الخميس 28 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

البحث عن اللغة المسرحية.. الثالثة

البحث عن اللغة المسرحية.. الثالثة
16 يناير 2013 19:51
تدفعني الرحلات والمشاركة في بعض مهرجانات المسرح العربية التي تمنح الفرصة لمشاهدة عروض مسرحية متنوعة ومختلفة في التعبير اللغوي، والفني، والتقني والفكري، إلى الحديث عن لغة المسرح، وهي في الواقع مشكلة بدأت منذ عرف النّاس المسرح في الوطن العربي، وأيضاً مشكلة تحمل إشكالياتها حتى يومنا هذا، وما زالت تؤرق وجدان كل المثقفين والمشتغلين في مجالات أبي الفنون. نفهم العرض المسرحي من لغته، وقد لا نفهمه من سوء تعبيره، ومهجور لغته، مع أنه قد يكون عرضاً معاصراً يخاطبنا نحن أبناء العولمة؟ كان التاجر اللبناني «مارون النّقاش 1817- 1855» أول من عرّفنا بجماليات المسرح الحديث، بعد أن قدّم لنا عرضاً مسرحياً بعنوان «البخيل» عام 1848، ترجمه بتصرّف عن مسرحية الفرنسي «موليير»، أما اللافت في الأمر، فهو أن المسرحية عرضت على خشبة مسرح صغيرة بناها في بيته، وأدى أدوارها الرئيسية شعراً باللغة الفصيحة، رجال من أهله، حيث كان التمثيل محظوراً على النساء في ذلك الوقت. نجحت المسرحية نجاحاً ساحقاً، ما دفع بالسلطات العثمانية أن تمنح النّقاش ترخيصاً لبناء مسرح حقيقي. مطابقة الحال.. للمقال بالعودة إلى لغة مسرحية البخيل، فقد تكلم معظم أبطالها الفصحى، سوى الممثل الذي أدّى دور الخادمة «أم ريشا» التي أصرّت طوال العرض على التحدث باللهجة العامية اللبنانية، وقد برّر مارون النّقاش ذلك بقوله: «إنّ أم ريشا ربما تخفي صفة كلامها واصطلاحها على كل من اطلع على كتابنا هذا من البعيدين عن جوار لبنان، فلهذا وجب تحرير هذا التّنبيه لكي نعلم حضرة القارئ والمتفرج بأن لهجة ذلك الكلام واصطلاحاته مستعملة من الشعب في بعض ناحيات لبنان، ربما أن الخادمة المذكورة صار تشخيصها كأنها من أولئك الأشخاص، فلذلك قد استحسن المؤلف، أن يجعل كلامها بالعامية موافقاً لحالها». وهكذا جمع النّقاش، الشعر والفصحى والعامية في قالب مسرحي واحد، وبطريقة ركيكة يقوم بناؤها على السّجع، واللهجات الخاصة، لتكون عنصراً مثيراً للإضحاك وجذب النّظارة.. أما الغريب في الأمر، فإن أولى محاولاتنا المسرحية، تسللت إلى المسرح العربي، خاصة الكوميدي منه، فرأينا حتى وقت قريب نماذج تضحكنا بطريقتها في استخدام اللهجات العامية التي قد لا نفهمها تماماً في مسرح المغرب العربي، حتى أننا بالكاد نستطيع فهم مغزى بعض المسرحيات التي نتابعها في عروض المهرجانات المسرحية. لما كانت بداية المسرح تعتمد على «فن الهزل»، بغرض اجتذاب الجمهور عن طريق الضحك، فمن أسف أن تسخّر «اللغة» تماماً لتحقيق هذا الغرض التجاري، ويقول المعرّب إسكندر الصيقلي، وهو من أوائل المترجمين للمسرح المصري: «يرى مطالع هذه الرواية أننا لم نراع القواعد النحوية في أغلب المواقف، حيث إن الأدوار الهزلية لا تنال الاستحسان عند الجمهور، إلا إذا كانت طبيعية، ولذلك نرجو غضّ النّظر عن هذا التقصير المقصود». وهكذا يا سادة يا كرام، مضت أغلب المسرحيات العربية على هذا المنوال، تستخدم من اللغة ما يبعث على الضّحك، تخلط الفصحى بالعامية، وبعضها قد يضيف كلمات أجنبية، واصطلاحات غريبة، بحيث أتاح هذا الخلط الغريب للممثل بأن يبتدع كلمات، وأن