السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

عبد السلام المُساوي: أعمل مع الموت

عبد السلام المُساوي: أعمل مع الموت
25 يونيو 2013 21:28
الشاعر والناقد المغربي عبد السلام المُساوي، اسم من الأسماء اللامعة التي تصنع الحراك الثقافي والشعري في المغرب، فهو واحد من النقاد الذين حفروا بعمق في جسد القصيدة المغربية والعربية نقدا وتحليلا، كما أغنى المكتبة العربية والمغربية بالعديد من الدواوين والأعمال النقدية الجادة نذكر منها: "خطاب إلى قريتي"، "البنيات الدالة في شعر أمل دنقل"، "سقوف المجاز"، "عناكب من دم المكان"، "عصافير الوشاية"، "إيقاعات ملونة"، "جماليات الموت في شعر محمود درويش"، "لحن عسكري لأغنية عاطفية" أما أحدث كتبه فهو كتاب: "الموت المُتخيل في شعر أدونيس". محمد نجيم جلسة ليلية جمعتنا بالدكتور عبد السلام المُساوي اغتنمناها فرصة لنحاوره حول مشاغله الأكاديمية والنقدية، وحول كتابه الصادر حديثا “الموت المُتخيل في شعر أدونيس”. ? نسألك عن اختيار مكان النشر، لماذا فضلت نشر كتابك الجديد “الموت المتخيل في شعر أدونيس” في دار النايا، وهي دار نشر سورية رغم الظروف الصعبة التي يمر منها هذا البلد؟ ألست راضيا عن النشر عبر دور النشر المغربية رغم كثرتها وعراقتها؟ ? ? عندما عرضت مخطوط الكتاب على صاحب دار النايا، كانت الأزمة السورية في بدايتها ولم أكن أن أتصور أن الوضع سيأخذ هذه التطورات الخطيرة، ومع ذلك فلا يمكن لدواليب الحياة أن تتوقف في هذا البلد، فهناك شعب كبير بحضارته وثقافته العريقة.. لا يمكن بالتالي لطلقات البارود في حرب أهلية بغيضة أن تمنع الناس عن البحث عن قوتهم، والناشر واحد من هؤلاء الباحثين، خصوصا إذا كان من عيار الأستاذ صافي علاء الدين المعروف بنشاطه وجرأته وصداقته للكتاب المغاربة.. أضف إلى ذلك أنه يطبع الكتب في بيروت، ومنها يشحنها إلى المعارض. بالنسبة لدور النشر المغربية، سبق لي أن أصدرت فيها ستة كتب لم تحظ بالترويج المنشود، علاوة على التداول الضيق لهذه الكتب في الزمن والمكان. بالمقارنة حظيت كتبي الأربعة الصادرة بالمشرق بالحضور في المعارض والمكتبات الكبرى، كما تجد لها رجع صدى في البحوث الأكاديمية والدراسات الأدبية. الهاجس والتجربة ? لنتحدث الآن عن كتابك الجديد؛ ما الدافع إلى الغوص في إشكالية الموت وعلاقتها بشعر أدونيس؟ ? ? تكمن أهمية هذه الإشكالية في كون الكتابة الأدبية ذاتها مرتبطة بالموت هاجسا وتجربة؛ ذلك أن معظم الدارسين الذين خاضوا في هذا الباب، أكدوا على علاقة الشعراء بالموت من زاويتين: تتمثل الأولى في الموجه والمرجعية، والثانية في تبنين الموت في المتن الشعري جماليا ودلاليا. فقد فجرت مواجهة الذات للموت لدى الشعراء ينابيع مختلفة من الأحاسيس وردود الأفعال، تتراوح بين الحزن البسيط والخوف من دخول تجربة العدم، وبين التمرد العنيف على معادلة الحياة غير المنطقية المحكومة بزمن مغشوش وغير محدد. وأصبح الموت باعتباره ظاهرة شعرية طموحا إلى خلق عالم أكثر صدقا ونقاء من عالم ما قبل الموت وما بعد الموت.. عالم ينفلت من العدمية التي