الجمعة 26 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

عن علاقة التطابق والإغواء

عن علاقة التطابق والإغواء
22 سبتمبر 2010 20:46
تحت عنوان “الثقافة العربية والمرجعيات المستعارة” صدر للكاتب الدكتور عبدالله إبراهيم، كتاب جديد يكشف فيه المسار الخاص بتطوّر الثقافة الحديثة، وهي صورة شديدة التعقيد تتضارب فيها التصورات، والرؤى، والمناهج، والمفاهيم، والمرجعيات، ولا يأخذ هذا التضارب شكل تفاعل وحوار، إنما يمتثل لمعادلة الإقصاء والاستبعاد من جهة، والاستحواذ السلبي والاستئثار من جهة ثانية. وقد أفضى تعارض الأنساق الثقافية فيها إلى نتيجة خطيرة، وهي: أن الثقافة العربية الحديثة أصبحت ثقافة مطابقة وليس ثقافة اختلاف. فهي في جملة ممارساتها العامة، واتجاهاتها الرئيسة، تهتدي بـ “مرجعيات” متصلة بظروف تاريخية مختلفة عن ظروفها، فمرّة تتطابق مع مرجعيات ثقافية أفرزتها منظومات حضارية لها شروطها الخاصة، ومرة تتطابق مع مرجعيات ذاتية تجريدية متصلة بنموذج فكري قديم، ترتبط مضامينه بالفروض الفكرية والدينية الشائعة آنذاك؛ فتندرج الثقافة في علاقة ملتبسة يشوبها الإغواء الأيديولوجي مع الآخر والماضي بحيث أصبح حضورهما استعارة جردت من شروطها التاريخية، ووظفت في سياقات مختلفة. ومن الطبيعي أن يؤدي كل هذا إلى تمزيق النسيج الداخلي للثقافة العربية الحديثة إلى درجة أصبحت فيها التناقضات ظاهرة لا تخفى، فتتجلى بصور النبذ، والإقصاء، والاستبعاد المتبادل بين الممارسات الفكرية التي تستثمر هذه المرجعية أو تلك ضد أخرى، ومن خلال إشكال التمويه، والتخفي، والإكراه، والتنكر الذي تأخذه المفاهيم، والمناهج، والرؤى، وهي توظف بأساليب لا تأخذ في الاعتبار درجة الملاءمة بين هذه العناصر والسياقات التي تستعمل فيها. إلى هذا يضاف التعسّف في إخضاعها لأنساق لا صلة لها بأنساقها الأصلية، الأمر الذي نتج عنه إبهام في كل ما يتصل بتلك العناصر، وكل هذا يعمّق نوعا من الثقافة المسطحة التي تغيب عنها الفرضيات الكبرى، والأسئلة الجوهرية. لا يخفى أن لكل ذلك أسبابه التاريخية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية، بحسب المؤلف، وتتوزع تلك الأسباب ليتصل بعضها بالثقافة الغربية وبعضها بالثقافة العربية. النموذج الغربي فمن ناحية تمكن الغرب من بناء نموذجه الثقافي بمظاهره العلمية والفلسفية والسياسية والاقتصادية منذ عصر النهضة، وبفعل جملة التطورات الخاصة به، تمركز ذلك النموذج حول ذاته في حركة محورية، أدت إلى ظهور المركزية الغربية بكل إشكالياتها التي صاغت الفكر الغربي الحديث صوغاً يوافق مقولات التفوق العرقي والثقافي والديني، وتطورت نزعة التمركز، فطرحت مفهوماً متصلاً بفرضية التمركز نفسها، وهو مفهوم العولمة وبهذا امتد الطموح ليشمل العالم بأجمعه، ويدرجه ضمن رؤية غربية مستمدة من الفرضية المذكورة مع مراعاة شرط التراتب والتفاضل والتمايز بين ما هو غربي وما ليس كذلك. ومن ناحية أخرى لم تفلح الثقافة العربية في بلورة