الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

ذاكرة الإمارات.. تتكلم

ذاكرة الإمارات.. تتكلم
25 يونيو 2013 21:26
يكتب تاريخ الإمارات الحديث من خلال شفاه رواة عاشوا حياتهم بين أحضان أرض توزعت بين البحر والبر. لا أحد لم يركب البحر، ولا أحد لم يركب ظهر الجمل، ولا أحد لم يمتلك حكاية. كان لي أن أقرأ هذا الكتاب الذي يروي تاريخ الإمارات، وقادني شغفي به منذ صفحاته الأولى أن أذهب وراء الحكاية فيه، الحكاية بمعناها الواقعي، حتى وإن خالطها شيء من العجائبية والغرائبية. رجال رووا قصصاً بالرغم من قسوتها في حياة شظفة العيش إلا أنها تكشف عن معدنهم. رجال صاروا أغنى الأغنياء بالصدفة، وآخرون اعتمدوا ذكاء لا يصدق، وآخرون بسطاء قادتهم بساطتهم إلى أن يؤثروا في الحياة المدنية. هناك حياة خارج السياسة، هناك رجال ذهبوا بتلك الحياة إلى أقصاها، عاشوها بترحال وغوص في لجج البحر وهم في ذلك يعتمدون على فطرتهم التي تقودهم إلى لقمة عيشهم. يعطيني هذا الكتاب للمؤلف الباحث عبد الله عبد الرحمن والمعنون بـ “فنجان قهوة ـ الإمارات في ذاكرة أبنائها” (الصادر في ثلاثة أجزاء عن دار الكتب الوطنية التابعة لهيئة أبوظبي للسياحة والثقافة) حكايات لا حدود لها، في ثلاثة أجزاء تناول الأول الحياة الثقافية والثاني الحياة الاجتماعية والثالث الحياة الاقتصادية وفي جميعها تبدو الأشياء تتعالق مع بعضها. وربما يتساءل الكثيرون، ما طبيعة هذا الكتاب، هل هو كتاب يعتمد الغرائبي من الأحداث، أم يكشف عن خصائص وسمات حقبة من زمن كان الإنسان فيه بسيطاً لا أحلام بعيدة لديه أكثر من لقمة العيش، أم أن الحكايات فيه هي التي تشد القارئ إليها، أم أن القارئ يتساءل بعد أن يقرأ ما يقوله الرواة كيف تسنى لهؤلاء الناس أن يعيشوا حياة قاسية كهذه، حياة مليئة بالعزلة بين البحر والبر بالرغم من أنهم قريبون من مواطن امتلكت تمدناً واضحاً، وقد يستنتج أن هؤلاء الناس كان لهم في أرضهم حياة، لم يفرطوا بها. المشهد الثقافي خصص المؤلف الكتاب الأول للحياة الثقافية العامة، فتنقل بين مجالس كبار المثقفين من الرعيل الأول، ممن عرفت لهم مكانة خاصة في أوساطهم لانحدارهم من بيوت علم عريقة، أو عملهم كقضاة أو ذيوع صيتهم كشعراء أو كتاب ومصورين، ففي مجلس الشيخ مجرن بن محمد المجرن يستعرض تاريخ العائلة الشهير والممتد في سلك القضاء وعملهم على نشر العلم في الشارقة والعين في وقت انتشر فيه الجهل والفقر والمرض والاستعمار، ويكشف عن الوجه الآخر لخلف بن عبد الله العتيبة “ملك اللؤلؤ” كما يصفه حيث أسس أول مدرسة في أبوظبي دامت 30 عاماً قبل التعليم النظامي، ويسلط الضوء على شخصية المطوع درويش بن كرم الذي عرفته أبوظبي معلماً وإماماً وخطيباً ومأذوناً وطبيباً شعبياً، ومن ثم مديراً لديوان الحاكم وعدد من الخدمات الحكومية في الإمارة، ويتتبع تاريخ أول مجلة عرفتها الإمارات والتي أنشأها مصبح بن عبيد الظاهري من مقهاه الشعبي في العين والتي كانت تعرف بمجلة “النخي”، كما يدون المؤلف سيرة حياة ومأثورات سماحة الشيخ أحمد بن عبد العزيز آل مبارك سليل أسرة عريقة من