السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

ابن خفاجة.. الصارخ بالأجداث

ابن خفاجة.. الصارخ بالأجداث
25 يونيو 2013 21:30
الأندلس، مجد عربي غابر، صفحات مضيئة مطوية، يطيب لي بين الفينة والأخرى أن أنفض عنها غبار الزمن وأستعيد ذلك التاريخ الذي يكاد يلخص ما حدث للعرب أمس وما يحدث لهم اليوم عندما تعم الخلافات ويتناصر الإخوة وتضيع الأوطان. الشاعر الأندلسي الذي سنتناوله اليوم هو أبو اسحق إبراهيم بن أبي الفتح بن خفاجة شاعر عربي أندلسي المولد، يرجع تاريخ ميلاده إلى عام 450 هـ حوالي 1085 ميلادية في مدينة تسمى جزيرة شقر، وهي ليست جزيرة في البحر كما يوحي الاسم ولكنها سميت بالجزيرة لأن المياه العذبة كانت تحيط بها وتجعلها بمثابة جنة على الأرض ومن أخصب بلاد الأندلس وتقع بين شاطبة وبلنسية. ولعلّ مسقط رأسه هذا هو الذي ترك أكبر الأثر في نفسه وشاعريته، فمعظم قصائده كانت في وصف الطبيعة وجغرافية المكان والماء والخضراء والوجه الحسن. كانت الطبيعة لدى ابن خفاجة كائناً حياً، يهمس له بمشاعره، ويتغزل بجماله، ويطلب عناقه، ويرتاح في أحضانه.. حتى لقبه أهل الأندلس بالجنّان، أي البستاني، أسمعه وهو يقول: وعشيَّ أنسٍ أضجعتني نشوةٌ فيها تمهد مضجعي وتدمِّثُ خلعت عليَّ به الأراكة ظلَّها والغصن يصغي والحمام يحدِّث والشمسُ تجنحُ للغروب مريضةً والرعد يرقي والغمامة تنفث جميع المراجع التي تناولت حياة وشعر ابن خفاجة، اتفقت على أن الطبيعة هي التي ألهمته معظم قصائده، فلم يكن ابن خفاجة مداحاً لأحد، ولم يكن يعتمد في معيشته على شعره يتكسب به كما يفعل الشعراء الآخرون.. فابن خفاجة من عائلة ميسورة الحال، تملك الأراضي الواسعة والثروات التي أغنت ابن خفاجة حتى عن العمل فتفرغ للشعر وللعلم، وحقق بذلك الإبداع ما يستحق به الخلود. ولكن رغم الاتجاه الواضح لابن خفاجة في جعل الطبيعة كائناً حياً، وجيباً يضحك ويغضب ويتكلم، إلا أن ما كان يثير مخاوفه ويجعله دائم القلق والاضطراب هي فكرة الموت.. كان الرجل يحدث نفسه إلى درجة المرض: ـ لمن تبدع يا ابن خفاجة؟ ولماذا؟ أنت غداً أو بعد غد ستغلق عينك إلى الأبد.. وستصبح مجرد ذكرى.. ستموت يا ابن خفاجة.. الموت قادم لا محالة.. أسمعت عن إنسان لم يمت.. أنت ستموت.. ستموت.. فكرة الموت سيطرت على عقله وتفكيره وحتى شعره. تقول بعض المراجع إنه كان يغادر أحياناً منزله في جزيرة شقر ويسير وحيداً ومسافات بعيدة حتى إذا صار بين جبلين وقف يصيح: ـ يا ابن خفاجة.. يا إبراهيم.. أنت ستموت.. ويردد الصدى كلماته.. ويعود هو ليكرر ما قال ويستمر على هذه الحال حتى يقع مغشياً عليه. وقد تكون هذه الحكايات مبالغاً فيها، ولكنها بدون شك تدل على أن الشاعر كان يعيش في فكرة الموت وهي فكرة رهيبة كانت من أهم المعطيات في شعر ابن خفاجة الأندلسي. يخاطب ابن خفاجة جثامين الموتى، ويطلب منها أن تغني ولكنها لا تجيب ولا تستجيب، يرفع صوته يصيح، يصرخ والصمت مطبق.. إنه الموت.. وهو سيتحول في يوم قريب إلى واحدة من تلك الأجداث. اصغ إليه وهو يصرخ في تلك الجثث: ألا صمتِ الأجداثُ غنّي فلم تجب ولم يغنِ أنِ رفعتُ لها صوتي فَيا عَجَباً لي! كَيفَ آنَسُ بالمُنى وغاية ُ ما أدركتُ منها إلى الفوتِ؟ وهل من سُرورٍ، أو أمانٍ لعاقِلٍ ومفضى عبورِ العابرينَ إلى الموتِ؟ وليس الموت وحده هو الذي كان من موصيات الشعر، بل إن المرأة أيضاً كانت من أهم الموصيات. فرغم أن الشاعر ابن خفاجة لم يتزوج إلا أنه لم يكن كأبي العلاء المعري رهين المحبسين، ولم ينعزل عن المجتمع، بل كان في شبابه يفعل كما يفعل أقرانه، مجالس الغناء ويعاقر الخمر ويتغزل بها وبساقيتها، ولكنه مع ذلك كان يميل إلى حب الطبيعة ويمزج مشاعره بينها وبين المرأة فيصف الطبيعة ببعض ملامح الجمال في المرأة ويصف المرأة ببعض ملامح الجمال في الطبيعة. فالنهر الذي يسيل الماء العذب البارد أشهر لديه من لمى المرأة الحسناء. يقول ابن خفاجة: لله نهر سال في بطحاء أشهى وروداً من لمى الحسناءِ متعطفٌ مثل السوار كأنه والزهر يكنفه مجرًّ سماءِ قد رق حتى ظُنَّ قرساً مفرغاً من فضة في بردة خضراءِ وغدت تَحف به الغصون كأنها هدب يحف بمقلة زرقاءِ والماء أسرع جريه متحدراً متلوياً كالحية الرقطاءِ والريح تعبث بالغصون وقد جَرى ذهبُ الأصيل على لجين الماءِ وكما تغزل ابن خفاجة بالنهر ووصفه بأنه أشهى من لمى الحسناء، كذلك تغزل بالمرأة فوصف شعرها بالليل، ووجنتها بالشفق مثل قوله: ورداء ليلٍ باتَ، فيه مُعانقي طيفٌ ألمّ لظبية الوعساءِ فجمعت بين رضابه وشرابهِ وشربتُ من ريقٍ ومن صهباءِ ولثمت، في ظلماء ليلة وفرةٍ شفقاً هناك لوجنة حمراءِ كان ابن خفاجة دقيقاً في اختيار ألفاظه ومعانيه إلى درجة اتهمه فيها بعض النقاد بأنه كان يتكلف في صنعة الشعر ويبحث عن المحسنات البديعية واللفظية، ويكثر من استخدام الاستعارات والكنايات والسجع والجناس والطباق وغيرها، مما جعل شعره أشبه باستعراض عضلات في البلاغة والبديعية وأبعده عن الانسيابية والتلقائية والموضوعية. وقد يكون هذا الاتهام قاسياً بحق هذا الشاعر، ولكننا بالفعل نجده في كثير من قصائده يلجأ إلى هذه الأساليب التي يشغل بها فكر القارئ ويجعله يبتعد عن المشاعر التي يريد الشاعر أن يجسدها في شعره. ولكن ابن خفاجة لم يكن دقيقاً في اختيار ألفاظ لغته الشعرية، بل كان دقيقاً في تفاصيل حياته نفسها، ويحكي أنه كان يذهب إلى بائع الفاكهة في بلدته شقر فيساومه على شراء بعض أنواع الفاكهة، فإذا اتفق معه على السعر يقول ابن خفاجة: ـ لك السعر الذي طلبته ولكن على شرط.. * وما هو يا سيدي؟ ـ أن أنتقي بيدي حبّات الفاكهة التي سأضعها في ميزانك. * موافق يا ابن خفاجة... انتق ما تشاء. وبالفعل كان يقوم بالانتقاء بدقة متناهية وبعناية فائقة وملفتة للنظر.. وقد تكون هذه الصفة في ابن خفاجة سبباً في عدم زواجه لأنه لم يجد المرأة التي يمكن أن ترضيه وتلازمه طول عمره. ولكنه عندما بلغ من العمر عتياً، وصارت الحسناوات ينظرن إليه كأب أو كعم، وهو ينظر إليهن كبنات له يدرك حجم الخسارة.. فيقول: فيا ليتني كنت ابن عشرٍ وأربعٍ فلم أدعها بنتاً ولم تدعني عمّا ولد ابن خفاجة وعاش في أيام ملوك الطوائف وإبان حكم