الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

رسامو المعارك.. تمجيد البطولة

رسامو المعارك.. تمجيد البطولة
22 سبتمبر 2010 20:28
ظاهرة “الاستشراق” عموماً، والفني منه خصوصاً موضوع إشكالي بامتياز، تتعدد فيه وجهات النظر وتتباين التفسيرات وتكثر الاحتمالات والقراءات، ورغم قدمها لم تفقد هذه الظاهرة سحرها الجدلي بل تألق حولها الجدل في الآونة الأخيرة ربما بسبب العلاقة المتوترة بين الإسلام والغرب في هذه المرحلة. ورغم أن الفن الاستشراقي لم يعد مصطلحاً فاعلاً أو ذا قيمة معاصرة، اللهم إلا قيمته التاريخية، إلا أن هناك اهتماماً واضحاً به مؤخراً حيث سلطت عليه الأضواء عبر مؤتمرات ومعارض وندوات ومزادات عالمية أقيمت في أكثر من مدينة وعاصمة عربية وعالمية، فيما يمكن أن يوصف بأنه إعادة تسويق لتلك اللوحات التي ظلت مهملة أو مكنوزة في مخازن وصالات وبيوتات الأثرياء لتقتنى من ثمَّ بأسعار خيالية، بوصفها وثائق بصرية وبيئية وتراثية فريدة لبلداننا العربية، وهي نعوت شاعت في أدبيات الفن التشكيلي، والخلاصة أو الزبدة أننا من خلالها نرى أنفسنا بعيون الآخر. ربما كان الشرق وسحره اختراعاً او ابتداعاً غربياً.. ربما كان ضرورة أملتها طبيعة التطورات والمصالح التي حكمت تلك الحقبة التاريخية.. ربما كان الآخر/ الشرقي في عرف البنية المؤسسة لخطاب الاستشراق مطية لاكتشاف الذات/ الغربي ونموها.. ربما كثيرة يمكن أن تطل برأسها بمجرد أن يطرح موضوع الاستشراق بشكل عام والاستشراق الفني بشكل خاص، لكن مهما اشتط أصحاب ربما هذه في تفسير وتفكيك الفكر الاستشراقي يبقى ثمة نتائج مادية لا تحتمل أي ربما أو غموض أو مواربة، بل تصرح بوضوح ساطع سطوع الشمس الشرقية بالفكرة والرؤية ونمط التفكير والخطاب الكامن وراء إنجازها، وهو في الغالب خطاب استعلائي (إلا في استثناءات قليلة ومتأخرة أسهم في إنجازها ظهور فن التصوير الفوتوغرافي وانكشاف الشرق على حقيقته) قدم الشرق في صورة نمطية لاتزال آثارها بادية الى الآن في الذهن الغربي وتصوراته عنا. هذه الصورة تتلخص في أن الشرق رمز للجمود والتخلف والشهوانية والقهر والحسية وعدم العقلانية واضطهاد النساء (الحريم والجواري) وغيرها من السمات التي يتمنى الإنسان أن تكون من مخلفات الماضي بالنسبة للغربيين وأن لا يكون قد بقي منها أي ترسبات في العقل الجمعي الغربي. معارك خلف المعارك أما السبب في تسلل هذه الصورة من الاستشراق الفكري الى الاستشراق الفني فهو أن معظم الفنانين الذين رسموا الشرق هم ممن رافقوا الحملات الاستعمارية ليؤرخوا لها ويبرروا أهدافها في تحضير (من حضارة) الشرق المتوحش وتعليمه الديموقراطية والحضارة، وهؤلاء كانوا يحاربون على طريقتهم بالريشة واللون كما توضح أعمالهم، أو أنهم ممن تأثروا بكتابات الرحالة والمستشرقين عن الشرق وغموضه وتخلفه وجواريه، فكانت مصادر إلهامهم ولم يكلفوا أنفسهم عناء زيارته، وبعض الذين زاروا بلاد العرب لم يقيموا فيها إلا اياماً قليلة لا تكفي لكي يعرفوه معرفة سطحية فما بالك بالمعرفة العميقة. لقد كانت الأعمال الفنية التي أنجزوها، قراءة رومانسية رسختها في خيالهم كتابات المستشرقين الذين سبقوهم في الارتحال الى الشرق والكتابة عنه. وكما في كل الحالات التي تحكم فيها الايديولوجيا فقدت اللوحة لدى هؤلاء الفنانين المؤدلجين صوابها الفني. بيد أننا هنا لن نتطرق للاعمال الفنية التي رسمت الشرق وموضوعاته ومظاهر الحياة فيه، وسنقتصر على بعض الأعمال