المشايخ والعلماء اللامعين في منطقة الخليج والذي قطن أبوظبي ورأس المناصب القضائية العليا فيها، وغيرهم من الشخصيات التي ساهمت في تشكيل المشهد الثقافي والمعرفي الغني في الإمارات في فترة مبكرة قبل الاتحاد. حسناً لنقرأ ماذا قال هؤلاء الرواة عن حياتهم ولنبدأ تصفح الكتاب مع حياة الشيخ مجرن بن محمد بن أحمد بن سلطان المجرن الذي كان قاضيا في أبوظبي بعد وفاة والده حيث يقول: “لقد واصلت ممارسة القضاء في أبوظبي والعين سنوات بعد وفاة الوالد قبل انتقالي إلى دبي، كما أنني في تلك الفترة أيضاً كنت معلماً لكثير من طلبة العلم في العين خاصة”. أعادها لزوجها ذلك هو حال القضاء في تلك الحقبة حيث يتذكر أحمد بن عبد الرحمن بن حافظ عن والده بعضاً من المواقف والقضايا الجدلية المعبرة عن سعة علم والده، وثقة فتاويه وأحكامه، فيقول: “إن أحد وجهاء دبي كان قد طلق زوجته، ثم حين هدأت ثورة أعصابه نوى على استرجاعها، فاستفتى في الأمر بعض المشايخ على رأسهم كان الشيخ حسن الخزرجي، فافتوا على أن الزوجة طالق ولا يجوز استرجاعها شرعاً، وبقيت الفتوى سارية قرابة 4 سنوات حين التقى الرجل ذات يوم بالشيخ عبد الرحمن بن حافظ، فروى له الحكاية، وسأله عن رأيه، فطلب منه بن حافظ أن يتذكر لفظة عبارة الطلاق، فتذكرها الرجل، وبعد مراجعة الشيخ لكتبه ومستنداته من الكتاب والسنة أفتى له.. بأن الزوجة لها رجوع، وحينما أبلغ الشيخ حسن الخزرجي بالفتوى قال: إن بيني وبينه السؤال، إذ سنرسل القضية إلى العلماء في الخارج، وحسب إجاباتهم يكون الحكم بيننا”. ويواصل “وبالفعل أرسلت نسخة من القضية للشيخ سلطان العلماء في لنجة، ونسخة أخرى إلى أحد كبار العلماء في مكة المكرمة، وجاءت الردود بعد فترة، فإذا بها كما حكم الشيخ بن حافظ، فعادت الزوجة لزوجها. ولقد سمعت هذه الرواية في الماضي من الوالد ومن غيره، وعن قريب سمعتها أيضاً من ابن ذلك الزوج، وأخبرني بلفظ العبارة”. الجمل والصديق ويروي عبد الله عبد الرحمن في كتابه أن ثمة قضية أخرى حيرت بعض المشاريخ والقضاة، واستخرج الشيخ ابن حافظ حكمها من بطون مراجعه، هي أن رجلاً كان قد استعار جملاً من صديق له على أن يصل على ظهره من منطقة لأخرى، ليقضي غرضه ويعود متعهداً على ألا يحمل الجمل، أي شحنة من البضائع أو غيرها. وخلال مسيرة رحلته فوجئ بنفوق الجمل، فعاد وأخبر صاحبه بالأمر. ولأن الرجل كان فقيراً فقد طالبه بالتعويض، بينما ادعى الآخر أنه التزم بتعهده ولم يحمل الجمل فوق طاقته، ولم يضربه أو يتسبب عمداً في ذلك، وإنما الذي حدث كان قضاء وقدراً، فلجأ صاحب الجمل إلى القضاء واشتكى عليه، وعند سماع القضاة لأقوال الطرفين احتاروا في الأمر، فعرضت القضية على الشيخ ابن حافظ الذي حكم بأن يعوض المستعير صاحبه قيمة الجمل. عند سؤاله عن سر هذا الحكم قال: لو كان الرجل قد استأجر الجمل ولو بشيء رمزي قليل فإنه سيكون معفياً من التعويض في هذه الحالة، أما لأنه استعاره فهو أمانة يجب إعادتها وافية، فاقتنع الجميع بالحكم”. البحر ورجاله لا أحد يتوقع ان يكن على ظهر السفن “مطاوعة” ولكن هذا ما يرويه كتاب “الامارات في ذاكرة