ملامح خاصة بها، وظلت أسيرة مجموعة من الرهانات المتصلة بغيرها. ومن المعلوم أن لذلك أسبابه الكثيرة، منها ما يتعلق بكيفيات التحديث، ومنها ما يتعلّق بطبيعة الصلة مع الماضي. وهذا الاضطراب مزّق النسيج الداخلي للثقافة العربية، وأدخل في ممارساتها عناصر متضادة ومتعارضة، استخدمت بوصفها منشطات أكثر ما هي مكوّنات فاعلة، وبعبارة أخرى، فقد اخترقت أنساق ثقافية مستعارة نسيج الثقافة العربية، الذي كان مهيأ للاختراق، فأدى ذلك إلى نوع من التهجين دون أن يتمخض عن مكوّن متطابق مع مرجعيات مختلفة عمّا ينبغي أن تكون له. ويرى المؤلف أن تم التأكيد كثيرا على أنّ الغاية الأساسية لنزعة العولمة هي تركيب عالم متجانس تحل فيه وحدة القيم، والتصورات، والغايات، والرؤى، والأهداف محل التشتت، والتمزق، والفرقة، وتقاطع الأنساق الثقافية. ولكن هذه النزعة تختزل العالم إلى مفهوم، بدل أن تتعامل معه على أنه تشكيل متنوع من القوى، والإرادات، والانتماءات، والثقافات، والتطلعات. ووحدة لا تقر بالتنوع ستؤدي إلى تفجير نزعات التعصب المغلفة، والمطالبة بالخصوصيات الضيقة، فالعولمة بتعميمها النموذج الغربي على مستوى العالم، واستبعادها التشكيلات الثقافية الأصلية، إنما توقد شرارة التفرّد الأعمى؛ ذلك أن بسط نموذج ثقافي بالقوة لا يؤدي إلى حل المشكلات الخاصة بالهوية والانتماء، إنما يتسبب بظهور أيديولوجيات متطرفة تدفع بمفاهيم جديدة حول نقاء الأصل وصفاء الهوية. إلى ذلك فإن عملية محاكاة النموذج الغربي ستقود إلى سلسلة لا نهائية من التقليد المفتعل الذي فيه التصورات، وهو يصطدم بالنماذج الموروثة التي ستبعث على إنها نظم رمزية تمثل رأسمال قابل للاستثمار الأيديولوجي عرقياً وثقافياً ودينياً. وفي رأيه المؤلف أنه لا يمكن إجراء رصد ختامي لما أفضت إليه العولمة، سواء أكانت ممارسات متنوعة ظهرت منذ أن استقام أمر التمركز الغربي، أم منذ أن ظهرت حديثاً على أنها نزعة فكرية نظرية. ولكن الأمر الذي يمكن رصده هو أن العولمة خلقت إمكانات واسعة السيادة الولاء للآخر، وهيمنة الفكر الامتثالي، واختزال الذات إلى عنصر هامشي، واستبعاد المكونات القابلة للتطور والنمو، وتفجير الحراك الاجتماعي بصورة فوضوية. وكل ذلك أدى إلى انهيارات متعاقبة في الأنساق الثقافية غير الغربية. وبقدر تعلّق الأمر بالثقافة العربية الحديثة، فإن حصر النتائج أمر لا يمكن تحقيقه؛ فالمؤثرات الغربية وموجهاتها ومحمولاتها ومرجعياتها، غذّت ومنذ مدة طويلة، كثيراً من الممارسات الثقافية، وقد رصد في هذا الكتاب نماذج منها في بعض الميادين مثل: المناهج، والمفاهيم، والرؤى، قاصدين بيان الكيفية التي تغلغلت فيها المرجعيات والمؤثرات في صلب الثقافة العربية الحديثة، والآثار التي ترتبت على ذلك، انطلاقاً من رؤية تؤكد أن نقد الثقافة المطابقة هو السبيل إلى ظهور ثقافة الاختلاف. ويأخذ مصطلح الحوار، في الكتاب، دلالته من كونه نقطة تلتقي فيها مقاصد الناقد بالمقاصد المضمرة للنصوص ضمن سياق ثقافي