الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الإنسان قبل البنيان

الإنسان قبل البنيان
30 نوفمبر 2016 02:05
إبراهيم الملا .تنطلق رؤية الإمارات في الاستثمار المستدام للعنصر البشري من قاعدتين ذهبيتين هما: الطموح والتميز، ويشكّل المنبع الثقافي لهذه الرؤية الرهان الأبرز على الإبداع والابتكار والتطوير لمنظومة القيم الإنسانية والمعرفية التي يتمتع بها أبناء الإمارات، ويتلمسها المقيمون على أرضها. يتجلّى الطموح هنا بتمازج مرهف مع صدى البدايات البعيدة، وتراث الأجداد، والتنوع البيئي والاجتماعي في أقانيم البحر والجبل والصحراء التي تشكّل في بعدها السوسيولوجي نسيجاً قائماً على التعايش والتسامح والقبول بمعارف الآخرين وخبراتهم النافعة. وهو طموح مشروع لقادة وحكام الإمارات في ظل احتفالات الدولة بعيدها الوطني الخامس والأربعين، استناداً إلى مقولات ورؤى وتوجهات الآباء المؤسسين لهذا الاتحاد وفي مقدمتهم المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، عندما تفحّص الراحل الكبير وببصيرة نافذة تحديات المستقبل في عالم متسارع لا ينتظر الجامدين والواهمين والمتكلّسين في مواقعهم، نظر الشيخ زايد إلى الإنسان قبل البنيان، ووجد أن الاستثمار في البشر أجدى وأرقى وأسمى من الاستثمار في الحجر، ومن هنا، ومن خلال هذه الرؤية المتجاوزة يكمن السر المعلن وغير المبطن في تدفق وسيرورة ونمو المشاريع الثقافية بالإمارات، وارتباطها أيضاً بالنهضة الاقتصادية، وكأنهما جناحان يحلقان في أفق مشترك، راهناً ومستقبلاً. التميز والريادة أما التميز الذي تنشده الرؤية الإماراتية فهو لصيق بفكرة الريادة، وحيازة المراكز المتقدمة وتحقيق الإنجارات المبهرة شكلاً ومضموناً، يملك عنصر التميز أيضاً قيمة استثنائية من خلال احتضان الإمارات للمواهب والطاقات الإبداعية في المجالات كافة، ومنحها الفرصة في التعبير عن قدراتها وإمكاناتها، وتوفير مناخ مشجع ومحفّز على تجسيد الأفكار الخلاقة، ونقلها من الحيز الافتراضي إلى واقعها اليومي المعيش والملموس، ضمن استراتيجية عامة تهدف إلى خلق «مجتمع المعرفة» واستبدال ثقافة الاستهلاك بثقافة الإنتاج، لأن المجتمعات غير المنتجة ستظل مهددة دوماً بالانكماش والضمور والغياب عن الوجود الحقيقي في العالم. ولا ينفصل التميز الذي تطرحه الإمارات وسط احتفالاتها بيومها الوطني عن البنية العمرانية والجمالية لمشاريعها الثقافية والمتناغمة مع البنية الفكرية ذات الإشعاع الإيجابي أفقياً وعمودياً، في الذات والمكان، وفي المعنى والزمان، ولعل الإعلان عن عام 2016 كعام للقراءة في الإمارات هو إعلان أيضاً عن بدء مرحلة تنموية فاصلة بين الأمس والغد، وبين سنوات تأسيسية ماضية، وسنوات استشرافية قادمة، يملؤها هذا الطموح، ويسكنها هذا التميز في مسيرة متواصلة لا تخلو من تحديات ومجابهة لأسئلة إنسانية ووجودية وكونية شائكة. صروح ثقافية كبرى نذكر المشاريع الثقافية الكبرى في الإمارات وتتمثل أمام أعيننا صروحاً شامخة من الهندسة العمرانية