الرابطين.. وقد أدرك بداية الانهيار العربي في الأندلس عندما رأى أغارس رذريق الإسباني، والذي كان معروفاً باسم السيد، وهو يهاجم بلنسية ويحتلها ويقيم فيها بعد أن أخضعها حتى وفاتهو ثم رأى المرابطين وهم يطردون جماعة رذريق من بلنسية ويفرضون سيطرتهم عليها ويضمونها إلى ولايتهم. ولأن دخول المرابطين إلى بلنسية وتحريرها من السيد الإسباني رذريق جاء على هوى ابن ابن خفاجة ودغدغ مشاعره القومية والدينيةو فقد قام بمدح الأمير المرابطي إبراهيم بن يوسف بن تاشفين، حيث قامت بين الشاعر والأمير صداقة متينة أثمرت ذلك المديح الذي عاش ابن خفاجة مبتعداً عنه كونه غير محتاج أن يتكسب بشعره وينتظر مكافآت الممدوحين.. ولذلك يعتبر ذلك المديح بمثابة تعبير عن شعور صديق لصديق. وقد سرّ الأمير المرابطي بذلك المديح وقام بدعوة ابن خفاجة للإقامة في المغرب فلبى الدعوة ونزل في ضيافة الأمير زمناً غير قصير أثمر عدداً من قصائد الحنين إلى الأندلس. يقول في إحدى هذه القصائد: تهاداني لذكركمُ ارتياحُ فبِتُّ، وكلُّ جانحَةٍ جَناحُ ودمعي جريةً مطرٌ توالى وجسمي هزةً غصنٌ يراحُ أإخواني، ولا إخوان صدقٍ أصافي بعدكمُ إلاّ الصفاحُ لحُسنِ الصبر دونكمُ حرانٌ وللعَبَراتِ بعدكمُ جُماحُ والآن نصل إلى القصيدة وحكايتها.. وهي من أشهر قصائد ابن خفاجة تلخص فلسفته الشعرية التي يذوب فيها بالطبيعة ويخاطبها كما يخاطب العاشق من يهوى ويحب. في ذات يوم، يخرج ابن خفاجة كعادته من بلدته المسماة جزيرة شقر في اتجاه الجبل، وعندما يصل إلى سفح يبدأ بمناداته: ـ أيها الجبل الأصم.. أتسمعني.. أنا إبراهيم بن خفاجة أنت الباقي وأنا الفاني. ويفاجأ ابن خفاجة بالجبل يردد صدى صوته ويقول: نعم.. ستموت يا إبراهيم.. وأنا الباقي بعدك. لا يقع بن خفاجة مغشياً عليه كعادته، بل يقاوم رعبه وهلعه وينظم تلك القصيدة التي سماها الجبل، ويقول فيها: وأرعن طماح الذؤابة باذخٍ يطاول أعنان السماء بغاربِ يسد مهب الريح من كل وجهة ويزحم ليلاً شهبه بالمناكبِ وقور على ظهر الفلاة كانَّه طوال الليالي مفكر في العواقبِ يلوث عليه الغيم سود عمائمٍ لها من وميض البرق حمر ذوائبِ أَصخت إليه وهو أخرس صامت فحدثني ليل السرى بالعجائبِ وقال إلى كم كنت ملجأ قاتل وموطن أواه تبتل تائبِ وكم مر بي من مدلج ومؤوب وقال بظلي من مطي وراكبِ فما كان إلا أن طوتهم يد الردى وطارت بهم ريح النوى والنوائبِ فمتى متى أبقى ويظعن صاحب أودع منه راحلا غير ايبِ وحتى متى أرعى الكواكب ساهراً فمن طالع أخرى الليالي وغاربِ شرح الكلمات: تدمِّثُ: تلينه بيدها دمث: سهل ولان وحسن خلقه البطحاء: الأرض الواسعة. اللمى: لون الشفة المائل إلى البني. يكنفه: يحيط به. الدعساء: الأرض اللينة ذات الرمل. أرعن: مرتفع. الغارب: الكاهل. الغلاة: الصحراء الواسعة. ذوائب: أطراف الشعر في مقدمة الرأس. أصخت إليه: استمعت إليه. السرى: السير ليلاً. المراجع: ـ نفح الطيب/ ابن المقري. ـ الذخيرة/ ابن بسام. ـ وفيات الأعيان/ ابن خلكان ـ لسان العرب/ ابن منظور
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©