التي رسمت المعارك التي كانت موضوعاً أثيراً لدى بعض الفنانين. المجد لهم.. الوحشية لنا يقول ميكافيللي إن الرومان كانوا يشنون الحرب إما للفتح أو المجد. المجد هو الكلمة المفتاحية التي تقف وراء هيام الفنانين بتجسيد النزعة البطولية في الأعمال التي تناولت معاركهم هم (لوحة “بونابرت يزور مرضى الطاعون فى يافا” للفنان “جيرو” عام 1804م، والتي تُعد رائدة في هذا الفن، صورت نابليون كأنه “المسيح” في حركته. ولقد رسمت هذه اللوحة تحت إمرة وتوجيهات نابليون بعد عودته إلى فرنسا، ولتأكيد “أسطورته” في الشرق) أما عندما كان الأمر يتعلق بحروبهم مع المسلمين فإن البوصلة كانت تغير اتجاهها بسرعة لتظهر صورة أخرى لا علاقة لها بالمجد يتم التركيز عليها. ويرى بعض المؤرخين أن “إرهاصات” الاستشراق الفني بدت في صور بعض القديسين، فأظهر الفنان “جوتو دي بالدوني” القديس “بطرس” بطلا إيجابيا، والسلطان العثماني “محمد الفاتح” بطلًا سلبياً من خلال العمامة والرداء والسحنة السمراء. أما لوحة (عام 1499م) التي تمثل اعتقال القديس “مرقص” فصورت القائمين على اعتقاله على هيئة (مسلمين)، في حين أن هذا الحدث قد وقع في القرن الأول الميلادي، حيث لم يكن الإسلام قد ظهر بعد. وليس من الصعب تلمس أن هذه الصورة المألوفة لدى فناني الاستشراق الاستعماري والمتجسدة في العنف والدم وقبح الرجل العربي وقطع الرؤوس، هي القاسم المشترك أو الخيط الخفي الذي يربط بين تلك اللوحات. ومن النماذج الشهيرة على ذلك لوحة “مذبحة هيوس 1924” الذي صور فيها دي لاكروا وحشية المسلمين في ذبح اليونانيين. وذلك عشية اندلاع الثورة اليونانية 1821م، وتدخل الأسطول المصري الى جانب العثماني، في مواجهة الأوروبي في “نافارين”، وكذلك فعل آري شيفر في لوحة “آخر المدافعين عن ميسولنجي” وغيرها. لم تأت الجيوش الأوروبية وحدها الى الشرق ومنها الحملة الفرنسية على مصر (1798 ـ 1802م) وحملات الإنجليز على العالم العربي، بل حملت جيشاً آخر من رسامي الخرائط والفنانين، لا تقل مهتمه خطورة عن مهمات العسكر، وكانت تتمثل في تحضير وتنفيذ استعمار مصر لمصلحة فرنسا. في تلك الفترة كان واضحاً أن الثقافي يعمل لمصلحة السياسي وأن الفن ذيلي ومكرس للترويج للإمبراطور بونابرت وإظهار بطولاته وتحويل هزائمه إلى انتصارات، ولا عجب فقد كان نابليون نفسه يحرص على الظهور في صورة راعي الفن والمواهب الفنية. ولم يقصر هذا الجيش الثقافي في مهمته بل أداها خير أداء وأنجز “وصف مصر” لفرنسا على نحو موسوعي وشامل وغير مسبوق في (24) مجلداً، مع شروح بالصور والرسومات واللوحات عرفت بكتاب “وصف مصر”. وللحق... لقد صور الفنانون هذه المعارك بلغة فنية كلاسيكية رصينة شديدة الاتقان، ودقة متناهية في تجسيد التفاصيل والحركات والعنف والقسوة بحيث يعجب المرء وهو يشاهد اللوحات كيف يمكن للبشاعة (الحرب) أن تتحول الى جمال على هذه الدرجة من الروعة، وربما لا يكون للحرب أي حسنة سوى أنها أوحت بهذه الأعمال الخالدة، التي لجمالها أثرت على الفنانين العرب وصاغت رؤيتهم هم أنفسهم عن الشرق. خيول فرنييه ايميل هوراس فرنييه يطلق عليه النقاد لقب فنان الصحراء والمعارك. أبدع في رسم البادية حتى باتت لوحاته مرجعية لمن جاء بعده من الفنانين، مما دفع الألمانية ايميليا شومان الى اعتباره موديلاً وقياساً في الأورينتاليزم، وكان فرنييه على المستوى الفني امتداداً لمدرسة فناني الحملة الفرنسية على مصر. “مصور التاريخ” كما كان فرنييه يحب