والهندسة الروحية أيضاً، مشاريع مثل متحف زايد الوطني، ولوفر أبوظبي، وجوجنهايم أبوظبي، ودار المسارح والفنون في جزيرة السعديات، وأوبرا دبي، ومركز مليحة للآثار بالشارقة، كما نستعيد أيضاً الوهج المعرفي والبصري والتفاعلي في مهرجان دبي السينمائي، ومهرجان الشارقة لسينما الطفل، ومعرضي أبوظبي والشارقة للكتاب، وأيام الشارقة المسرحية، وأيام الشارقة التراثية، والعديد من الفعاليات المهمة الموزعة على مناطق الدولة المختلفة، نرى خرائط هذه الصروح الثقافية الجديدة ونقرأ أثرها في المناسبات الفكرية والفنية، ونستشعر حرارة وحيوية التفاؤل في عالم تتخطفه النزاعات والفوضى والخطابات الرجعية، كي تأتي الإمارات وتقدم نموذجاً راقياً وساطعاً وسط هذا الحلكة، وتقول للآخرين: «انظروا إلى تجربتي واستثمروا في الإنسان.. أضيئوا عقله بالوعي والمعرفة.. وروحه بالفن والجمال.. قبل أن يجرفكم طوفان الظلام والظلاميين». السعديات.. ومتاحفها تتمثل صورة البحر دائماً كمعبر وبرزخ بين المجهول والمعلوم، وتظهر الجزر البحرية كمحطات وفواصل بين المبهم والواضح، وبين الغريب والمستأنس، وبين المسافر والمقيم، وفي جزيرة السعديات بأبوظبي تتجلى هذه المساحات الرحبة للعزلة والتواصل، والانقطاع والتلاقي، والمد والجزر الثقافي، داخل مكونات عمرانية هائلة ومشاريع رائدة تمثلها هنا متاحف تجمع بين عنفوان المستقبل الوثّاب، وهدوء الجذور الصلبة، وتترجمها بدقة بصرية ومعرفية صروحاً مذهلة في شكلها الخارجي مثل لوفر أبوظبي وجوجنهايم أبوظبي ومتحف زايد الوطني ودار المسارح والفنون ومنارة السعديات، كنموذج حيّ لمنارات الجزر وأهميتها كإرث مضيء في سجلات التاريخ، ودليل على الإشعاع الحضاري والحوار الثقافي بين الشعوب والمرجعيات والأذواق المختلفة. متحف زايد الوطني سيكون لمتحف زايد الوطني بجزيرة السعديات وقع حميمي خاص ومرتبط بالذاكرة الجمعية لأبناء الإمارات، وسيكون متحفاً للحنين والنوستالجيا لمن عاصر فترة قيام دولة الاتحاد، ومتحفاً لاستعادة لحظات استثنائية وفارقة في تاريخ الإمارات لمن لم يعاصروا تلك الفترة من الجيل الجديد والأجيال القادمة، وسيشكل المتحف منصة للتعرف إلى إنجازات شخصية قيادية ملهمة لشعبها، انبثقت من حكمتها ورؤيتها المتجاوزة ينابيع الوحدة والنماء والحفاظ على مكتسبات الوطن وأمنه واستقراره. سيضم المتحف أيضاً صالة عرض دائمة تحكي قصة الشيخ زايد وتأثير إصلاحاته، بالإضافة إلى برنامج عرض ديناميكي خاص يعكس انتقال دولة الإمارات إلى الحداثة والنمو المتسارع الذي حققته في غضون أربعين عاماً. وضع تصميم المتحف المعماري اللورد نورمان فوستر الفائز بجائزة برتزكر العالمية، وينبثق المتحف من واحة خضراء، تحتفي بإرث الشيخ زايد ويده الحانية في «تخضير الصحراء»، واستلهم المصمم الشكل العام للمتحف من طائر الصقر المعروف كرمز للقوة والجموح في المنطقة، والذي يعتبر جزءاً من تراث الإمارات الثقافي وطريقة حياتها، وصمم اللورد فوستر خمسة أجنحة عملاقة للمتحف تحاكي تفاصيل الريش الموجود