يغيّر في أسلوب المؤلف إذا وجد تجاوباً من الجمهور، ليظهر أمامنا في فترة من فترات المسرح العربي مصطلح «مسرح الممثل»، عندما شهد مرحلة واسعة في عمليات الإعداد والاقتباس والتعريب للمسرحيات. حينما نتحدث عن مثل هذه الإشكالية المعقّدة، فلا فرار من العودة قليلاً إلى أحد الرواد الكبار من طلائع المسرحي العربي «زكي طليمات 1894 – 1982»، فقد حاول فرح أنطوان، مؤلف مسرحية «مصر الجديدة» التي قال عنها طليمات في مقدمة كتاب «تاريخ المسرح العربي» للناقد الدكتور فؤاد رشيد: «إنها بدورها مقتبسة مع تصرف باهر من قصة للكاتب الفرنسي المعروف إميل زولا، رائد المذهب الطبيعي». لقد اعتبر الكثيرون مسرحية مصر الجديدة أول محاولة جادّة في مجال الكتابة المسرحية، وفي ذلك انسياق نحو عمومية الأكثرية، متناسين أن العرض الجديد للنص الأصلي، مقتبس، ومأخوذ عن مجهود إبداعي لآخرين. الفصحى للبرجوازيين لا ضير من العودة قليلاً إلى تجربة فرح أنطوان اللغوية في مسرحيته، فهو يقول: «هذا هو المشكل الذي وقعت فيه حين قمت بتأليف مسرحية مصر الجديدة، وسيقع فيه من بعدي كل من يتصدى لتأليف الروايات التمثيلية الاجتماعية باللغة العربية الفصيحة الممتزجة بالعامية، بقي علي أن أذكر الوجه الذي اخترته لإزالة هذه الصعوبة بأقل ما يمكن من التسامح في شأن «اللغة» وشأن «الطبيعة»، لأنه من الواجب في رأيي ألا نضحي بإحداهما في سبيل الأخرى تضحية تامّة. اخترت وجهاً وسطاً، وما أزعم أنه الحل النهائي، ولكن رأيته أفضل وجه حتى الآن، فقد اصطلحت على جعل أشخاص الطبقة العليا في الرواية يتكلمون اللغة الفصحى، لأن تربيتهم ومعارفهم وأحوالهم تبيح لهم هذا الحق، وجعلت أشخاص الطبقة الدنيا يتكلمون باللهجة العامية». وهكذا حاول فرح أنطوان أن يحلّ مشكلة لغة المسرحية، يفرض على الطبقة العليا لغة لا تستخدمها في الواقع المعيش، ويترك للطبقة الدنيا لغتها، وهو خلط غريب لا يمكن أن يدوم، كما أنه ليس مستساغاً أن يكون السؤال بالفصحى والجواب بالعامية مثلاً، فكيف يكون شكل القالب اللغوي في هذه الحالة؟ بمقابل هذه التجربة، دعنا نستعرض تجربة كتابية لمؤلف آخر هو الشاعر والأديب المصري محمد عثمان يوسف جلال «1828 – 1898»، الذي قدّم للمسرح العربي ذخيرة لغوية حيّة، فيها التناسق والتجانس، عندما قدّم لنا معظم مسرحيات موليير، خاصة مسرحيته الشهيرة بعنوان «الشيخ متلوف» التي قبسها عن مسرحية موليير الشهيرة بـ «»ترتوف»، وعرضت في القاهرة عام 1964، بلغة تحمل صفة «الزجل العامي» ونالت المسرحية نجاحاً كبيراً، لبساطتها وسهولتها وقوة تعبيرها، بما تضمنته من حكم وأمثال شعبية، ولغة مفهومة، فيما وجدنا في تلك المرحلة فنان مصر الكبير «جورج أبيض – 1880 – 1959»، قد بدأ حياته المسرحية بالتمثيل باللغة الفرنسية، حتى طلب منه سعد باشا زغلول أن يمثل باللغة العربية، فقدم أوديب ملكاً لليوناني سوفوكليس، بترجمة رصينة لفرح أنطوان، ولويس الحادي عشر التي ترجمها إلياس فياض عن كازيميردي لافيني، وعطيل التي ترجمها خلي لمطران عن وليم شكسبير، إلى غيرها من المسرحيات العظيمة مثل: ترويض النّمرة، تاجر البندقية، عدو الشعب، شارل السادس، وغيرها ما يؤشر على مرحلة كانت عكست فترة ازدهار للغة الفصحى، وكانت بالفعل خطوة ناضجة نحو الفن الراقي الجاد الملتزم الذي يخدم الذائقة الفنية، ولكن من