ابنائها” حيث يقول الشيخ أحمد بن ابراهيم بن طاهر: “أذكر بالمناسبة حين أخبرني الوالد وأنا صغير السن وقد كان عائداً من إحدى رحلات الغوص فقال: كنا في (محمل)؛ أي سفينة سيف العبدولي، وذات يوم من أيام العمل كنت أقف بجانب “النوخدة” على ظهر السفينة، فإذا (بالسيوب) قد سحبوا خمسة غواصين من قاع مغاص “أبو البخوش”، وكأنهم قطع من الخشب، كانوا متيبسين تماماً.. فصرخ “النوخذة” بأن “أرقوهم” فوق، أي ارفعوهم إلى ظهر السفينة حتى يقرأ عليهم المطوع، لكنني سرعان ما اعترضت وأمرت بأن يبقوا معلقين في صف واحد على (التريجة)؛ أي على حافة السفينة. وأضاف الوالد: كنت أحمل “خيزرانة”؛ أي عصا محنية الطرف، فقرأت عليها آيات من القرآن وأسماء الله الحسنى، ثم بللت ذلك الطرف المنحني من العصا بريقي ووضعته في أذني وبدأت انفخ على العصا، وما هي إلا لحظات حتى صرخ “الجني” الذي كان متلبساً أحد الغاصة الخمسة، ويقول: “دخيل الله يا شيخ! سأخرج وسأتركه”.. وظللت أنفخ حتى أخذت من “الجني” عهد الله وميثاقه بألا يقترب من الغواص الذي سيمارس عمله ليل نهار في البحر، وإلا فإنه سيعاقب بكلام الملك العلام. وحين يتحرر الغواص من (الجني) ويعود إلى القاع لممارسة عمله طبيعياً يأتي دور الغواص المصاب الثاني، وكذلك كنت أفعل به بواسطة العصا وآيات القرآن، وبعده الثالث، والرابع، ثم الخامس. أخبرني الوالد بذلك الحادث وأنا صغير وكدت أنفجر من الضحك على “خروفة” الشيبة، بعدها بأيام زرنا رأس الخيمة، وهناك التقينا بواحد ممن رافقوا الوالد في تلك الرحلة المعنية، وبعد السلام قال لي الرجل: عساك إن شاء الله تقدر مثل الشيبة “الوالد”. قلت: في أي شيء؟ قال: “يا ولدي خمسة على هير أبو البخوش، وهم مكفوخين في القوع، وأحلف لك يمين أن النوخذة أراد (يرقاهم) لكن أباك اعترض.. بالعصا فقط رجعوا البحر بخير”.. فصدّقت الحكاية”. ويروي الشيخ أحمد بن ابراهيم بن طاهر واصفا حال ذاك الزمان فيقول: “وبعد سنوات من توقف الغوص، وانتقالنا إلى دبا، جاء الغلاء وتغيرت الأحوال، فبعد أن كانت الذبيحة تباع بنصف روبية والأزار بأربع أنات والعيش (البلم ـ كلكلته) الكيس بخمس روبيات وقُلة التمر البصري بروبية.. بعد ذلك انعدمت الأشياء، وأصبح سعر الذراع الواحد من القماش المسمى (سيم الخادم) وهو ذلك الأسود الغليظ روبيتين ونصف روبية، وذلك مبلغ كبير في تلك الأيام، وأصبح الناس يقلون الشعير بدلاً من القهوة.. تلك كانت في سنوات الحرب العالمية الثانية، حين كنا نرى الطائرات كالنجمة في سماء المنطقة، وحين تنخفض شيئاً فشيئاً كان الشباب يصوبون إليها بنادقهم ويطلقون باتجاهها الرصاص.. ولكن “ الحمد لله ـ لم تطل سنوات المتاعب والقحط والغلاء”. الشوق والعتاب في البحر للشعر قصة عند البحارة يورد ابياتها عبد الله عبد الرحمن فيقول: “وفي البحر أيضاً يكون الشوق والعتاب، فهذا أحد النواخذة وقد جاءه صبي يسمى غانم إلى حيث هو في البحر وأبلغه أنه شاهد زوجته وقد صبغت يديها بالحناء وذلك حين كانت تناوله كأساً من الماء، فغار من الخبر وكتب لها قائلاً: يا عابر عنا فـــي الأوشــار صليح من سايد دمنِّه