الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

«الأميركي».. سينما مرهفة في مناخ قاسٍ

«الأميركي».. سينما مرهفة في مناخ قاسٍ
22 سبتمبر 2010 21:07
قليلة هي الأفلام التي استطاعت خلال الموسم الحالي أن تمسك عصا الفن السينمائي من المنتصف، أو على الأقل استطاعت أن تنحاز أكثر للمستوى البصري والأدائي مقارنة بطغيان السينما السائدة والمنزوعة من روح ونكهة وجماليات الصورة الساحرة والمنتمية لأصالتها وتفردها. فبعد انتشار موضة السينما المحتشدة بالإثارة والضجيج والصورة ثلاثية الأبعاد، الساعية لتخريب الذوق السينمائي، وانتهاك خصوصية الفرجة، وتشويش طقس المشاهدة القياسية، بات البحث عن سينما (الحنين) أو السينما الناجية من عبث التطوير وجشع المنتجين، أشبه بالبحث عن فردوس بصري مفقود ومغيب وآيل للانقراض. ندرة الأفلام المتقنة والمتماسكة شكلاً ومضموناً خلال السنوات الماضية، بات مقروناً بندرة السينمائيين المخلصين والمجازفين الذين يقطعون لوحدهم الموجة السائدة والجارفة، فيما يشبه المغامرة الجمالية والمقاومة الفنية النابعة من الذات والمتجاوزة لعقدة السوق وعقدة المنتج الأحادي التفكير والهوى والتوجه. وفيلم مثل “الأميركي” The American الذي عرض في صالات السينما المحلية مؤخراً يقدم نموذجاً واضحاً لهذه المقاومة النقية ـ إذا صح الوصف ـ لأن نقاوتها تنبع من رغبة مشتركة تجمع بين المخرج أنطون كوربين والممثل جورج كلوني والمنتج جرانت هيسلوف من أجل إنقاذ السينما الخالصة، أو على الأقل المتخلصة من الشاشة المتخمة بكل شيء، ما عدا الوعي بالفن وبالقيمة الإنسانية والجمالية المقدمة للمشاهد. الاعتناء بالتفاصيل والتعاون أو الشراكة الفنية الخاصة التي جمعت بين كلوني وهيسلوف انطلقت أولى شرارتها في العام 2005 من خلال إنتاج هيسلوف لفيلم “ليلة سعيدة، حظ سعيد” وهو من تمثيل وإخراج كلوني، وفي العام 2008 أنتج هيسلوف فيلم “قبعات جلدية” مع كلوني في دور البطولة، وفي العام الماضي أخرج هيسلوف أول أفلامه الروائية الطويلة، وهو فيلم: “رجال يحدقون في الماعز” من بطولة كلوني أيضاً، وعرض في حفل اليوم الختامي لمهرجان أبوظبي السينمائي الدولي، ويبدو أن تعاون كلوني وهيسلوف هذه المرة مع المخرج الهولندي كوربين في فيلم “الأميركي”، هو تعاون يعكس طبيعة خياراتهما السينمائية المختلفة والمتفردة، فكوربين يتكئ على مرجعية فنية خاصة قوامها العشق الكبير للموسيقى والولع الشخصي بالتصوير الفوتوغرافي وفن البورتريه، وعلى الرغم من رصيده الإخراجي القليل على مستوى الأفلام الروائية الطويلة ـ قدّم فيلماً وحيداً بعنوان “تحكّم” ـ إلا أن موهبة كوربين في التقاط أدق التفاصيل البصرية وانتصاره للطاقة الجمالية والنفسية التي يخزنها المشهد السينمائي، واهتمامه الملحوظ بقيمة وقوة الكادر واللقطة المقربة والمشاهد البانورامية، أهلته وجعلته الشخص المناسب للتصدي لفيلم مثل “الأميركي” الذي يتطلب معالجات إخراجية خاصة تضيء وتشرح حياة شخص غامض ومتوحد في بيئة معزولة ونائية وملأى بجمالها المرهف وطبيعتها الموحشة في الوقت ذاته. الفيلم مقتبس من رواية “شخص وحيد جداً” للكاتب الإنجليزي مارتن بوث الذي يصور حياة قاتل انجليزي محترف يأمل أن تنتهي مهمته الأخيرة من دون عواقب، كي يشرع في البحث عن خلاص داخلي، هرباً من براثن القلق والهواجس النفسية المدمرة، استثمر المخرج كوربين هذا الخيط النفسي، وقام ببعض التغييرات والتحويرات المتعلقة بالشخصية الرئيسية ـ أصبح البطل أميركياً في الفيلم ـ كي يصيغ ويخلق عالماً روائياً خاصاً يقوم على الدراسة المعمقة للشخصية، وتهيئة السينوغرافيا والديكورات الطبيعية التي تعزز المناخ المغلق والقاتم لقصص هكذا، على الرغم من توافر الفيلم أيضاً على إثارة خارجية مردها المطاردات التي يتعرض لها البطل، وكذلك المؤامرات التي تحاك ضده في الخفاء. يتحدث الفيلم عن القاتل الأميركي المأجور (جاك) ـ جورج كلوني ـ الذي يتعرض بعد إنجازه للمهمة الموكلة إليه في السويد إلى مطاردة دموية من قبل عصابة سويدية مجهولة، وتنتهي المطاردة بتصفية جاك لأفراد العصابة وسط الثلوج المترامية، ويقوم كذلك بقتل صديقته بدم بارد حتى لا تتحول إلى شاهد يفضح سره الذي لا يعرفه سوى الشخص الوحيد الذي يوجهه ويمول عملياته في أوروبا. حياة ممزقة هذا الاستهلال المثير للفيلم منذ البداية لن يكون سوى فخ محكم يهيأه المخرج