أعلى قمة هذه الأجنحة. ويستند المتحف إلى روح العمل التي تحلى بها الشيخ زايد في خدمة الإنسان بمختلف أرجاء العالم، وسيحتفي هذا المعلم الكبير بجميع الزوار من داخل الإمارات وخارجها ليجسّد فكر زايد وعطفه على الناس في شتى بقاع الدنيا. لوفر أبوظبي أما متحف لوفر أبوظبي في جزيرة السعديات، فقد حجز مكانه كأول متحف عالمي في الوطن العربي، وهو مشروع مستقبلي مهم أسس خطابه على عرض أعمال ذات أصول ثقافية وجغرافية متنوّعة، وعلى مفترق الحضارات العربية ــ الإسلامية والغربية والآسيوية. يذكر أنه في عام 2007 تمّ توقيع اتفاق بين الإمارات والحكومة الفرنسية لإنشاء متحف «لوفر أبوظبي» كأوّل متحف ذي طبيعة عالمية «يونيفرسال» في العالم العربي. واعتباراً من عام 2010 تم الشروع في ورشة عمل لبناء متحف «لوفر أبوظبي» من تصميم المعماري الفرنسي الشهير «جان نوفيل»، وفي كتاب بعنوان «لوفر أبوظبي. متحف جديد عالمي ــ يونيفرسال»، صادر عن دار نشر المطبوعات الجامعية الفرنسية وبمساهمة «هيئة أبوظبي للسياحة والثقافة» و«لوفر أبوظبي» و«متحف اللوفر الفرنسي» و«وكالة متاحف فرنسا»، يرد في مقدمة الكتاب أن إنشاء متحف أبوظبي يمثّل حركة لا سابق لها في تاريخ المتاحف، فهو المتحف الأول الذي يولد من اتفاق دبلوماسي بين بلدين. وهو أوّل متحف عالمي «يونيفرسال» في العالم العربي، وأوّل متحف يحمل اسم اللوفر خارج التراب الفرنسي. يقدم لوفر أبوظبي مفهوم «المتحف العالمي» من زاوية ما يمكن أن تقدّمه الآثار المعروضة في المتاحف أو الموجودة في جوف الأرض من إرث إنساني مشترك، والتأسيس عبر ذلك لنوع من التناسق المتبادل بين الثقافات كأحد طموحات المتاحف العالمية. ويؤكد الباحثون المهتمون أن لوفر أبوظبي يمكن أن يقدم صيغة مثالية لحوار الحضارات كأحد تعبيرات «الميل العالمي»، وهي سمة لا تمتلكها المتاحف الأخرى المجاورة له، فبعد قرنين من بروز مفهوم «المتحف العالمي» يمكن للمعنى العميق الذي يمثله «لوفر أبوظبي» من حيث الجمع بين أعمال من أصول ثقافية وجغرافية متنوّعة، أن يكون مثالاً لاختراع متحف القرن الحادي والعشرين. جوجنهايم أبوظبي أما متحف جوجنهايم أبوظبي الذي يشغل موقعاً مميزاً في جزيرة السعديات فيعتبر متحفاً عالمياً مخصصاً للثقافة والفن المعاصر، وسيقدم إلى رواده مجموعة مهمة من الأعمال الفنية المعاصرة بجانب المعارض النوعية المساهمة في إثراء مفهوم «السياحة الثقافية» بالدولة، وتشير المعلومات الخاصة بالمتحف إلى احتضانه مجموعة مقتنيات دائمة تشكل مثالاً حياً لتلاقي الفنون العالمية التي تمتد من ستينيات القرن الماضي حتى يومنا هذا، كما سيسهم المتحف من خلال سلسلة متكاملة من الأعمال الفنية، والمعارض، والبرامج التعليمية، في بناء وتعزيز مفهوم عالمي لتاريخ الفن، وسيتجاوز «جوجنهايم أبوظبي» تعريف الفن العالمي الذي يعتمد على التوزيع الجغرافي، وذلك من خلال التركيز على الديناميكيات المترابطة لمراكز الفنون المحلية والإقليمية والدولية، فضلاً عن سياقاتها التاريخية المتنوعة ومصادر