غانم لفانـــــا فــرخ بحــار اسمه حمد لونه حسنة يقول شايف جيد وأهيـــار وخضاب في كفه محنة إن كان هذا بالغضي صار لين القيامة مزعلنة وما إن تلقت الزوجة تلك الأبيات حتى كتبت ترد عليه: الباز ما ينــزل مــن الأوكــار تلقاه قابض رأس فنّه مير الأسد ما قط رعى الفار ولا الهوامش ييسرنه والنجم لو يلمع في الأبحـار بعيد عنها في المظنة المحامي يصير طبيبا ويسرد المناعي حكاية فيقول “ومن المواقف الطريفة أذكر يوم كنا في منطقة رؤوس الجبال وصادف أن مرض واحد من أبناء الأهالي، فجاؤونا إلى الميناء يبحثون بين السفن المصطفة عن طبيب أو معين، وحين رأيت اليأس في العيون رشحت نفسي خبيراً في الطب، وتعممت (بشادر) أي ملاية سميكة خضراء اللون، ورافقتهم إلى الطفل المريض الذي كان يرقد في حضن والدته، فوضعت يدي على رأسه وقرأت عليه أبياتاً لعنترة بن شداد: إذا كشف الزمان لك القناعا ومد إليك صرف الدهر باعا يقول لك الطبيب دواك عندي إذا ما جس كفك والذراعا إلخ .. وصادف أن شفي الطفل بعد أيام، فأكرموني بالصيد (الجاشع) كهدية. ثم سألوني عن احتمالات تكاثر الصيد، الأمر الذي لا خبرة أو علم لي به.. لكنني قلت إن شاء الله سيأتيكم يوم الجمعة، وكنا على استعداد للسفر يوم الخميس وصادف أن “غيمت الدنيا” وعادة ما يكثر (الصيد) مع الغيوم، وهكذا وعلى نياتكم ترزقون، وفوجئت بعد فترة بكميات من أسماك (الجاشع) وأيضاً (السمك المملح) تصلني هدية من الأهالي هناك إلى رأس الخيمة”. دواليب الشعر عرف الشاعر سالم بن سعيد الدهماني بأنه أحد الشعراء المعروفين في مناطق المنيعي والحويلات ووادي القور وغيرها، وهو الذي يقول: “أقول الشعر حينما تدور دواليبه، والشعر لا ينظم على كيف الشاعر متى أراد، لا بد من شيء يثير الشاعر، حجة أو “مزمل”؛ أي واقعة وهكذا. وظروف معيشتنا الماضية كانت عادية بالنسبة لنا لم تثرنا في شيء، وقد عرفت المنطقة بعض الشعراء من جيلي الذين وافتهم المنية ـ رحمهم الله ـ كعبيد بن هاشل وأحمد بن نايع، ومحمد بن ذريع. وأذكر أن أول قصيدة قلتها وأنا في الخامسة عشرة من العمر تقريباً، وكانت رداً على الشيخ سلطان بن سالم الذي زارنا في المنيعي بعد الأحداث التي وقعت له في رأس الخيمة، وهي قصيدة طويلة منها هذه الأبيات: البارحة قلبي نحى واشتكى لي بايت سهير النوم والناس هيعين أطلبك يا لمعبود تصلح أعمالي يالله بحسن الخاتمة وأنت المعين تفتح أبواب الخير وتشوف حالي وترد رادة عَ جميع المسلمين المصور الفوتغرافي ويلتفت عبدالله عبد الرحمن الى اول مصور فوتغرافي فيقول عنه: “لم تكن رأس الخيمة أو غيرها من إمارات الدولة كذلك بالأمس، كما لم يكن محمد عبدالله النمر الذي عرفه الأهالي قبل 53 سنة (بالصائغ الحساوي)، ثم “الكراني”؛ أي (كاتب) الجوازات، كذلك أيضاً ومنذ 34 سنة تقريباً اشتهر بأول عدسة تصوير فوتغرافي دخلت الإمارة، فعرف “بالحساوي المصور”. أنماط الحكاية الشعبية ويتحدث عبدالله عبد الرحمن عن انماط الحكاية الشعبية الاماراتية فيقول فيها:”تنقسم الحكاية الشعبية في الإمارات إلى أنواع عديدة، منها: حكايات عن الجن، وحكايات عن السحرة، وحكايات