عرّفها صلاح عبد الصبور عندما قال في كتابه حياتي في الشعر: “وحين يدرك الإنسان أن كل شيء محكوم عليه بالموت، وأنه ينتظر الموت وإن كان لا يتوقعه ـ كما يقول سارتر ـ يدرك أن الوجود والعدم وجهان لكون واحد”. وإذا كان الخطاب الشعري القديم عند العرب قد تعامل مع الموت بنبرة استسلام أحيانا، وبنبرة تصالحية مسنودة بالدين أحيانا أخرى، فإن الرؤية الشعرية المعاصرة للموت قد امتزجت بنظريات فلسفية وجمالية إنسانية متنوعة، ليصبح الخطاب الشعري المعاصر، من خلالها، محاولة دؤوبة في البحث عن جواب مقنع للسؤال الكبير الذي صاغه البشر عن الموت. من هنا نوضح أن هدفنا من دراسة موضوع الموت في شعر أدونيس يتلخص في المعطيات التالية: أ ـ الكشف عن المرجعيات المتنوعة التي وجهت أدونيس إلى الموت على مستوى الإبداع الشعري. وتتراوح هذه المرجعيات بين الأساطير اليونانية والشرقية والفلسفة، والدين، والتصوف. بمعنى أننا نتوخى فحص الموجهات الذاتية والخارجية التي تحكمت في خطابه الشعري. وتتلخص في أثر المقروء الفلسفي والجمالي، والتأثر بمأساة الفقد المتواصل في رفد تجربة الموت، بوصفها ظاهرة شعرية، بدلالات تتجه نحو بلورة المفهوم الفلسفي الخاص والكوني العام لهذا الموت. ب ـ تجاوز دراسات الموضوعات Thèmes المقترنة بالموت، إلى تحليل بنيات اللغة المشكّلة للجوانب الجمالية، وهذا يعني أن حضور الموت في شعر أدونيس لا يتحقق في الموضوعات والدلالات فحسب، وإنما يتحقق جماليا في اللغة معجما وتركيبا وإيقاعا؛ كما يتجسد في متخيل الشاعر تصويرا وتناصا، من خلال ما يوظفه هذا الشاعر من طرائق التعبير الشعري، وما يستثمره من أساطير ورموز. ج ـ التأكد من مصداقية الفرضية التي تجعل الشعر رديفا للفلسفة والفكر في بحثهما الدؤوب في مشكل الموت وعلاقة الإنسان بها، وسعيهما إلى حل تلك العلاقة المتأزمة بينهما؛ خصوصا وأدونيس يعد شاعرا ومفكرا في الآن ذاته. شعرية الموت ? برأيك ما علاقة الموت بالشعر من خلال بحثك؟ وما علاقة الموت باللغة؟ ? ? لقد سعى الشعر منذ القديم إلى إقامة حوار مع الموت، إما في شكل تحنيط جثث الموتى عن طريق الرثاء، وإما بإيجاد لغة شعرية قادرة على دفع الموت ورفضه أو التعايش معه والقبول به. وقد كان على الشاعر المعاصر أن يمتص الخطاب الشعري القديم المرتبط بموضوع الموت، وكذا عناصر الفكر والأسطورة ليخلق من ذلك ما يمكن أن نسميه بـ “شعرية الموت”. ولعل الشاعر العربي أحد هؤلاء الشعراء الكبار الذين استطاعوا تدجين الموت فنياً، والدفع به في أفق إبداعيّ عميق، أفق تتجلى فيه تجربة الموت تجربة جمالية تسعى إلى اكتساب الحياة معنى وشكلا؛ وهذا ما يجعل الموت لدى أدونيس محبوبا ومرغوبا فيه، ويكشف عن قوة داخلية لديه شبيهة بالقوة الأورفية التي أسعفت عاشق “يوريديكي” ـ قبله ـ في بلوغ المهاوي العظمى للموت. بخصوص علاقة الموت باللغة فإن اللغة تموت بالهلاك الجماعي للناطقين بها، كما حدث في العصور البدائية وفي بعض العصور الحديثة. وإذا كانت الحفريات قد تمكنت من العثور على جثتها المحشورة في الألواح أو في أدوات العيش، فإن هذه الأشياء تنتقل إلى