أن يقول عن نفسه، هو فنان المعارك الأكثر شهرة كان يرى أن البادية أصل الشرق بما فيها من رمال الصحراء وجمال النساء وشجاعة الرجال وهي فكرة لا تبتعد كثيراً عن فكرة الفرسان في الفن الغربي، من هنا يسقط أحياناً في هنات او أخطاء موضوعية رغم ما تتميز به أعماله من ثراء فني باذخ. ففي لوحته الشهيرة “حديث في البادية” يصور فرنيه مشهداً رائعاً وينجز عملاً تشكيلياً سامقاً من حيث الجمال والإبداع يمثل لحظة رومانسية بين فتاة عربية وفارسها الأسمر الوسيم، فتاة عربية يجللها الخفر والحياء ويظهر جمالها الآخاذ في تناسق مقاييس فرنيه الشديدة الدقة فيما غموض الصحراء واتساعها يضفي على المشهد جمالاً ساحراً... لكنه ينسى أن الفتاة البدوية لا يمكن أن تظهر صدرها فيما هي تخفي ببرقعها نصف وجهها، وما تلك إلا ثمار مرجعيته المشوهة عن الصحراء وعوالمها، ففرنيه أبدع لوحاته الآخاذة من وحي الخيال فقط، ولم يزر البادية قط خلافاً لما قد توحي به اللوحات.. وحتى المعارك التي رسمها في البادية ليست سوى تجليات خياله الذي كان يوصف بأنه خيال قوي. وبسبب من إبداعه الفريد والمدهش قال شارل بودلير يوم وفاته: “فلتحزن باريس وتتشح بالسواد لقد رحل رجل اللون والخيال فرنيه.. رحل الرجل الذي جعل خيول الصحراء تتقافز بين أصابعنا... فلتحزن باريس”. جماجم ديلاكروا تتقافز خيول فرنيه فيما تغطي الجماجم لوحة “مذبحة هيوس” للفنان أوجين ديلاكروا (1798 ـ 1863) أبرز الرومانسيين الاستشراقيين، والتي ترجع بداية العمل فيها إلى يناير عام 1824. وهي أول لوحة في الفن الفرنسي ذات موضوع معاصر له علاقة بالاستشراق الفني من الطراز الرومانسي. وسبقت الإشارة الى ما تحمله من نظرة سلبية للشرق وهو ما تشير إليه الفنانة والناقدة زينات البيطار بقولها إن هناك من يرى في اللوحة “بياناً” استشراقياً ـ جديداً يكن رؤية عدائية للشرق في وضعه للبطل الشرقي المسلم في موقع السلبية (رمز الشر) ووضعه للبطل الأوروبي المسيحي اليوناني في موقع الإيجابية (رمز الخير). لكن هذا لا يمنع من القول إن ديلاكروا، حسب البيطار، قد يكون من أوائل الفنانين الأوربيين الذين بحثوا في الفن الإسلامي بالذات عن ماهية الروح الشرقية الإسلامية والتمثل بها، غير أنه ارتقى باستشراقه إلى “الإبداعي” و”العالمي” و”الشمولي”، ولم يتوقف عند حدود الشكل أو المضمون، بل حاول دائما الجمع بينهما، وقد شكَّل نزوعه للشرق في العشرينيات حالة مميزة لتوافق الأدب والفن في نهج استشراقي رومانسي دائم البروز. ومن بين أعماله الاستشراقية أيضاً “نساء الجزائر” التي تصور الحريم، ولوحة “زفاف مغربي” و”مشهد الجَلْد في طنجة” وغيرها. البحث عن بطل مدفوعاً بحبه للبطولة والفروسية ورغبته في تمجيد بطل معاصر، كان الفنان انطوان جان غرو (1771 ـ 1835) يرى في نابليون بونابرت إسكندر العصر الحديث، ومن هنا كان ملهمه؛ بملابسه المملوكية الرائعة، والخيول العربية الرشيقة. لقد أسس غرو الاتجاه الاستشراقي ـ الاستعماري في الفن الفرنسي الذي استمر طوال القرن التاسع عشر، وجذب إليه جماعة من الفنانين ممن رافقوا الجيش الفرنسي في حملة احتلال الجزائر وتونس فيما بعد، وقد عملوا على تمجيد بونابرت فظهر الشرق في لوحاتهم كما يريده بطلهم. في الإطار نفسه تأتي لوحة الفنّان جاك لوي دافيد الملحمية “ليونيداس في معركة ثيرموبيلي” التي صور فيها الصمود الأخير لأهل اسبارطة وتكفي نظرة سريعة للوقوع على الفارق في النظر الى المعركة. ها هنا تمجيد