عن الصالحين، والصحابة والصوفية، وحكايات عن البطولات، وحكايات ما جرى وما يجري في مصائر الحياة اليومية، وحكايات عن المخطوفين والمجانين، وحكايات عن قضاة السوء، حكايات عن الأسفار إلى الهند وأفريقيا وغيرها. وهذه الحكايات لا تخرج عن شيئين ثابتين فيها كقطب الرحى، هما: الفرح والحزن، أو المأساة، والملهاة في المصطلح الأدبي، وتتفرع منها أنواع تصف واقعنا. والناس في الإمارات يحبون الحكاية مهما يكن الموضوع مبهجاً أو مكدراً مفرحاً أو محزناً. وهذه الحكايات أو النوادر مجهولة الأصل، لا يعرف قائلها، وهي تنسب إلى شخصيات تاريخية عرفت بالنوادر والفكاهة، مثلاً جحا، أو أبو نواس، أو ابن مزيد المدني، والحق أن بعض هذه الشخصيات خيالية وبعضها حقيقية، من ذلك أن شخصية أبي الغصن وجحا العربي وابن ثابت حقيقية، ويذكر البستاني في دائرة المعارف نوادر لجحا، ولكن جحا بنوادره وحكاياته سيظل يعيش في مجالسنا وإن لم يذكر اسمه، لأنه رمز يتمثل في كثيرين للنادرة والفكاهة والحكاية الشعبية وكل ما يبعث على انفراج الأفواه بالضحك والقهقهة. قصة الطفولة أما الكتاب الثاني فقد خصصه المؤلف للحياة الاقتصادية، حيث يغوص مرة أخرى في ذكريات كبار السن ليقدم توصيفاً دقيقاً للواقع الاقتصادي حينها، والذي لم يكن يخرج عن الغوص وتجارة اللؤلؤ، إلى جانب الملاحة والأسفار الخارجية والنقل البحري، بالإضافة إلى الزراعة والري والثروة الحيوانية. في هذا القسم يظهر الوجه القاسي للحياة والمكابدات التي عاشها الأجداد لخلق مصدر رزق في وسط شحيح الموارد. فمن قصة طفولة حمد بن محمد القمزي الذي بدأ العمل في الغوص على اللؤلؤ منذ سن الخامسة، إلى حكايات النوخذة جابر بن راشد الهاملي الذي شهد بعينه أسماك القرش تمزق الغواصين، وقصص إسماعيل نصيب بوعفرة وغانم بن ياقوت عن أساطير الجان والسحرة والعفاريت التي تضرُّ الغواصين في البحر، وصولاً إلى تجار اللؤلؤ مثل خلف العتيبة في أبوظبي والحاي بن مطر بن مصبح في دبي وعلي بن محمد المحمود في الشارقة وسعيد النومان المولود في الشارقة والذي أقام في الهند ليتابع تجارته من هناك. ويستكمل المؤلف رسم تفاصيل الحياة الاقتصادية بلقاءات معمّقة مع صنّاع السفن وأصحابها، ويستعيد تفاصيل حياة الرعي والزراعة وري المزروعات وتسويقها. نسج الحياة وفي الكتاب الثالث يعيد المؤلف نسج الحياة الاجتماعية كما كانت، فيستعرض في البدء ملامح شخصية مجتمع الإمارات في ثقافة البحر والبر بين النصوص المدونة، فيقدم صورة بانورامية لمجتمع الساحل والبحر عبر ذكريات طفولة محمد بن حميد البسطي التي تخللتها مظاهر المجاعة والأمراض وتأثيرات الحرب العالمية الثانية على المنطقة، فيما يروي الحاج سعيد بن أحمد آل لوتاه عن تربية الأولاد على أنهم رجال في وقت مبكر من طفولتهم، ويقدم الشيخ حمد بن محمد المشغوني وصفة صحية لإطالة العمر كونه ينحدر من عائلة معمرة، ويصف محمد بن رحمه العامري وقوف الحاكم والمحكوم أمام القاضي في ذلك الزمن، ويكشف درويش بن أحمد بن درويش عن الاستفزازات التي تعرض لها العمال المواطنون من قبل الانجليز وإضرابهم عن العمل