المتاحف لتبقى كشواهد قبور، وفي أحسن الأحوال تصبح وثيقة لتسليط الأضواء على زمن الناطقين بها. وهذا الموت اللغوي فناء بيولوجي مواكب للفناء الجسدي للإنسان. وقد يتخذ موت اللغة شكل الاحتضار البطيء، وذلك عن طريق انحسار نفوذ أصحابها، و تلاشيهم إما تلاشيا مطلقا أو مسخا يطول هويتهم، كما يحدث، عادة، عندما تتداخل اللغات المختلفة، ويستعر الصراع، ويسفر كل ذلك عن لغة منتصرة ولغة منهزمة، تنسحب شيئا فشيئا من الألسنة مؤثرة الانعزال في دهاليز الصمت والانزواء؛ كما لو كنا حيال حروب لغوية طاحنة. وقد أمدنا تاريخ الحضارات الإنسانية بأشكال كثيرة للغزوات اللغوية. وقد كان تفوق الأمم حضاريا باعثا على قتل لغات وتوطين لغتهم في أماكن إقامات اللغات المقتولة. وربما يكون القتل جزئيا عن طريق اختراق اللغات المغيرة على مفردات بعينها لإزاحتها من السجل العام للغة، وفرض مفرداتها بدلا منها. وهذه حالة لا تحدث عن طريق الإكراه، وإنما هي حالة انتحارية لمفردات لا تقوى على حمل المعاني الكاسحة التي يفرضها منطق العصر أو تفرضها ضرورات الناس إليها. وقد اجتهد الناس عبر العصور في تغليف ألم الشعور بفقد تلك المفردات، وأضفوا على حالات الموت الجزئي للغة أوصافا تخفف من فداحة الخسارة، وتعوض نفسيا عن جسامة المصاب. وإذا كان موت اللغة الكلي أو الجزئي تحتّمه عوامل سياسية ودينية وحضارية، فإن هذا الشكل من الموت يمكن نعته بالموت الخارجي للغة. بمعنى أنه يمس جسد اللغة ـ مفردات وتراكيب، أصواتا ورسما ـ بالتلف. لأن هناك موتا آخر يتغلغل في بواطن اللغة، فيعمل على اغتيال الأرواح ويحافظ على الأجساد. فتصبح الألفاظ طافحة بوجودها الصوتي والكاليغرافي، ولكنها فاقدة لإرثها المعنوي، وحينئذ يمكن الترحم على أرواحها بالوقوف المعتبر على قبرها الكبير الملفوف بين دفتي القاموس اللغوي. وإذا كان موت المفردات يعني هجرها واستبدالها بأخرى جديدة، فإن تدوين المهجور في كتب اللغة لا يمكنه أن يضمن له الحياة إلا إذا أعاد بعض الكتاب أو الشعراء استعماله من جديد في سياقات أخرى. أساطير الفناء ? خصصت فصلا طويلا في كتابك للحديث عن حضور أساطير الفناء والخلود في شعر أدونيس؛ هل يمكن أن تعطي للقارئ إضاءة في الموضوع؟ ? ? حقيقة يوظف أدونيس الأسطورة في شعره باعتبارها مكونا متضامنا مع اللغة الشعرية، أي بما هي استعارات قابلة لاحتضان الشحنات الدلالية الجديدة وبشكل يجعلها خاضعة لرؤية الشاعر وتابعة لأنساقه اللغوية، أو لنقل مع هنري ميشونـيك إنه يعيد من جهته ابتكار الأسطورة متبعا مسارا تخييليا. وربما كان في هذا الابتكار الجديد للأسطورة ظفراً باللغة التي طالما بشر بها أدونيس أو حلم بها. وهي لغة تعيده إلى نفسه وإلى الحياة، كما يقول في كتابه: زمن الشعر، لغة لا يفهمها الموت، لا يفهمها على الأقل، بمثل السرعة التي يفهم بها لغة الكلام. وهكذا يتقدم أدونيس في هذا المسعى محتميا بالأساطير القديمة التي حلت لغز الموت بطريقتها، وأكسبت الأبطال حصانة قوية ضد خطر التلاشي والانمحاء. إلا أن احتماءه يكتسب أصالته من طبيعة انتقاءاته، ومن طرق الاستثمار الجمالي