للمشاهد، كي يورطه بعد ذلك في إيقاع سردي بطيء ومتمهل يتناوب وسط كادرات بانورامية تعكس جماليات وقسوة الطبيعة وكادرات أخرى مقربة جداً تترجم الحالة الداخلية القائمة على الحذر والشك لدى البطل، يلجأ ـ جاك ـ إلى قرية نائية في مقاطعة (أبروزو) الإيطالية بعد أن يتلقى تعليمات محددة من رئيسه كي يقوم بمهمة أخيرة تتمثل في تركيب بندقية ذات مواصفات خاصة وتسليمها لامرأة بلجيكية تعمل هي الأخرى كقاتلة مأجورة من أجل تصفية إحدى الشخصيات النافذة في بلدها، وأثناء إقامته في البلدة الإيطالية وتحضيره للمهمة يتعرف جاك إلى القس بينديتو (يقوم بدوره الممثل الإيطالي المخضرم باولو بوناسيللي)، ومن خلال حواراتهما وصداقتهما العابرة يكتشف القس أن ثمة شرخاً داخلياً عميقاً يعانيه جاك ولكنه غير قادر على التعامل معه والخلاص منه، بينما يؤكد جاك للقس أن الخطايا والآثام هي نتاج طبيعي لوجودنا في هذه الحياة، وأنه لا مفر من النهايات السوداوية التي تجثم مثل قدر محتوم على مصائر بعض الأشخاص، والذي يعتبر نفسه واحداً منهم، الشخصية الثانية التي يتعرف إليها جاك في تلك القرية الصغيرة، هي فتاة الليل كلارا (تقوم بدورها الممثلة الإيطالية فيولانتي بلاسيدو) التي تلامس فيه جانباً مطموراً ومغيباً، ويشعر بأنها قادرة على شفاء جروحه الداخلية وترميم حياته الممزقة والمنذورة دوماً للخطر. هذه العلاقة العاطفية المتنامية تنبه جاك بوجود حياة أخرى زاهية عليه أن يعيشها ويجربها فيطلب من رئيسه أن يعتقه، وأن يمنحه الحرية بعد أن ينهي مهمته في إيطاليا، ولكن مثل هذا الطلب المستحيل في العالم السري والمظلم لأرباب الجريمة المنظمة، هو طلب أشبه بالانتحار والهلاك الذاتي المحتم، فجاك القاتل الشرس الذي يخفي هويته عن أهل القرية ويدعي بأنه مصور فوتوغرافي، يمارس هواية خفية أخرى قادرة على تذكيره بإنسانيته على الأقل، وهي دراسة الفراشات الآيلة للانقراض، ويضع على جسده وشماً لإحدى هذه الفراشات، لدرجة أن عشيقته تطلق عليه لقب (الرجل الفراشة)، ويبدو جاك هنا وكأنه يضع مصيره في مسار متقاطع مع مصير هذه الفراشات الموشكة على الهلاك، فلقطة النهاية المؤثرة والموظفة بعناية ورمزية عالية في الفيلم تكشف الكثير من التناغم المدمر الذي يتحول فيه بعض الأشخاص إلى كائنات محكومة بالموت والانقراض، لأنها في الأساس كائنات هشة وغير قادرة على التكيف مع الطفرات والتغيرات الهائلة والموجعة التي تفاجئهم بها الظروف والأقدار والمرارات الشائكة في الحياة. أطياف هيتشكوك استطاع جورج كلوني من خلال تقمصه لهذه الشخصية المركبة أن يؤكد انتماءه لطينة الممثلين الكبار الذين يملكون طاقة أدائية هائلة، ولكنهم لا يستنزفونها في الأداء الاستعراضي المبالغ به، كما أنه استطاع من خلال ملامحه وتعابيره الهادئة أن يجسد الأزمة الوجودية لقاتل مأجور يتعذب بصمت، ويحاول أن يستعيد حياته التي تاهت وتشتت في غابة العنف والجريمة والسوداوية المطلقة، كما أنه نجح وبشكل كبير في إيصال الحالة المأساوية الدفينة والمستترة في نفسية القاتل المأجور، والذي لا يفصله عن الموت والحياة سوى خيط رفيع من اللحظات الجميلة والمسروقة، والتي يمكن أن تتحول فجأة إلى خيوط من الوهم والعدم والعجز الكامل لحياة تنجرف ببطء نحو الهاوية المدبرة سلفاً. أما المخرج انطون كوربين فقد استعان في الفيلم بتكنيك بصري قريب من أسلوبه الجمالي مع فن التصوير الفوتوغرافي، فوسط الطبيعة الريفية التي تصيب المتفرج بنوع من الخدر التأملي استطاع كوربين أن يمزج بين الرهافة الخارجية والعنف الداخلي للشخصية كي يخرج بتركيبة بصرية غاية في الحميمية والتشخيص لقيمة وتأثير اللقطة نفسياً ودرامياً، واتبع المخرج نداء الحساسية الفنية في الأفلام الأوروبية كي يمنح فيلمه طابعاً يجمع بين التشويق الخارجي والنزعة الروحانية، فتداخلت في الفيلم أطياف المدارس السينمائية العتيدة، فمن الأسلوب الهيتشكوكي القائم على إحداث الصدمة الداخلية والترقب وتصعيد لحظات الخوف باتجاه الذروة، إلى أسلوب السينما الواقعية التي تهتم بتفاصيل المكان واللقطات الارتجالية والعفوية وإعطاء مساحة للسرد المتمهل والإيقاع المتسلسل للزمن، وأخيراً فإن المخرج استطاع أن يقدم فيلماً بوجهة نظر لا تتخلى عن ذوق المشاهد الانتقائي ذي الخبرة السينمائية المتراكمة والواعية لخياراتها أيضاً.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©