احتجاجاً، ويقدم المؤلف مواقف شعبية متضامنة مع قضايا عربية وإسلامية وإنسانية متعددة منذ بداية القرن العشرين، ويدون المؤلف مشاهداته في تطوافه الموغل في القرى الصحراوية والجبلية من أقصى الإمارات إلى أقصاها، سارداً عادات البدو وأهالي الجبل والمزارعين والصقارين، في فسيفساء دقيقة للحياة الاجتماعية. ولم ينسَ المؤلف أن يفرد قسماً للمرأة فيقدم قصة حمامة بنت عبيد الطنيجي المداوية الشعبية، والتي تصف مكابدات المرأة حينها من خلال العلل التي تعالجها وسط الصحراء، وتسرد حمدة بنت حميد الهاملي حفر النساء في أبوظبي لآبار المياه بأيديهن وتزويد السفن الذاهبة إلى الغوص بالماء العذب، و تروى موزة بنت جمعة بن عبيد فصول مدهشة عن حياة المرأة المزارعة في مشاركتها زوجها في تسويق المحاصيل في الأسواق البعيدة، فيما تتحدث فاطمة مبارك مدفون عن ذكرياتها في بيع السمك ومن ثم تجارة السخام وبعدها تجارة الأقمشة في دلالة عميقة على عمل المرأة في مهن عامة وسط مجتمع محافظ. حكاية عمر عن عمره يقول راشد بن غليطة القمزي: “أنا في المئة والخمس والعشرين سنة من العمر”. ثم يضيف للتأكيد: “لقد كنت في الثالثة عشرة سنة من العمر حينما تزوج الشيخ زايد بن خليفة (زايد الأول ـ زايد الكبير) حاكم أبوظبي في الفترة من (1855 ـ 1904) من الشرقية بزوجته الوهيبية. وكان عمري قرابة عشرين سنة حينما تزوج زايد (كلثم بنت محمد بن سلطان) وعقد قرانها سيف بن حميد الدرمكي.. بينما كان عمري 15 سنة حينما جاءتنا أختي حيث كنا نسكن في وادي مساكن الشمال بالعين، وكان زوجها قد طلقها في لحظة غضب، إلا أنه حينما هدأ أرسل إلينا مجموعة من الرجال للمصالحة وإقناعنا برد المرأة إلى زوجها، وأذكر منهم سيف بن حميد وعبد الله بن سعيد بن عبيد.. فاستقبلهم والدي طالباً منهم عدم التحدث معه في موضوع البنت، قائلاً: نحن بحاجة لأبنائنا وبناتنا؛ نرسل أحدهم لجلب الماء والحطب، والآخر لكي يرعى “البوش”، والثالث ليقوم بالواجب معنا وهكذا.. ثم أكرمهم بإعداد العشاء لهم. وبعده قال سيف بن حميد: نحن نحلف بأن المرأة لا ترد لزوجها إلا بعد عرض القضية على الشيخ زايد بن خليفة، وبالفعل تحرك الرجال ومعهم والدي وأناب برفقتهم إلى مجلس الشيخ زايد، حيث عرضوا عليه المشكلة.. فسأل الشيخ عن “الشرع”، فكان الجواب بأن القاضي هو غانم بن سالم الشامسي، فأرسل إليه وحضر. وبحضور القاضي وزوج المرأة ونحن وغيرنا سأل زايد الرجل عما إذا كان قد طلق زوجته فعلاً، فأجاب: نعم حدث بيننا نزاع.. (غليظ) و”الحرمة غاصبتني” فطلقتها. فالتفت الشيخ زايد إلى غانم قائلاً: “شو تشوف من شيفه في حجة الرجل؟ فرد غانم: لو جاءك ضيوف يا شيخ زايد وهم أعزاء عليك ورغبت في القيام معهم بالواجب إلا أنهم “عيلوا” لم يرضوا ولم يقبلوا بذلك، فماذا أنت فاعل؟ قال زايد: “لا نر خصهم، وسنذبح لهم ما طاب أكله، ولذَّ طعمه من صغار الإبل”، ثم أضاف: “والسكين تقطع الحايل والمدّني”. فعلق غانم بالقول: إذن قد صح الطلاق ووقع، وهنا احتج الرجل على الحكم وحاول التبرير لنفسه، فأجابه الجلوس بأن “هذه نتائج فعلتك”. وفي تلك اللحظة رفعت العصا وضربت بها سجاد المجلس بغية إسكات الرجل قائلاً: والله ما ترجع لك أختي إن لم يرجعها زايد.. أنت عوالة ميتة في الدار، لا الثعلب يأكلها ولا الآدمي يأكلها.. ولا أنت ابن عمنا ولا لك لازم علينا. ولا ريال قبيلي فيك عرقة، ونحن نتبع العرقة عندك أنت (يابس). ثم أجبرتها على المشي من القطارة إلى وادي مساكن تاركة ابنها وحاملة ما في بطنها. فأراد والدي أن يسحب العصا من يدي ويضربني بها، لكن زايد أوقفه قائلاً: “الولد مسموح.. ضارب إلا عندنا.. نحن شيوخه وهو ولدنا”. ويضيف: “لقد عاصرت سنوات عدة من عهد ومشيخة (زايد الأول)، الشيخ زايد بن خليفة كان شخصية، وكان ذا هيبة ومكانة محترمة ومحبوبة بين القبائل و(العربان)، وحكمه كان طيباً، فقد جمع الدروع وبني جتب والنعيم وجمع العربان. وقد كنت في صغري أرافق والدي إلى حيث يبرز الشيخ زايد في حصن الياهلي صباح وعصر ومساء كل يوم، وكانت “العربان” من مختلف القبائل تتجمع عنده. وفي الغالب تتناول وجبات العشاء والغداء في ضيافته، ولم يكن يتخلف من الرجال أحد غير “سقاية البوش” أي رعاة الجمال، وكانت جدور الأكل تصل على ظهور الإبل من حيث يعدها الطباخون بعيداً عن الحصن”. حكاية الأربعاء ونختتم رحلتنا مع كتاب “فنجان قهوة ـ الإمارات في ذاكرة أبنائها” لعبد الله عبد الرحمن بما روته حمامة بنت عبيد الطنيجي المداوية الشعبية عن اسباب مداواتها للناس في يوم الاربعاء تحديدا فتقول: “قبل ثلاثين سنة وكان ابني محمد صغيراً في المنزل، حينها كنا نتبع (الحياة) الماء والعشب في (السيجي)، وفي العشر الأواخر من شهر رمضان وبالتحديد ليلة الأربعاء، وعقب مشاجرات طويلة مع أبو محمد حول التدخين حلفت عليه ألا يدخن في ليل رمضان كما في نهاره، لكنه خالفني ودخن (مدواخ)، فقررت الانتقام منه بحرمانه من السحور وقبل موعده نهضت من على (شبريه) سرير من خشب لأصب السحور، على الأرض، ولكن ما إن اعتدلت للنزول حتى أنارت الدنيا بضياء البرق، وكأنه النهار، ثم أظلمت فوراً فحمدت الله، ثم (تبلمت) لم أستطع الكلام، ضربت على جسم زوجي وهو نائم فقال لي (بلاش) ماذا بك؟ فلم أستطع الإجابة، ولاندهاشي من الموقف بقيت هذه الليلة مباركة في اعتقادي، فأصبحت لا أعالج إلا يوم الأربعاء”. ضياع 27 سنة من الزواج! يرتحل العلماء في ذلك الوقت ويذهب الشيخ أحمد بن ابراهيم بن طاهر الى السعودية ويعود الى البلاد فيقول: “بعد العودة كنت متسلحاً بالعلم والمعرفة فبقيت في البلاد سنة واحدة، مارست خلالها الإفتاء والقضاء غير الرسمي، حيث كانت مشاكل وقضايا أهالي القرى تمرّ عليّ، وأفصل فيها، سواء في الميراث أو الزواج أو الطلاق وغيرها من القضايا الشرعية. ومن أبرز ما أذكر أنني عالجت كثيراً من قضايا “الرضاع”، فمثلاً كانت هناك عائلتان قد اتفقتا وأعدتا لزواج نجليهما، وبلغني أن العروسين أخوان في الرضاعة، فتدخلت وأوقفت إتمام عملية الزواج، فلجؤوا إلى الشيخ سيف المدفع، وكذلك قاض آخر في رأس الخيمة، وإلى الشيخ الشنقيطي في دبي، وكلهم اتفقوا بعد التحقيق على أنني محق في اعتراضي، ولم يتم الزواج. والأغرب من ذلك أن من ضمن الحالات التي وردت