرست أحلامها وأخذتنا على جنب الغياب في النص ضمني، لأن الشاعر لا يريد تصديق ما حصل : جمعة الفيروز/ كما لو انه غادرنا/ رمى بمعطف التخمين. الوطن الصغير تمثيل مكتمل للعالم، رأس الخيمة سرديات الجماعة المتنوعة وتفاصيل هوياتها وأفضى بوطنه قلباً حيوياً نابضاً بحياة لا تتعطل، فالوطن هو العالم الذي يضيق ولا يستوعب الفرد/ الكائن، فإن الشاعر يقدم وطنه مكاناً مستعداً لاستيعاب الآخر، وكي يبدو الشاعر صادقاً جاور بين وطنه وقلبه، وجعل منهما مكاناً لممارسة الطقوس الدينية/ الصلاة. وفي الإهداء الطويل الكاشف عن مقتربات الشاعر الاجتماعية والثقافية، كانت سجادة خاتمة الإهداءات قبل الحبيبة، وحتماً صار معروفاً للقراءة بأن الإهداء لسجادة الصلاة، يعني الإهداء للعالم وللوطن/ رأس الخيمة ويفترض أن يتوافر الإهداء على اختزال للذي أشار إليه في «الشمس في الماء».
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©