الإلهام الإبداعي. كما سيوفر المتحف مساحة مهمة لمجموعته الدائمة وصالات العرض الخاصة مع مرافق تعليمية فنية، ومسرح، ومكتبة، وأكثر ما يميز المتحف، الذي وضع تصاميمه المعماري الحائز جائزة برتزكر العالمية فرانك جيري، هو الأشكال المخروطية التي تحاكي الأبراج الهوائية المعروفة محلياً باسم (البراجيل)، والتي تسهم في توفير التهوية والظل للساحات الخارجية للمتحف في بيئة معمارية تمتزج فيها التقاليد العربية والأنماط البنائية المعاصرة، والتصميم المستدام، كما يتميز المتحف بإطلالته الخلابة على كل من المنطقة الثقافية في السعديات ومياه الخليج العربي ضمن موقع أخاذ محاط بالكامل تقريباً بالمياه. دار المسارح والفنون أما مشروع دار المسارح والفنون في جزيرة السعديات بأبوظبي فسوف يستقطب أفضل الفنانين في عالم الفن والدراما في العالم، وخصوصاً في مجال الأوبرا والتمثيل لعرض مواهبهم ونيل إعجاب جمهور أبوظبي من مختلف الأعمار. ستشكل دار المسارح والفنون، التي تقع في المنطقة الثقافية في السعديات، مقراً للعديد من الأعمال الفنية لما تضمه من قاعات للحفلات الموسيقية، ومسارح، وأماكن أداء تجريبية. ستستضيف دار المسارح والفنون أيضاً مجموعة متنوعة من الأعمال المسرحية المبتكرة والموسيقا وفنون الرقص، وتعد امتداداً أيضاً لفلسفة المنطقة الثقافية في السعديات من حيث تشجيع جميع الأعمال الفنية على اختلاف أنواعها بما فيها الموسيقا المعاصرة والكلاسيكية، والباليه والحركة الفنية المسرحية والدرامية والأداء التجريبي، وغيرها من الأعمال الفنية التفاعلية. تضم دار المسارح والفنون، التي صممتها المعمارية الراحلة زهاء حديد، قاعة للموسيقا، وقاعة للحفلات الموسيقية، وداراً للأوبرا ومسرحاً للدراما، ومساحة مخصصة لمختلف الفنون المسرحية، فضلاً عن أكاديمية الفنون المسرحية. وقد استُوحي تصميم الدار من الأشكال الحية، حيث نجد الشكل الخارجي أشبه بأوراق الأشجار وساق النباتات، والبراعم والفواكه وأغصان الأشجار. وقد روعي في تصميم المساحات المغلقة تحقيق الاستفادة القصوى من الإضاءة الطبيعية، حيث تجد النوافذ الضخمة التي تأسر ضوء النهار الطبيعي وتكيّفه لتعزيز أنظمة الصوتيات. وعلاوة على ذلك، تواجه المسارح والردهات البحر للمحافظة على الاتصال البصري المستمر مع البيئة المحيطة. المحلي والعالمي متحف اللوفر أبوظبي يجسّد «أحد التعبيرات» البليغة في العالم المعاصر، ومن الطبيعي أن تتعدد الآراء والنقاشات التي أُثيرت حول إنشاء المتحف لدوافع متعددة، لكن ذلك لا يمنع واقعاً أن مجموع المؤسسات والفرق التي تمّت تعبئتها منذ بداية المشروع لم تتوقف عن تقديم الإجابات على التحديات المطروحة، ولا تنفصل الرؤية الثقافية العالمية للمتحف عن عنصر«الإبداع» كنتاج محلي قديم في الإمارات، تدل عليه النقوش الأثرية في مواقع مختلفة في الدولة، وتعود بعض هذه النقوش إلى مئات وحتى آلاف السنين. كتاب: «لوفر أبوظبي. متحف جديد عالمي يونيفرسال»
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©