إليّ حالة ذلك الذي كان متزوجا من أخته من أبيه من الرضاع 27 سنة، وأنجب منها أولاداً وبنات، وجاءني الرجل مبدياً شكه في أمر زواجه، وعلى الفور قمنا بالاستفسار والتحقيق من “الشباب” والعجائز والأهالي، وتأكدت من أنهما أخوان من الرضاعة، ففرقت بينهما بعد أن كتبت للشيخ سيف المدفع، وكذلك للشيخ عبدالله بن الشيبة من عجمان شارحاً لهما الحالة وآخذ مشورتهما .. وفعلاً اتفقنا على عدم جواز استمرار الزواج، وبقي الأولاد مع أبيهم. ويقول: “لقد كانت ظاهرة تعاون النساء على رضاعة أبنائهن شائعة في الماضي، وقد ركزت كثيراً من خطبي في تلك المناطق على عدم جواز الرضاعة لغير الأبناء، ومن الظواهر التي ركزت عليها ظاهرة اختلاط المرأة البدوية بالرجل، ومواجهتها له، والترحيب به في غياب الرجل.. وتلك عادات بدوية راسخة، بعكس المرأة في الساحل، حيث لا يسمع لها صوت ولا ترى لها صورة. بعد تلك السنة من الاستقرار في البلاد خرجت في طريقي إلى السعودية لإحضار بعض الكتب منها، ومررت على الدوحة لزيارة الشيخ بن حجر والشيخ ابن محمود رئيس المحاكم الشرعية في قطر، وهناك تمسكا بي للعمل خطيباً وإماماً في مساجد قطر.. وحين وفروا لي مسكناً حكومياً أحضرت أبنائي وأقمت في قطر قرابة خمس سنوات. يومها كانت ظروف الحياة في قطر أيسر من هنا، وكان عدد كبير من أبناء الإمارات يعملون فيها. ثم رجعت إلى الوطن لأقيم في الشارقة، وبالتحديد في هذا البيت القديم الآيلة جدرانه إلى السقوط، ذلك أن شباب اليوم لا يعرفوننا، فمنذ سنين عدة وأنا “أركض أبغي بيت لكن ما حصلت”. الطريق الى بيت الله جاء في الكتاب ان الحاج سعيد بن راشد الزعابي يصف طريق الحج الى بيت الله فيقول: “لقد اصطحبت معي شخصياً خمسة جمال، وكانت مسيرة الرحلة قد اتجهت من مزيرع في الشارقة إلى الخوانيج في دبي، ثم اتجهنا غرباً، وصادفنا الغروب في (ذباح) قرب جبل علي بدبي، فأنخنا للمبيت، وفي الصباح اتجهنا إلى (بوصلف) قبل المفرق بأبوظبي، ومنها إلى (العجيلة) حيث كانت تكثر آبار المياه، ومشت الرحلة حتى “السلع” و”سبخة مطي” ثم جنوبي قطر، حيث وردنا سلوى، ومنها إلى “البحث” في السعودية، وكانت بها آبار مياه عذبة، ومنها إلى “الإحساء” بعد يومين، ثم “الفروق”. ولم نصادف الماء إلا في (بوليفان) بعد مسيرة خمسة أيام، ومنها إلى “المريغات” شرقي مطار الرياض الحالي، ثم جئنا الرياض وذلك أيام حكم عبدالعزيز بنس عود الذي كان قد خصص مواقع لاستضافة الحجاج وإكرامهم. وخلال الأيام الخمسة التي أقمنا فيها بالرياض لم (نشغل ضوءاً)، بل كانت المأكولات والشراب تصلنا جاهزة، ومن الرياض جنوباً إلى بلاد ني قحطان ثم الدرعية والطفة والبقرة ثم المويه حتى حوارة فعشيرة وفي “الجزيمة” أحرمنا، ومررنا على “أفلاج؛ مياه، ثم دخلنا مكة وأدينا بها مناسك الحج”. الكتاب: فنجان قهوة ـ الإمارات في ذاكرة أبنائها (ثلاثة أجزاء: الحياة الثقافية العامة، والحياة الاقتصادية، والحياة الاجتماعية) المؤلف: عبد الله عبد الرحمن الناشر: دار الكتب الوطنية ـ هيئة أبوظبي للسياحة والثقافة
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©