أسف أن مثل هذا الاتجاه لم ينل النجاح الشعبي والجماهيري المطلوب، وفي ذلك يقول الكاتب محمد تيمور في مقدمة كتابة «حياتنا التمثيلية»: « ... ولكنه مع الأسف لم يصادف إقبالاً إلا على مسرح الأوبرا، حيث يذهب شبابنا الراقي، وأيام التمثيل في دار الأوبرا معدودة لا تكفي لسد حاجات جوق كبير يضم العدد الضخم من الممثلين والممثلات والموسيقيين والعاملين في لواحق العرض المسرحي من ديكور وإضاءة، وغيرهما». من سوء الطالع أن جورج أبيض حينما أراد كسر القاعدة ومجاراة الجمهور الشعبي، متخلياً عن المسرحيات الخالدة وجمال الأدبيات الكلاسيكية، وقدّم لهم مسرحيات عصرية باللهجة الدارجة الممتزجة بالغناء والرقص والحركات الهزلية الرخيصة، فلم ينل غير الفشل، وضياع الأحلام، وضياع جماليات اللغة. تأرجح لغوي في هذه الأجواء المتذبذبة، حيث لا مستقر، كتب كثيرون للمسرح، وكانت نتاجاتهم تتأرجح على خطوط لغة غير واضحة المعالم بسبب هيمنة أجواء الاقتباس والتمصير، حتى جاء الروائي الأديب «محمد تيمور – 1892 – 1921» الذي كان في فترته يجاهر على الدوام برغبته في تمصير الآداب والفنون، أي صبغها بالطابع المحلي الصرف، بعيداً عن اللون العربي الخالص، وبعيداً عن الصبغة الأجنبية الدخيلة، فكانت معظم مسرحياته بالعامية المصرية «العصفور في القفص، عبد الستار أفندي، الهاوية، العشرة الطيبة»، تحقيقاً لفكرته وأطروحاته التي جاهر بها، إذ اختار موضوعات وعادات ولغة مصرية، في محاولة منه لربط الجمهور بفن ورسالة المسرح، متأثراً بتلك الأجواء الفنية التي عايشها في عاصمة الحرية والنور باريس، وقد أوضح ذلك في مقالة له عن التمثيل في مصر فقال: «... لقد عرفوا أميال الجمهور وكوّنوا من وراء إقباله ثروة طائلة، وليس في مقدوري أن أقف في وجوههم، وأغلق بيدي باب مكاسبهم، ولكني أريد أن أهتدي معهم إلى وسيلة نحوّل بها ميل الجمهور من الفوضى التمثيلية الحاضرة إلى شبه الفن، ثم من شبه الفن إلى الفن الواعي الصحيح، أريد أن نسير بالجمهور تدريجياً حتى نصل به غايتنا المنشودة، إذ من العبث مصادمة تياره الجارف». من اللافت أن محمد تيمور حينما كان يطبع مسرحياته في كتب، كان يكتبها باللغة العربية الفصيحة، مبرراً ذلك بقوله: «إن النّاس اعتادت القراءة بالفصحى، فلو قدّمنا المسرحية للقراءة مكتوبة بالعامية لأقذينا العين بما لا تألف، ولو قدّمنا المسرحية للتمثيل مكتوبة بالفصحى لآذينا السّماع بما تنبو عنه». وهكذا يمكن اعتبار تيمور واحداً من أنصار الكتابة للمسرح بالعامية، بل كان مدافعاً شرساً عن هذا الاتجاه الذي كان أيضاً موضع محاربة، بل ويبني إشكالية جديدة في موضوع لغة المسرح. المسرح المترجم يرى بعض النقاد، أن العامية الرفيعة ليست ابتذالاً ولا انحداراً، إنها لغتنا التي نعبّر بها عن أفكارنا كل يوم، وهي وسيلة للتعبير، وأن اللغة لا يمكن أن تكون هدفاً بحد ذاتها، إنما المهم كيف نصبّ نوع اللغة أو اللهجة في قالب مسرحي يعبّر عن الفكر والقضية المطروحة، كما يعبّر عن أحلام الناس بشتى فئاتهم وثقافاتهم وأمزجتهم، وفي ذلك قال الأديب والمفكر الكبير توفيق الحكيم «1898 – 1987» مبتدع اللغة الثالثة في المسرح: «أعظم الأفكار يمكن أن نعبّر عنها بكلمات عامية، وأروع المعاني الإنسانية يمكن أن تظهر في حوار باللغة العامية، ويمكن أيضاً أن تظهر أحقر الأفكار، وأن