للمادة الأسطورية المنتقاة. ألم يعمد في المرحلة الأولى في مساره الإبداعي إلى أن يطلق على نفسه اسم الأسطورة الإغريقية الشهيرة (أدونيس). أليس هو القائل في هذا السياق: يَلزمُني الخُروج منْ أسْمائي أسْمائي غُرْفةٌ مُغلقَةٌ حب غائب علي أسْبِر علي أحمَد سَعيد عَلي سَعيد علي أحْمد أسْبر علي أحمَد سَعيد أسْبِر يُصارعُ يتكسَّرُ كالبِلَّوْر وأدونيسُ يَموتُ والهَواء شَقائِقُ وأعْراسٌ في جَنازته لغة لائقة ? من خلال كتابك هذا، توصلت إلى نتيجة مفادها أن الموت احتضر بقوة في أشعار هذا الشاعر العملاق؛ نريد منك أن تطلع القارئ العربي على أهم النتائج التي خلصت إليها في الموضوع؟ ? ? ولما كان الموت أهم موضوع انشغل به الشاعر أدونيس في مختلف محطاته الإبداعية، فقد كان من الضروري أن يخصه بلغة شعرية تليق بأهميته وتسمو به إلى أعلى درجات التعبير الفني. ذلك أن ارتقاء ملكات الشاعر الذوقية وتوسع آفاقه الثقافية والحضارية وتنوعها، كل ذلك دفعه إلى تلمس طرق تعبيرية تختلف عن الطرق التي سلكها سابقوه. ثم إن تعدد مفاهيم الموت في الحياة المعاصرة شكل سببا كافيا لدخول هذا الشاعر في خضم تجربة لغوية جديدة تكفل له الصدق الفني المأمول وتمكّنه من خوض صراع جمالي متكافئ مع الموت وأقنعته المتنوعة. وقد كانت أولى المعارك التي خاضها، هي العمل على تغييب الدلالات الواضحة لمفهوم الموت، وتغليفها بإيحاءات رمزية في أفق معانقة المطلق، لأن الموجود المطلق يتحقق في الإنسان باعتباره عقلا؛ أي باعتباره لغة أو كائنا لغويا قبل كل شيء، بحيث يولد هذا المطلق في اللغة لا في أي مكان آخر، كما يقول صلاح فضل. إن قارئ أدونيس، مثلا، ليعجب من إفراطه في استدعاء أسطورة “الفينيق” عبر قصائد كثيرة. ولعل أسباب ذلك كثيرة ومتعددة. فمن ناحية، تقدم هذه الأسطورة نموذجا متكاملا ومقنعا في ما يتعلق بشؤون الموت والانبعاث؛ بل إنها تقترح نسقا عميقا لتحويل الحياة الفانية ـ من خلال التضحية المقدسة ـ إلى ولادة جديدة موغلة في الامتلاء الرمزي. ومن ناحية أخرى لعبت “النار” دورا حاسما في تشكيل وعي الشاعر ولا وعيه منذ عانى ـ وهو طفل ـ تجربة والده المؤلمة وقد احتوت النيران جسده في حادث مفجع. وثمة خصيصة لافتة يقف عليها الدارس لشعره، وهي تماهي لغته الشعرية الملتبسة بخطاب الموت مع اللغة الصوفية تماهياً يجعله يزكي شكل التصوف لا جوهره، أي أن الشاعر يأخذ من لغة التصوف منهجها في التعبير الجمالي لا مدلولاتها العقيدية. من جانب آخر احتفى أدونيس بالتصوير الحسي والذهني والرمزي للموت احتفاء بالغاً. وهكذا وجدنا الصورة الشعرية الحسية عنده عبارة عن صياغة فنية للمتخيل الذي يعكس في الحقيقة نوازع الشاعر وتوجهاته النفسية والفكرية تجاه الموت. والشاعر خلال ذلك قد يضحي بهيبته البلاغية وحذقه في صناعة الكلام وتزويقه كي يبقى مخلصا لموقفه. الموت والحياة ? أصدرت قبل أربع سنوات كتابا بعنوان: “جماليات الموت في شعر محمود درويش”، لماذا الاشتغال على موضوعة الموت دون غيرها؟ ثم ما الذي يجمع بين الموت عند أدونيس والموت عند درويش؟ وبأي معنى نفهم أنك ترى الموت جمالياً عند درويش، ومُتخيلا عند اودنيس؟ ? ? الاشتغال على موضوعة الموت كان ضمن مشروع أكاديمي خصصت له اهتماما كبيراً لأقف على خصوصيات الشعر العربي المعاصر في علاقته بموضوعة الموت، لما لاحظته من هيمنة الموضوع على الإبداع الإنساني برمته قديما وحديثاً. ألم تكن الألواح التي تركها جلجامش توثيقاً إبداعياً لرحلته الأسطورية بحثاً عن نبتة الخلود؟! ففشل في الظفر بخلود الجسد، لكنه ـ بالمقابل ـ نجح في نيل خلود رمزي عبر ما تركه في ملحمته الشعرية. والواقع أن من وجَّهني إلى هذا الموضوع هو دراستي السابقة عن الشاعر الراحل أمل دنقل الموسومة بـ “البنيات الدالة في شعر أمل دنقل”، والتي تضمنت فصلا كاملا عن (الموت) وجعلتني أقف على العمق الإبداعي الذي واجه بها الشاعر مصيره في ديوانه الأخير “أوراق الغرفة 8” الذي كتبه وهو طريح مستشفى الأورام بالقاهرة. وفي هذا السياق أيضا، يندرج كتابي السابق “جماليات الموت في شعر محمود درويش” الصادر عن دار الساقي ببيروت سنة 2009. ولربما كان يبدو من المستغرب مقاربة موضوعة الموت في شعر شاعر نذر تجربته الإبداعية برمتها إلى موضوعة تشكل تقابلا مطلقا مع (الموت) لأنه، ومنذ بواكيره الشعرية، وحتى وفاته ظل ملتزما بمهمة تجد أساسها الرؤيوي في قيادة شعب بأكمله قيادة جمالية نحو ألق الحياة، أو نحو المسار الصحيح الذي ينبغي أن تبتدئ فيه الحياة الحقيقية.. بل نجده مرة يعلن عشقه للحياة إرضاء لدمع أمه: وأعشق عمري لأني إذا مت أخجل من دمع أمي! لقد كانت موضوعة الموت في شعره معبرا ضرورياً في المشروع الحيوي لشعب يرفض أن يعيش مهانا فاقدا لهويته التاريخية، وتأسيسا على ذلك فإن الموت سيغدو استراتيجية أساسية لاسترجاع الكيان الروحي والمادي، الذي تستحق به الحياة أن تعاش. لكننا نكتشف تحولا كبيرا في مفهومه للموت في المرحلة الثانية حيث نجده يميل إلى “تذويت” الموت وتأمله في سياق الرؤية الفردية المدعومة بثقافتها الواسعة، وبتجربة المرض التي قربت الذات من مصيرها، وأتاحت لها أن تتأمل هذه اللحظة بكثير من الحكمة والتفلسف الخاص.. لقد أدرك محمود درويش منذ الوهلة الأولى أن وظيفة الشعر عنده تكمن في إعطاء فلسطين هويتها عن طريق مضاعفة الصور والمعاني التي تكثف حضورها، وكان مؤمنا بأن المتخيل يحمي ما يرغب التاريخ في تحطيمه. فـ “في وسع القصيدة العظيمة أن تنهض من الخراب، إذا كان يحركها أمل عظيم، أو يأس عظيم” كما يقول هو ذاته في مقال شهير له بعنوان (أنقذونا من هذا الشعر). فالأمل واليأس يتقاطعان في تناظرية الشعور الحاد بهما. لقد انتصر محمود درويش على الموت انتصارا جمالياً، بما أبدعه من قصائد ونصوص تُجْمِع كل المدارس النقدية على فرادتها وأصالتها، وهذا ما دفعني إلى تسمية كتابي الخاص عنه بـ “جماليات الموت في شعر محمود درويش”. وكان بالإمكان أن أسمي كتابي الجديد عن أدونيس بنفس الصيغة ولكنني آثرت أن أغير ذلك دفعاً للتكرار وعلماً بأن عبارة “الموت المتخيل في شعر أدونيس” تؤدي إلى نفس المعنى والغرض، لأنه لا وجود للمتخيل في غياب الجماليات.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©