معّين، بما يفضي إلى ضرب من التفاعل يصطلح عليه في الأدبيات النقدية بالقراءة ويقصد بها: استراتيجية تعويم المقاصد المضمرة في النصوص الأدبية، استناداً إلى حيثيات منهجية منظمة يتوفر عليها الناقد، وهو يقارب العالم المتخيّل لتلك النصوص. مفاهيم واصطلاحات وفي فصل معنون بـ”مفهوم الهوية الثقافية بين التقليد والتجديد وفي مدخله” تشتبك الثنائيات الضدية والذي يعنى هذا الفصل بالاستراتيجية التي اقترحها زكي نجيب محمود لتجديد الفكر العربي، نموذجاً للاستنطاق والتحليل، على الرغم من أنه نثر أفكاره حول هذه القضية في أكثر من كتاب وبحث، بل وكانت إحدى شواغله الفكرية الأساسية في المرحلة الثانية من حياته الفلسفية. البحث في الموجهات التي صدر عنها في رؤيته، وجملة الاقتراحات التي قدمها في هذا الشأن، تكشف طبيعته رؤيته وتصوراته لتجديد الفكر العربي، الأمر الذي يلزمنا، الحفر في كل ذلك، بغية تحديد تلك الاستراتيجية، كونها تندرج في سلسلة إسهامات، تهدف إلى المشاركة في تحديد معالم الهوية الثقافية بإزاء تحديين كبيرين أولهما: ما انحدر إلينا من الماضي، وثانيهما: ما وفد علينا من الغرب. أما في المعرفة والممارسة الاصطلاحية والتي هي تحت عنوان المصطلح والانزياحات الدلالية، فيمارس المصطلح دوراً أساسياً في تكوين المعرفة، وفي الوقت نفسه، فإن حقل المعرفة الذي يتشكل فيه المصطلح، يوجه مفهومه، ويحدد دلالته، ذلك أن المفهوم الذي ينطوي عليه شكل المصطلح، يتعدد، تبعاً لتعدد حقول المعرفة من جهة، وتبعاً للأثر التاريخي الذي يتطور في ضوئه ذلك الحقل. ميدان البحث في الأصول الاصطلاحية للمفاهيم المعرفية، يصعب ضبط حدوده، ولا تتأتى تلك الصعوبة، بسبب من مراحل الغموض والانقطاع والعدول، التي تتصف بها عادة أعمار المفاهيم وحسب، وإنما تتأتى أيضاً من حالات مؤثرة أخرى، غالباً ما تعمل على تغيير الأطر الدلالية العامة لمفهوم المصطلح، مثل: الضمور الدلالي، والتضخم الدلالي، أو الانحراف الدلالي، بسبب اتساع حقل المعرفة، وتشابكه مع حقول معرفية مجاورة. وكل هذا، يعرّض المفهوم الأصل للمصطلح إلى هزات عنيفة، وربما يفضي الأمر إلى حدوث تخريب دلالي في مبنية المصطلح الشكلية والدلالية. لقد أصبح معروفاً الآن، أن المعرفة، التي هي خلاصة الممارسات العقلية للإنسان، تتشكل ضمن أطر ثقافية وحضارية محددة، وتدخل في علاقة حوار ومثاقفة مع أطر ثقافية وحضارية أخرى، بسبب الحاجة، أو بفعل الاتصال، ومن ثم فالمعرفة تنتج أجهزة اصطلاحية، تستدعيها الحاجة المباشرة أو غير المباشرة في عملية التكوين المعرفي، سواء على صعيد الممارسة، أو على صعيد الإجراءات النظرية. كذلك نلاحظ أن الكاتب، من فرط حبه للثقافة العربية، التي هي خبزه وهواؤه، فالمتجول بين الأبواب والفصول في هذا الكتاب، كالمتنزه بين الجنائن وحدائق الورود، يلائم القارئ المعاني مع المواقف، ويوائم الكلمات مع الأفكار، فتخرج المقاطع ناضجة عند الإقناع.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©