تنطق المعاني المبتذلة في لغة فصحى. اللغة الفصحى إذن لا تعني السمو والتعالي، والعامية لا تعني الانحدار والتبذل، ولكن هناك بعض المسرحيات لا يحسن كتابها استخدام العامية، خاصة المسرحيات التي تندرج تحت مسمى الميلودراما، حيث تسمع الأذن كلمات نابية خارجة، أو تعبيرات هابطة ركيكة سوقية لا تنم عن حس مسرحي، فهذه علينا حذفها من قائمة المسرح الراقي». من بعد ذلك ثمة اتجاهات عديدة للغة المسرح، فقد أصبحت المترجمات تترجم باللغة الفصيحة، وكان من بينها أعمال مترجمة تحمل جمالياتها وأنساقها الفنية، ومن ذلك ما قدمه الأديب المصري المعروف إدوارد الخراط «مواليد الإسكندرية عام 1926»، وصدر له ما يزيد على خمسين كتاباً شعرياً أو قصصياً أو نقدياً، منها «حيطان عالية، رامة والتنين، الزمن الآخر، أضلاع الصحراء، ساعات الكبرياء» – من ترجمة مهمة لمسرحية «الخطاب المفقود» للكاتب الروماني كاراجيالي، بطريقة تدل على فهمه السليم لأهداف الكاتب الكوميدي البارع، أما المسرحية فكانت تجمع خليطاً من الفصحى والكلمات المرتبكة على لسان شخص واحد، عندما يخطب في اجتماع عام، فمثلاً عندما كان يتحدث كاتزانتكو، وهو أحد المرشحين لعضوية البرلمان كان يقول: «اسمح لي أيها السيد المحترم، إن الرجل السياسي يجب عليه، خاصة في الظروف الدقيقة التي تجتازها بلادنا الآن، وهي الظروف التي من طبيعتها أن تتولد عنها حركة عامة، وهي الحركة التي إذا وضعنا موضع الاعتبار ماضي كل دولة دستورية، وخاصة إذا كانت دولة فتية كدولتنا .. ما تكاد تخرج من هذا...». هذا الأسلوب المرتبك تفرضه لغة المسرحية، وهنا يقع المترجم في حيرة يعبّر عنها في مقدمة الكتاب فيقول: «... وصنعة كارجيالي البارعة تتضح في طبقات أسلوبه المتغير، وفقاً للأشخاص والمواقف، ولهذا كانت ترجمته مثاراً لمشاكل عدّة، فلم تكن العربية المتزمتة القديمة لتفي بروح الكاتب، ولكن العربية المتطورة كما أراها لغة سمحة، أما العامية المصرية – على غناها – فهي تقطع مع ذلك وشائج الصلة بيننا وبلاد عربية كثيرة، هي معقد قوميتنا العربية النامية، لذلك التزمت جهدي أصول اللغة العربية، وحققتها مع ذلك – بقدر ما وسعني – بتراكيب سهلة أقرب إلى التناول الشعبي الحلو، وهي تجربة شائكة ودقيقة، إن أعوزها الكثير، فلم يعوزها الجهد، الحس الضيق المعذب بالمسؤولية». الحكيم.. واللغة الثالثة حاول توفيق الحكيم في مسرحيته «الصفقة» التي قدمها بلهجة ريفية، تقديم تجربة لغوية جديدة، قال عنها في مقدمة الطبعة الثانية من المسرحية: «كانت ولم تزل مسألة اللغة التي يجب استخدامها في المسرحية المحلية، موضع جدل ومحاورات وخلاف، وقد كثر الكلام حول العامية والفصحى، وقد سبق لي أن خضت التجربة مرتين، في محيط واحد هو «محيط الريف المصري»، حينما كتبت مسرحية «الزّمار» بالعامية، وكتبت مسرحية «أغنية الموت» بالفصحى، فما هي النتيجة في نظري؟