للبطولة والتضحية التي قام بها جيش إسبارطة اليونانية لإبطاء تقدّم الجيش الفارسي عبر ممرّ جبلي ضيّق. وقصة اللوحة أن جاك لوي دافيد الذي تسيطر على عقله النزعة البطولية قام في أواخر القرن الثامن عشر برسم مناظر من التاريخ الروماني القديم. وقد ساعدت تلك الصور التي تمجّد التضحية في سبيل الوطن في صياغة عقلية الثورة الفرنسية. وخلال سنوات الثورة، دافع الرسّام عن المجرم المتعصّب مارات الذي كان مسؤولًا عما عُرف بعهد الرعب الذي سُفكت خلاله دماء الكثير من الأبرياء. وعندما مات، نعاه دافيد بلوحة مشهورة صوّر فيها حادثة مقتله. وفيما بعد أصبح دافيد الفنان الرسمي لـ نابليون. ثم شارك هو وأتباعه وتلاميذه في مديح حكم نابليون وتمجيد غزواته وحملاته العسكرية الكثيرة. ولم يكن دافيد استثناء للقاعدة، فرسّامو المواضيع التاريخية في الماضي كانوا يتبنّون هذا النوع من التفكير، ويعتبرون الحروب بطولة ورعب في نفس الوقت. أكمل دافيد اللوحة عام 1841، أي في السنة التي تنازل فيها نابليون عن العرش. أما الفنان تيودور شاسريو (1819 ـ 1856) الذي يُعد من أبرز الرومانسيين الذين أقحموا فن التصوير الجداري بشقيه الديني ـ الميثولوجي، والتاريخي ـ الميثولوجي، في فلك الفكر الرومانسي الجمالي الاستشراقي وللمرة الأولى في تاريخ فرنسا الفني عموماً. ومن أعماله: الفرسان العرب في معركة. ومن الفنانين الذين جسدوا في أعمالهم الشرقي متوحشا وعاشقا للدماء هنري رينوا (1843 ـ 1871) أحد الرواد الثائرين في الحركة الرومانسية. كان مغامراً يعشق الإثارة وقد امتلأت حياته بالحزن والفقر. رحل الى المغرب واستقر في طنجة وتمكن مع صديقه الرسام كلارين من إقناع بعض الفتيات المغربيات اليهوديات برسمهن. درس العربية وأنهى رسم لوحته “سالومي” 1870. صور في لوحته “إعدام عاجل بيد ملوك العرب في غرناطة” العرب الحقيقيين كما يراهم، والذين هم في نظره أثرياء وعظماء ومرعبون وشهوانيون ودمويون. وبعد،،، ذات مرة كتب الفنان الألماني “كارل هاج” عام 1858م قائلاً: “ليعلم هؤلاء الذين يبحثون عن مادة مثيرة يرسمونها أن عليهم أن يتوجهوا إلى القاهرة، وليعلموا أن هناك “قاهرة” واحدة فقط، وعلى الفنانيين أن يروها. فإني واثق من الحصيلة الرائعة التي سيعودون بها. إن كنوز الإلهام تكمن هناك على ضفاف نيلها، وبين قلاعها ومساجدها، وفي شوارعها، وأزقتها ذوات الطابع الشعبي العربي الأصيل الخ.. هناك سيختلط خيال الفنان بهذا الواقع المثير حقا ليجعل تلك الصور النابضة بالحياة أسطورة فنية شرقية خالدة”. لكن بالمقابل في كتابه “السراب الشرقي” وصف لويس برتران الشرق: “بالمزبلة، فهو لم يلحظ اثناء رحلته، سوى الأوساخ والتعفن”. وأضاف: “إنكم، لا تعلمون حقيقة الشرق إنه القذارة، والسرقة، والانحطاط، والاحتيال، والقساوة، والتعصب، والحماقة. نعم إني أكره الشرق، وأكره الشرقيين، اولئك المعتمرون بالطرابيش والمتهللون بالسبحات”. بين “هاج”، و”برتران”.. صُور الشرق إما باعتباره “جنة عدن، وأرض العسل واللبن” أو باعتباره وكراً للتخلف مما يفرض على الغرب المتحضر القيام بمهمة تمدينه النبيلة!. وفي الحالتين كان النص الاستشراقي التصويري التعبيري ينافس الكتابة الاستشراقية وربما يفوقها أحياناً في تكريس صورة العرب النمطية في العقل الغربي وهي الصورة التي مازال العرب يدفعون ثمنها إلى الآن . لوحة الغلاف: نابليون بونابرت بريشة جون لوي دافيد
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©