، أشكّ أن هذه الإشكالية قد حلّت تماماً، فاستخدام الفصحى يجعل المسرحية مقبولة في القراءة، ولكنها عند التمثيل تستلزم الترجمة إلى اللغة التي يمكن أن ينطقها الأشخاص، فالفصحى إذن ليست هنا لغة نهائية في كل الأحوال، كما أن استخدام العامية يقوم عليه اعتراض وجيه هو أن هذه اللغة ليست مفهومة في كل زمن ولا في كل قطر، بل ولا في كل إقليم، فالعامية إذن ليست هي الأخرى لغة نهائية في كل مكان أو زمان». ويرى الحكيم الذي ظل يصارع النقاد والمختلفين معه زمناً طويلاً حول مسالة اللغة، وقضايا مسرحية كثيرة، أنه لا بد من تجربة ثالثة لإيجاد لغة صحيحة لا تجافي قواعد الفصحى وهي – في الوقت ذاته – مما يمكن أن ينطقه الأشخاص ولا ينافي طبائعهم ولا جوّ حياتهم، لغة سليمة يفهمها كل جيل وكل قطر وكل إقليم، ويمكن أن تجري على الألسنة في محيطها الطبيعي، تلك هي لغة هذه المسرحية، وقد يبدو لأول وهلة أنها مكتوبة بالعامية، ولكنه إن أعاد قراءاتها طبقاً لقواعد الفصحى، فإنه يجدها منطبقة على قدر الإمكان. كما يرى الحكيم أن مثل هذه التجربة إذا نجحت في المسرح، فإن ذلك سيؤدي إلى نتيجتين: أولاهما السير نحو لغة مسرحية موحدة في أدبنا، وتقترب بنا من اللغة المسرحية الموحدة في الآداب الأوروبية، وثانيهما وهي الأهم: التقريب بين طبقات الشعب الواحدة، وبين شعوب اللغة العربية بتوحيد أداة التفاهم على قدر الإمكان، دون المساس بجوهر الفن وهدف المسرح بتحقيق عنصر التطهير أو الكاثارسس. تجربة «اللغة الثالثة» عند الحكيم، كما واجهت هجوماً ونقداً لاذعاً من عديد الكتاب والنقاد، وعلى رأسهم عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين «1889 - 1973»، كان لها بعض المؤيدين، ومنهم الأديب والمفكر اليساري «محمود أمين العالم - 1922 - 2009» الذي قال في أحد أعداد مجلة الرسالة الجديدة: «نجح الحكيم في هذه التجربة الملهمة أن يزيل من التركيب اللغوي الفصيح بعض ما يثقل خطواته من عناصر لم تعد تستخدم في المخاطبة اليومية، ونجح في أن يزيل من التركيب العامي بعض ما يباعد بينه والتركيب الفصيح، ويدعوني في هذا القول بأن موضوع المسرحية هو الذي يفرض لغتها فرضاً، وأن الكاتب يجد نفسه مقيداً بذلك لأنه يتخيل الشخصيات أثناء الكتابة، وهي تتحرك وتتكلم وتمثل، ويجب عليه الاحتفاظ بحيوية لغتها ولا يفعل مثل الكاتب الذي يرفض الكتابة إلا بالفصحى، يترجم الكلمات في ذهنه قبل أن يخطّها قلمه «. توفيق الحكيم الذي قدم لنا مسرحية الصفقة، الغنية بعنصري الفكر والفرجة، دفع لنا بعديد المسرحيات التي كتبها باللغة الفصحى مثل: أهل الكهف، إيزيس، السلطان الحائر، كان يرفض أن تمثل بعضها بالفصحى رغم أنها منشورة في كتاب، وذلك مثل مسرحيته الشهيرة بعنوان «عودة الشباب» التي نشرت في كتاب مسرح المجتمع باسم «لو عرف الشباب» وأخرجها للمسرح بالعامية الراحل نور الدمرداش. ما بين هذا وذاك، تظل قضية أن موضوع المسرحية هو الذي يفرض لغتها، ومن بين المطالبة بسيادة اللغة العربية الفصيحة في كل المسرحيات - إشكالية بحاجة إلى مزيد من المناقشة، خاصة أن مسرحنا العربي المعاصر، زيادة على ما يعانيه من أزمات وتحديات لم يناقش هذه الإشكالية بجدية وعلمية وعقلانية وخطاب مسرحي موضوعي متخصص في أي مهرجان مسرحي عربي، نحضر بعض المهرجانات، ونشاهد المسرحيات وأحياناً لا نفهم ما الذي يدور حولنا، مع أن لغة المسرحية ليست مشكلة كبيرة كما يعتقد البعض، فكل كاتب يستخدم وسيلته في التعبير، والمناقشة فيما بعد تدور حول ما يقدمه هذا الكاتب في أي أسلوب وداخل أي قالب، فالفن له أصوله وقواعده، والمسرح له لغته، ونسأل في النهاية لماذا خلدت معظم نتاجات المسرح الإغريقي ومسرح شكسبير، هل كانت بسبب اللغة؟.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©